جســـر
التعــــب
إذا أخذت تتصفح (مفكرة المهام) الصغيرة
أمامك، أو استخرجت من درج مكتبك أوراقاً عتيقة كنت قد رسمت فيها لنفسك (خططاً)
علمية ودعوية، أو حتى مهنية، سيثور مع غبار هذه الأوراق شيءٌ من الحزن وستشعر أنك
ما زلت في أدنى الوادي، بينما طموحاتك وأمنياتك وأحلامك ما زالت هي الأخرى تعانق
السحاب! وليس إلى وصلها سبيل بعد ..
فكيف إذا حرث المرء ذهنه وتذكر طموحاً
أجمل من هذه الطموحات كلها .. كطموح المرء أن يرافق محمداً r في قصور الفردوس .. فيعيش مستقبله السرمدي مع تلك الكوكبة الراقية ..
ما السبب يا ترى أن تلك الأحلام والخطط
الجميلة، ركضت فوقها السنوات بحوافرها، حتى بهت حبرها؛ ولم تتحقق بعد؟
الحقيقة أن تفسير الإخفاق، وتعثر الخطط
والطموحات، له عوامل كثيرة، دلت على بعضها النصوص الشرعية، ودلت على بعضها الخبرة
البشرية الهائلة اليوم في علوم الإدارة والتخطيط والنجاح، وخصوصاً المعرفة
الإدارية المبرهنة تجريبياً/إمبيريقياً ..
ولكن ثمة عاملٌ له في نفسي حفاوةٌ
خاصة، عامل يفسر كثيراً من فشل الطموحات والأحلام .. هذا العامل بكل اختصار: هو أن
الخطط فوق الصخور والأرجل ما زالت ناعمة ما حفيت بعد ..
ما زال في كثير من النفوس وهم مطمور
أنه يمكن أن يبلغ المرء المجد وهو لم يكابد المشاق ويلعق الصبِر ..
لقد ركّب الله في هذه الحياة أن (معالي
الأمور) التي نص عليها القرآن، كالرسوخ في العلم، وإظهار الهدى ودين الحق على
الدين كله، والتمكين في الأرض، وإصلاح الأمة، ونحوها من المطالب الكبرى لا تحصل
للمرء وهو مستكملٌ راحته وطعامه وشرابه ونومه وأوقات استرخائه .. هذه حقيقة دلّ
عليها الشرع وصرخت بها تجارب الحياة ..
إذا كان المرء ينام حتى تُجهركَ أشعة
الحمرة في عينيه، ويبسط خوان الطعام كلما اشتهى، ويخصص الأوقات الطويلة للقهوة
والشاي والعصائر والفطائر، ولا يسمح لنفسه بأن تتنازل عن أي فرصة فسحة أو مسامرات
مع أصحابه، ولا يستطيع كبح جماح تصفح الانترنت أن يسرق ساعاته، إذا كان المرء كذلك
.. ومازال يرجو أن تتحقق يوماً ما خططه العلمية والدعوية والإصلاحية؛ فمثل هذا
الشخص قد استأصل عقله، وزرع بدلاً منه مصباح علاء الدين!
معالي الأمور، والطموحات الكبرى، في
العلم والتعليم والتأليف والإصلاح والتغيير والنهضة بالأمة؛ لا تكشف وجهها لك، حتى
تمسح العرق عن جبينك بيدٍ ترتعش من العناء ..
كنت أتحدث مرةً مع أحد أقراني الناشطين
في ميدان (التربية الدعوية)، فقال لي: ما وجهة نظرك في أكبر مشكلة تهدد المحاضن
التربوية مع هذه المتغيرات والتحديات الفكرية الجديدة؟ فقلت له بقناعة تحفر أخاديدها
في عقلي: صدقني يا أبا فلان، دع عنك كل هذه الانحرافات الفكرية، فليست بشيء، أخطر
مشكلة تهدد التربية الدعوية (نقص الجدية).
في بيئةٍ يغلب عليها ضجيج اللهو وخفة
المرح وقهقهات الفكاهة .. أتُراها يمكن أن تنتج مُسنَداً أو مدونةً أو مَعْلَمةً
أو معجماً؟! منطق الحياة يأبى ذلك .. والعلم خلقه الله ثميناً لا يُجلب في الأسواق
المخفضة ..
سل من شئت من أهل العلم المبدعين،
ونقّب في السيرة الذاتية لمن يأسرك تدفقه بالعلوم .. وستجد في كل هذه الشخصيات أن
المتضرر الأكبر في حياتهم هو النوم والطعام والشراب والترفيه ..
خططنا في شواهق الجبال .. وما زالت
أقدامنا غضة طرية! بل .. ونتوهم أنه في يومٍ من الأيام ستهبط النتائج بلا مقدمات..
خذ مثلاً .. ما أكثر ما تجد عند طلاب
العلم والباحثين (مسوّدة كتاب أو مؤلَّف) لم يتجاوز تقسيم الموضوع والعناصر، وبعض
الشواهد والنصوص والملاحظات المهمة، وتسري عليه السنون، تزاور الشمس عن يمينه
وشماله .. ولم ير النور بعد، ولا أظنه سيراها .. طالما أن فضول النوم، وفضول
الطعام والشراب، وفضول الترفيه، وفضول الخلطة، وفضول الحديث والكلام، وفضول النظر؛
قد استكملت أوقاتها وأخذت نصيبها غير منقوص ..
وهكذا تجد في عزم كثير من الناس شُعَباً
من الخير والإنجاز والإنتاج .. لكنها لم تتجاوز بعد مرحلة (المشروع) ..
بل خذ أمراً من شؤون الدنيا ذاتها ..
ما أكثر ما تجد شاباً يحدث نفسه، وأهله، وأصدقاءه؛ عن عزمه على البدء بمشروع تجاري
في غضون «الأيام القادمة».. ومع ذلك تمضي السنوات وما زالت هذه «الأيام القادمة» التي يحدثك عنها لم تأت بعد! لأنه لم
يستطع التخلي عن حصص الترفيه والراحة والسهرات من برنامجه اليومي!
لما كان الإمام مسلم بن الحجاج يصنف
كتابه «الصحيح»
الذي هو أحد مفاخر هذه الأمة، وبلغ -رحمه الله- أحاديث الصلاة، وبلغ منها تحديداً
أحاديث مواقيت الصلاة، جاء لحديث عبد الله بن عمرو المشهور في تحديد أوقات الصلاة،
وكان هذا الحديث جاء بروايات متفرعة متعددة، فرتبها ترتيباً حسناً استوعب اختلاف
الطرق فيها عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو، فلما رأى رحمه الله صنيعه
هذا أراد أن يوصل رسالة لقارئ كتابه أن هذه النتيجة الحديثية التي توصل إليها في
حديث عبد الله بن عمرو لم تأت إلا بالعناء المضني، فأخرج بعدها أثراً عن الإمام
الحافظ يحي بن أبي كثير (ت129هـ) يقول فيه:
(حدثنا يحيى بن يحيى التميمي،
قال أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: «لا يستطاع العلم براحة الجسم» ) ([1]) .
وموطن العجب هاهنا أن الإمام مسلم لا
يخرج في كتابه إلا أحاديث مرفوعة عن النبي r
هذا شرطه في الكتاب من حيث الأصل، فكيف روى هذا الأثر عن إمام من صغار التابعين،
يتحدث فيه عن التعب في العلم، ووضعه بين أحاديث الصلاة؟
يقول القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه
إكمال المعلم:
(فكثيرٌ من يسأل عن ذكره هذا الخبر
فى هذا الموضع وليس منه، ولا هو من حديث النبى r
ولا من شرط الكتاب ، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلماً رحمه الله أعجبه ما ذكر فى
الباب، وعرف مقدار ما تعب فى تحصيله وجمعه من ذلك، فأدخل بينها هذا الخبر تنبيهاً
على هذا، وأنه لم يحصِّل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب فى الطلب، وهو بيِّن، والله
أعلم)
([2]) .
واضح جداً أن هذه العبارة التي قالها
الإمام يحي بن أبي كثير (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها كانت ذات وقعٍ
في نفس الإمام مسلم، وكأنه كان يستحضرها بشكل خاص، فالعبارات التي تهيج النفس على
الجلد والدأب والمثابرة في العلم كثيرة، لكنه اختار من بين هذه النصوص عبارة
الإمام يحي بن أبي كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) لأن لها في نفسه
أثراً أقرب إلى روحه كما يبدو ..
ومن تأمل في ضخامة العلم، وقصر العمر،
وكثرة متطلبات الحياة؛ أدرك حقاً أن عبارة الإمام يحي بن كثير هذه (لا يستطاع
العلم براحة الجسم) أنها: لم تخرج من طرف الذهن .. ولم تكتب بحبر الأدب ..
وإنما حُفِرت حروفها بإزميل التجارب ..
ما أكثر ما رأيتُ عالماً شاباً بزّ أقرانه
يتدفق بالأسانيد والمسائل .. أو رأيت عملاً علمياً رصيناً صار أصلاً في بابه ..
إلا قلت في نفسي: رحم الله يحي بن أبي كثير حين قال: (لا يستطاع العلم براحة
الجسم).
وهذا التعب الذي يجب تحمله ومكابدته لا
يختص بمطلب دون مطلب، بل هو عام في (الكمالات الإنسانية) كلها، كما يقول ابن القيم:
(الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من
التعب) ([3]) .
وأعظم المتعبين ثمرةً أولئك الذين
أنفقوا تعبهم باتجاه المستقبل الأبدي، وقد قال ابن القيم رحمه الله: (هيهات! ما
وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر
التعب) ([4]) .
ومن المهم أن يلاحظ المرء (حكمة الله)
في هذه العلاقة بين (التعب والإنجاز) كما أشار لذلك ابن القيم حين شرح مسائل القدر
الكوني وحكمة الله فيه فقال:
(يوضحه الوجه الحادي والعشرون: أنه
قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر
المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق) ([5]) .
وهذه العلاقة بين (التعب والإنجاز)
ليست معنى شرعياً يختص بالأمم التي بلغها الوحي، بل هو معنى تستنتجه العقول فور
معاركتها الحياة .. وأول من رأيته نبّه على تواطؤ الثقافات على هذا المعنى بعبارة
بديعة جداً، الإمام الحافظ الزاهد أبو إسحاق إبراهيم الحربي (285هـ)، صاحب الكتاب
المشهور تاريخياً عن (غريب الحديث)، وهو من تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل، حيث نقل
عنه ابن تيمية عبارة تهز النفوس مما فيها من البلاغة وهيبة المعنى، حيث يقول ابن
تيمية: (قال إبراهيم الحربي: «أجمع
عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم»)([6]) .
وهذه العبارة التي حكاها ابن تيمية،
رواها الخطيب البغدادي في تاريخه عن إبراهيم الحربي بصيغة مختلفة قليلاً، وتحدث
فيها إبراهيم الحربي بأمور عن نفسه في غاية العجب، ليس في كونه يتحمل المشاقّ فقط،
بل في معنى أدق، وهو كونه لا يأبه بها ولا يلتفت إليها، حيث جاء في تاريخ الخطيب
قول الحافظ إبراهيم الحربي رحمه الله :
(أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجرِ
مع القدر لم يتهنّأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت
نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبي مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما وأدور
بغداد كلها، هذا الجانب وذلك الجانب، لا أحدث نفسي أني أصلحها، وما شكوت إلى أمي،
ولا إلى أختي، ولا إلي امرأتي، ولا إلي بناتي قط: حُمّى وجدتها، الرجل هو الذي
يدخل غمّه على نفسه، ولا يَغُمّ عياله، كان بي شقيقة خمساً وأربعين سنة ما أخبرت
بها أحداً قط، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي
أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة الثانية) ([7]) .
وبكل صراحة فإن مثل هذا النمط من
الاشتغال بالمطالب العالية والإعراض التام عن الالتفات للمشاق والاكتراث بالتعب؛
نمط استثنائي لا أظن يطيقه إلا النوادر في التاريخ ..
وهذه العبارة للحافظ إبراهيم الحربي رحمه
الله شاع معناها في من جاء بعده من أهل العلم، فتتابعوا على تأكيد تجريبية وعقلانية
هذا المعنى، وتداوله بين الأمم، حتى قال ابن القيم في تأثر واضح بعبارة إبراهيم
الحربي: (العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها،
وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك؛ كان أحسن حالاً وأرفع قدرًا) ([8]) .
إذا كنت في مسجد حيِّكم القريب، تدور بين
سواريه خالياً تتحفظ متناً من متون العلم .. أو كنتَ في ركن قصي من مكتبتك الشخصية
والمراجعُ منشورةٌ بين يديك، مطويةٌ زواياها، وقد غصصت في منتصف البحث .. أو كنت
واقفاً في مهمة دعوية تراوح بين قدميك .. ثم داهمك النعاس، أو تلقيت رسالة من بعض أصدقائك
يعرض عليك مشروع نزهة؛ فما أكثر ما ترى المرء في مثل هذه الحالة يضعُف ويتخلخل
تركيزه وتحدِّثُه نفسه بالراحة .. لكن بالله عليك تذكّر قول إبراهيم الحربي: (أجمع
عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم) وسترى كيف تتراقص همتك مجدداً وتقبل
على شأنك، وترمي وساوس الراحة وراء ظهرك ..
ولا يقتصر التعب والجهد في الوصول إلى
أعلى مطلب وهو الجنة والسلامة من النار، أو المطالب الشريفة كالعلم والإيمان
وإطعام المساكين والإصلاح المجتمعي، بل حتى اللذائذ الدنيوية التي يطلبها الناس
كالمال والصيت والمنصب الخ، فإنها أيضاً تتطلب العبور على جسر التعب، كما قال ابن
تيمية: (لذات الدنيا لا تُنال غالباً إلا بنوع من التعب) ([9]) .
والحقيقة أن من أعظم ما يعين النفس على
تحمل هذا التعب الذي تتطلبه المعالي؛ أن يستحضر المرء الثمرة، وأن يستدعي في ذهنه
حسن العاقبة، فإن الجدوى والمكتسب تهوّن على النفس تحمل المشاق والتعب، كما يقول
ابن الجوزي في استعارة مكثفة: (تلمّح فجر الأجر يهُن ظلام التكليف) ([10]) .
حسناً .. هذه العلاقة بين (التعب
والنجاح)، هل جاءت الإشارة إليها في القرآن والسنة النبوية؟
نعم، جاءت إشارات كثيرة لهذه العلاقة،
من أهمها ذلك التصوير النبوي الأخاذ إذ قال r
في جملة مكثفة بيانية جميلة: (حُفّت الجنة بالمكاره) ([11]) .
فالجنة لا يوصل إليها إلا بمكابدة ما
تكرهه النفوس من ترك الهوى والشهوات..
وفي تصوير نبوي آخر في غاية الجمال
الأدبي رسم النبي r
مشهد المؤمن وهو يتحمل الكلفة والجهد بقوله: (الدنيا سجن المؤمن) ([12]) .
وإذا قارنت بين تصوير القرآن لأهل
الجنة، وتصوير القرآن لأهل النار؛ تلاحظ كيف يذكر القرآن أن أهل الجنة ازدحموا فوق
جسور التعب في الدنيا، وأهل النار استرسلوا مع الراحة والنزوة ..
تأمل - مثلاً - كيف يذكر الله تقليل
أهل الجنة لنومهم في الدنيا وسهرهم في عبادة الله، كما قال الله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ
ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾
[الذاريات:16-17].
وقول الله عن قلة نوم سادات الصحابة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ
أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل:20]
وقول الله لنبيه: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا﴾
[المزمل:2].
بالله عليك أعد تأمل هذه الآيات ﴿قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ﴾ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا﴾
ونحوها،
وقارن ذلك بوسائدنا التي تقوست من نوم الليل والنهار ..
إنها المعالي تحتاج المكابدة ..
وفي مقابل أهل الجنة، قارن نمط معيشة
أهل النار لما كانوا في الدنيا وكيف يصورها القرآن؟ يقول الله عن أهل الشمال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ
ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة:45].
ولذلك فإن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة
استقبلتهم الملائكة بالتهاني والترحيب بألفاظ تشير إلى هذا المعنى كما قال الله:
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾
[الرعد:23-24].
فلاحظ كيف جعلت الملائكة العبارة
الترحيبية «بما صبرتم»
بما يشير لأمور تخالف الراحة حملوا أنفسهم عليها ..
ومن أعظم مصادر معرفة هذه المعنى تدبر
أخبار وقصص الأنبياء في القرآن، وما عانوه مع أممهم، انظر - مثلاً - كيف لبث نوح
في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكيف كان يستثمر كل الأوقات الممكنة في دعوتهم
كقول نوح u:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [سورة
نوح:5].
وقوله أيضاً: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [سورة
نوح:8-9].
وفوق هؤلاء كلهم العناء والأهوال التي
كابدها سيد ولد آدم محمد r
حتى مكّن الله له، ولخص ابن القيم جزءاً من المشهد بقوله: (وكما دخل رسول r
إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر
العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه .. ، وبالجملة: فالغايات الحميدة فى
خبايا الأسباب المكروهة الشاقة) ([13]) .
وبسبب تجريبية وعقلانية هذا المعنى،
وكون الناس يدركونه من مجالدة كبَد الدنيا، فقد تنافس الشعراء في تجسيد هذا المعنى
في أبيات سائرة، ومن ذلك قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 231هـ) في قصيدته الشهيرة في فتح عمورية:
(بَصُرت
بالراحة الكبرى فلم ترها
|
تُنال إلا على جسر من التعبِ) ([14])
|
بل
إن أبا تمام قابل مقابلة بديعة بين نوعين من النوم، لا يحصل أحدهما إلا بهجر
الآخر! كما قال:
(ولم تُعطِـنــي الأيام نوماً مُسكّنــاً
|
أَلَـــذُّ به؛ إلا بــــنـــوم مــــشــــرّد) ([15])
|
فحتى
النوم الهانئ لا يحصل للمرء إلا بساعات أخرى يعاني فيها هجر النوم! وأقرب صورةٍ
لهذا الذي ذكره أبو تمام هي صورة (النوم بعد الإنجاز) فإن له مذاقاً لا يعدله نوم
البطالة العمر كله ..
ثم جاء المتنبي (ت354هـ) بعد أبي تمام،
ونحت هذا المعنى في صورٍ متعددة في منتهى البراعة الأدبية، حيث أشار المتنبي أن
هذه المشاقّ وألوان التعب والعناء هي التي أصلاً صنعت الفروق بين الناس في المجد
والمعالي، وإلا لاستووا، كما يقول المتنبي:
(لولا
الــمشـــقة ســاد النــاس كلـــهــــم
|
الجــــود يُــفــقـــِر، والإقــــدام قـــتّـــالُ) ([16])
|
وأقام
المتنبي في بيت من عيون الشعر علاقة عكسٍ وتضاد بين النفس والبدن، وأن النفس إذا
كانت همتها عالية أتعبت البدن، وإذا انخفضت الهمة ارتاح البدن!، كما يقول المتنبي:
(وإذا كــانـــت النـــفــوس كــــبــــاراً
|
تـــعــــبـــــت فـــي مُــــرادهــــا الأجســــامُ) ([17])
|
وفي
بيت آخر نسج المتنبي هذا المعنى بتشبيه أخاذ، وهو أنه برغم أن النحل يدافع عن
بيوته بلسع من يقترب منه فإن الناس تغامر لتجني العسل وتتمتع بحلاوته، وهكذا
طموحات الحياة، كما يقول المتنبي:
(تريــدين
لقــيـــان المــعـــالي رخــيــصــــة
|
ولا بد دون الشهد من إبر النحل) ([18])
|
وشواهد
هذا العلاقة بين (التعب والنجاح) لا يمكن حصرها، في النصوص الشرعية والأدبية، وفي
ثقافات الأمم الأخرى، ولكن تبقّى فقط احتراز من لبس في الفهم قد يقع لبعض الناس،
أو قد يتساءل عنه البعض، وهو: هل هذا يعني أن الإنسان يبحث عن التعب والنصب؟ أليس
هذا يخالف تيسير الإسلام وأن المشقة تجلب التيسير؟
وهذا سؤال مهم، ولكشف مكمن الإشكال فيه
يجب التمييز بين مستويين للمشقة دلت عليهما النصوص: أولهما (المشقة المعتادة
التبعية) والثاني (المشقة المقصودة بالأصالة).
فأما المشقة المعتادة التبعية، أي التي
تكون تابعة للعبادة، ولازمة لها، ولا يمكن التخلص منها؛ فهذه يحمد للإنسان أن
يتحملها ويجاهد نفسه عليها، ويكون الأجر على قدر مصلحة العبادة ومنفعتها.
وأما المشقة المقصودة بالأصالة، فهي
مشقة منفصلة عن العبادة، يتكلف الإنسان وجودها، ويستدعيها، فليست في مصلحة العمل
ولا منفعته، وهي مشقة خارجية عن أصل العبادة، فهي قدر زائد، فهذه مشقة مذمومة لا
يحمد للمرء أن يستدعيها ويتكلفها.
وقد دلت على هذا التقسيم النصوص،
فـ(المشقة المعتادة التبعية) المحمود تحملها كقوله r
لعائشة في العمرة: (أجرك على قدر نصبك) ([19]) . فنص النبي على
ربط الأجر بحجم التعب الذي يكون في مصلحة العبادة ومنفعتها.
وذكر الله الأجر على «التعب والجوع والعطش»، ثلاثتها في قوله تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ
وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة:120].
بل حتى تعب تلاوة القرآن الذي يحصل لمن
يعانون صعوبات لغوية له أجر خاص، كما قال r:
(والذى يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران) ([20]) .
وأما التعب والنصب الذي يتكلفه الإنسان
ويستدعيه، وليس في مصلحة العبادة ومنفعتها، فيكون قدراً زائداً على ما تحتاجه
العبادة؛ فهذا مذموم، وجاءت فيه نصوص، ومن ذلك أن النبي r
(رأى شيخاً يُهادى بين ابنيه، فقال: «ما
بال هذا؟» قالوا: نذر أن
يمشي، قال: «إن الله عن
تعذيب هذا نفسه لغني» ،
وأمره أن يركب) ([21]) .
فهذه مشقة يتكلفها المرء، وليست تابعةً
للعبادة، أو لازمة لها، فهي غير محمودة.
ومثل هذا حديث عروة بن مضرس المشهور،
وهو من أصول المناسك، وفيه أنه قال:
(أتيت رسول الله r
بالموقف، يعني بجمع، قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيء، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي،
والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله r: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات،
قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه»)([22]) .
فإذا ضم الباحث جواب رسول الله r لعروة بن مضرس، إلى جواب رسول الله لعائشة؛ استبان له أن النصب والتعب
المحمود ما كان معتاداً تابعاً للعبادة لازماً لها، دون ماكان خارجاً عنها
متكلفاً.
وقد نبّه كثير من أهل العلم على هذا
التمييز، كما قال أبو العباس ابن تيمية:
(فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر
المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصودٌ من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم
للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رُفِعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا
فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا قد تكون المشقة مطلوبة
منهم) ([23]) .
وهذا التمييز بين مستويات المشقة هو
تنبيه احترازي فقط لدفع لبس محتمل، وليس من أصل موضوعنا، وإنما أصل الموضوع أنني
صرت أرى في نفسي، وفي كثير من إخواني من حولي؛ أننا نفكر ونخطط لأحلام وأمنيات
وطموحات كبرى في العلم والدعوة والإصلاح والنهضة بالأمة، ولكن الحال التي نعيشها
وما فيها من الرفاه واستكمال الراحة، وفضول النوم، وفضول الحديث والكلام، وفضول
الطعام والشراب، وفضول الترفيه، لا تتناسق مع هذه الطموحات الكبرى، وأخشى إن لم
نبادر عاجلاً بالصعود إلى جسر التعب أن نصطدم يوماً بتصرم العمر دون تحقق شيء من
تلك الطموحات، وما أقسى خيبة نهاية النفق ..
اللهم ارحم الإمام يحي بن أبي كثير إذ
قال: (لا يستطاع العلم براحة الجسم).
وارحم يا الله إبراهيم الحربي إذ قال:
(أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم).
مأزق
المترقِّب
واضعاً يده على ذقنه يتفرج باهتمام
بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه ..
هو يعرف أسماءها جيداً .. وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه
المشروعات .. بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم .. وبحوزته أيضاً رقم الهاتف الخاص
لبعضهم .. كما أن أحدهم دعاه يوماً لمجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين .. بل هو لا يزال
يتذكر أنه أرسل لبعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه.. لكنه إلى الآن ليس
جزءاً من أي مشروع .. ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفاً في
جهازه المحمول ..
هذه أزمة الإنسان المترقب .. الذي
تململت من جلوسه مدرّجات المتفرجين.. ومازال متفرِّجاً..
الإنسان المترقب قد يكون يهرول في ميعة
العمر، ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة .. ينفث الدقائق والساعات كما ينفث
المدخّن صحته في الهواء غير مكترث ..
الإنسان المترقب حدث تحول مهم في
حياته، كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات
الإلكترونية، ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل، هذا كل ما في الأمر ..
الإنسان المترقب قد يكون في المسجد
يراجع حفظاً أو يذكر الله .. فتنسلّ يده لجواله وينقر أيقونة شبكات التواصل ..
ويخرج من المسجد وهو فيه .. أتى إلى المسجد لتغتذي روحه العطشى لذكر الله .. لكنه
دخل المحراب بجسده ثم قذف بروحه في العراء خارج الأسوار ..
هل هذا يعني أن الإنسان المترقب هو
كائن معزول الإحساس بالزمن؟ هل المترقب عديم الأحلام والطموحات؟ لا، بل هو يتحرّق
كثيراً ويتمنى أن يصنع شيئاً لنفسه وللآخرين، ولكنه واقف كالمشلول .. لماذا؟
المترقب ذاته لا يدري ..
حين يكون المترقّب في مجلس ذكر عن قيام
الليل تشتعل همته للمناجاة في هزيع السحر، وحين يكون المترقب يستمع لدرس عن فضل
العلم ومناقب المعرفة يكاد يمضغ ذاته حماسةً ويتخيل نفسه قد حبس عليه غرفته بين
أرفف مكتبته .. لكن ما إن يتجاوز لهيب الحماسة حتى يتبدد كل شيء ويعود لذات
برنامجه اليومي في التفرج على المنتجين ..
لدى المترقب مشكلة يمكن تسميتها مشكلة «ترحيل المهام»
فحين كان المترقب في المرحلة الثانوية كان يحدّث نفسه بأنه إذا انتقل للجامعة وصار
له استقلال وحرية أكبر فسيبدأ مشروعات علمية وعملية .. ولما بدأ الدراسة الجامعية
صار يقول لنفسه متى ينتهي ضغط المذكرات والبحوث وتحضير المحاضرات والاختبارات
وتبدأ مرحلة المهنة وأتفرغ لمشروعاتي العلمية والعملية؟! وهو يقولها صادقاً، ولما
بدأت مرحلة المهنة أصبح يقول لنفسه: بعدما أنتهي من هم الزواج والمسكن والاستقرار
المادي سأبدأ بإذن الله تنفيذ خططي وأحلامي العلمية والعملية، ثم انخرَط في
مسؤوليات الأسرة والأبناء ومتطلبات المهنة، حتى طوّح به العمر خارج الموسم الذهبي
للإنتاج، وصار يقول لنفسه ذهب وقت التحصيل والبناء «وهل
يصلح العطّار ما أفسد الدهر» ..
وهكذا أحرق المترقّب عمره عبر آلية «ترحيل
المهام» ..
يشتكي البعض ويقول أن شبكات التواصل أو
تصفح الإنترنت جذّاب ويشغلني عن مشروعات علمية كثيرة، ربما يكون هذا الكلام يتضمن
توصيفاً دقيقاً للمشكلة، ولكن لي رأي آخر، رأيي أن كثيراً من الملهيات عن العلم
والعمل ليست جذابة أصلاً، وإنما هي في حقيقتها وسيلة «هروب
نفسي» عن المهام الواجبة .. ألا ترى أنك
أيام الاختبارات تدع المذكرات وتقرأ بعض الكتب التي كنت منشغلاً عنها خارج
الاختبارات؟ ألا ترى أنك إذا بدأت بكتاب في علم معين، صارت نفسك تحدثك بمطالعة
كتاب في علم آخر لم تكن لتطالعه قبل ذلك؟
صحيح أن حالة التفرج والترقب هذه فيروس
خطر يهدد حياة كل واحد منا، لكن الشاب الذي يعيش المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي
هي في حقه أفظع وأكثر خطورة، فقد أصبح كالمزارع الذي نام على البذور حتى فات
الموسم .. فالمرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي مرحلة الذروة في قوة الملكات .. وأي
غبن أن تبدأ المعركة بعد أن تخور قواك ..
ومن تأمل الليل والنهار الذي نعيش فيه،
وكيف نتقلب في أيامه، ثم رأى قسم الله سبحانه بهذا الزمن ﴿وَالْعَصْرِ﴾
امتلأ قلبه بإدراك شرف «الزمن» .. وأنه في كل ثانية ودقيقة وساعة
ينفق من (رصيد زمني) منحه الله إياه وكتبه الملك حين كان جنيناً عمره أربعة أشهر ..
لا شيء ساكن في حياتك .. أنت في كل لحظة تنفق من رصيدك الزمني .. فإما أن تشتري به
علماً وعملاً رابحاً .. أو يذهب في الترقب والتفرج في صفقة خاسرة ..
وأزمة الخسارة والغبن في استثمار هذا
الرصيد الزمني هو الذي أشار له الحديث الذي رواه البخاري عن النبي r
أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) ([24]) .
ويبدو أن هذه الأزمة، أعني أزمة الترقب
والتفرج قريبة من (الحالة السبهللية) التي وصفها الفاروق عمر بن الخطاب في الأثر
المروي عنه (إني أكره الرجل يمشي سبهللاً، لا في أمر الدنيا، ولا في أمر الآخرة) ([25]) .
وجاء هذا المعنى في كتب الأثر مسنداً
عن ابن مسعود t حيث يقول: (إني لأمقت الرجل أن أراه فارغاً، ليس في شيء من عمل
الدنيا ولا عمل الآخرة) ([26]) .
وهناك منظومة في الآداب مشهورة لابن
عبد القوي رحمه الله، نظم فيها المقنع لابن قدامة كاملاً في زهاء اثني عشر ألف
بيت، وقد جمع ابن عبد القوي فيها في بيت واحد حديث البخاري وأثر عمر المشهور، حيث
قال رحمه الله:
ولا يـذهـبـنّ العـمـر منـك سـبـهـلـلا
|
ولا تغـبنـنّ في النــعـمـتـيـن، بـل اجـهـدِ ([27])
|
ومن
أكبر عوامل «الحالة السبهللية» هي ما يمكن تسميته مشكلة «التقطع
والترحل» في أنصاف
المشروعات .. وهذا أمرٌ قد نبّهت عليه المدونات المشهورة في أدب الطلب، ومن ذلك
قول بدر الدين ابن جماعة (ت733ه): (وكذلك يحذر من التنقّل من كتاب إلى كتاب من
غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح) ([28]) .
ولعلك تتذكر أن العلامة ابن عثيمين
يمثل مشروعاً فقهياً مكتملاً .. فبالله عليك لاحظ كيف يشرح فكرة نبعت من خبرته
الطويلة حيث يقول في كتابه الذي جمعه من خطبه وسماه الضياء اللامع:
(وإن من الحكمة أن من ابتدأ بعمل
وارتاح له فليستمر عليه، فمن بورك له في شيء فليلزمه، وبعض الناس يبدأ الأعمال ولا
يتممها، فيمضي عليه الوقت سبهللاً من غير فائدة، فمثلا يقرأ في هذا الكتاب أو في
هذا الفن، ثم يدعه من غير أن يكمله، وينتقل إلى غيره، ثم إلى آخر، من غير تكميل
الأول، فيضيع عمله وينقضي عمره بلا فائدة، وكذلك في الأعمال الأخرى كل يوم له عمل،
وكل يوم له رأي، فيضيع الوقت عليه من غير فائدة).
هذه حكمة عصرتها الخبرة يشرحها فقيه
حدد هدفاً علمياً رفيعاً وبلغه فعلاً .. وليست نظرية يتاجر بها منتسب لعلم النجاح
في قاعات الفنادق ..
ومن الظواهر المثيرة للغرابة فعلاً، أن
أزمة المترقب لم تعد مقتصرة على إحراق الوقت في متابعة الجدليات والمناقضات عبر
شبكات التواصل، بل أصبحت مثل هذه المماحكات التويترية مادةً للحديث في بعض مجالس
الأخيار، رد فلان على فلان بتغريدة قوية، وتفكّه فلان على فلان بتغريدة مضحكة،
وقصف فلان جبهة فلان، وهكذا، يا ضيعة الأعمار .. ويا سقى الله أياماً كان المجلس
فيها نقاشاً عن ترجيحات ابن تيمية ومسلكيات ابن القيم ومنهج المتقدمين في الحديث ونوازل
المعاملات وأخبار القوم من سير النبلاء ..
حدثت نتوءات في لاوعي المترقب، وبثور
في ذوقه، وترهل قدراته الذهنية؛ تزامنت مع متغيرات نظم الاتصالات الحديثة .. ففي
بداية فتوّة المترقب كان يحضر بعض الدروس المتخصصة ويقرأ بعض الكتب الراقية في
لغتها ومحتواها .. وبعد أن لبس المترقب نظارة شبكات التواصل، وأدمنها، كثرت تبعاً
لذلك قراءته للتلفظات السوقية والمخاشنات الحوارية .. حتى تدهور ذوقه وتخلخلت تلك
الروح الجمالية التي كانت تلهمه في النظر لذاته ولمن حوله، واستسهل من النابيات ما
كان يشمئز منه ..
وكثير من الناس يظن التأثر هو بمدى
القناعة بالمقروء من عدمه، وهذا غير دقيق، فنمط المادة المقروءة ونوعها إذا كثر
يؤثر في القارئ دون أن يشعر حتى لو لم يكن مقتنعاً بها، لأن غذاء العقل النافع
يزاحمه الغذاء الفاسد، ولذلك قال أبو العباس ابن تيمية:
(ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام
حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة، وتجشُّم، فالعبد
إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه به،
بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له
ومنفعته به، ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، ومن أدمن على أخذ
الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه
ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم ؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه
ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير) ([29]) .
وكما كانوا يقولون للمسافر للخارج: «احذر المرأة الأولى والكأس الأول»، فما أقرب أن يقال للمنخرط في شبكات
التواصل: «احذر الشتيمة الأولى»، ولقد رأيت إخواناً لي كانوا من أبعد
الناس وأكثرهم نفوراً عن الردود الفجة والكلمات النابية، ثم مع كثرة تعرضهم
لمناقشين غير راقين، تساهلوا مرة في رد خشن، ثم تبعها أمثالها، وذهب الحاجز بينهم
وبين هذه الأساليب، وصرت إذا ناقشته في أسلوبه الجديد قال لي: «هناك أناس لا يفهمون إلا هذه اللغة».
فانظر كيف وقع في سلوك جديد شرعنه لنفسه لم يكن ليقع فيه مسبقاً بسبب كثرة جلوسه
في طرقات شبكات التواصل وتعرضه المستمر لتدفق ردود بمستوى هابط ..
وهكذا القدرات الذهنية فهي ليست شيئاً
مختلفاً كلياً عن القدرات البدنية، بل كثير من القوانين التي تجري على القدرات
البدنية تجري ذاتها على القدرات الذهنية، ومنها قانون (اللياقة)، فعضلات الجسم
تترهل وتضمر إذا لم يمارس الإنسان التمارين البدنية، وهكذا القدرات الذهنية تضمر
وتضعف إذا لم يمارس العقل المران الذهني العميق، ولذلك كان لفظ الرياضة في التراث
الإسلامي يشمل ثلاثة مستويات: البدن والذهن والنفس، كما يقول ابن تيمية : (لفظ
الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: «رياضة
الأبدان» بالحركة والمشي، و«رياضة النفوس» بالأخلاق الحسنة، و«رياضة الأذهان» بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور
الغامضة) ([30]) .
وكانت رياضة الذهن وتمرينه وبناء
القدرات العقلية مسألة حاضرة لدى المتقدمين من السلف كما قال ابن تيمية: (كان
كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة
وعويص الفرائض والوصايا والدور: لشحذ الذهن) ([31]).
والمراد أنه إذا طال فراق المترقّب
للكتب والبحوث الدقيقة وتوليد المفاهيم وتمحيص الاستدلالات وحل الإيرادات، وصار
زاده المعرفي تغريدات أفقية، وطالت هذه الحال، ضمرت قدراته الذهنية، بل يتطور
الأمر إلى حالة أخطر، وهو كونه ينفر من المسائل العلمية الدقيقة وينفد وقود
احتماله وطاقة التركيز لديه، ويصبح عقله يعمل بنظام الوجبات السريعة ..
أخي المترقّب .. أنا ناصح لك، وأحب
الخير لك، صدقني أنت تحتاج التوقف سريعاً وتغيير نمط حياتك، وأسأل الله أن نرى
منتجاتك العلمية والعملية قريباً، والله يسددك.
إلباس العجز
جبّة الحكمة
من أعظم المواضع التي حارت فيها عقول
كثير من المنتسبين للعلم والدعوة والحسبة والجهاد، ووقع فيها الاضطراب، باب
(العلاقة بين شعب الإيمان) . .
حيث خلق الله النفوس متفاوتة في الاستعدادات
والملكات والقدرات والقوى والفروق الفردية، ثم أنزل الله وحياً فتح فيه أبواباً
إلى الخيرات، حتى جعل الله للجنة أبواباً، ورسم كل باب منها بشعبة من شعب الإيمان،
كما خرّج البخاري في صحيحه من حديث ابي هريرة أن النبي r
قال: (فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من
باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي
من باب الصدقة) ([32]) .
وتنافس أهل الإسلام في تعديد شعب
الإيمان، فصنفوا فيه وأوعبوا، حتى بلغ كتاب البيهقي في شعب الإيمان بضع عشرة
مجلداً، والبيهقي تشكَّل وعيه العلمي في عصر الموسوعات الكبرى، وهذا كان مزاج
العصر في التأليف، المبني على الاستيعاب والاستقصاء والشمول . .
وبسبب هذا التفاوت بين غزارة شعب
الإيمان، ومحدودية القدرات البشرية وقصر العمر، ينشأ في النفوس التجاذب والتوتر ..
فتجد كثيراً من الناس في لحظات الفتوة العلمية واليفاعة الدعوية: «فلكيّ الطموحات» .. يتحامل على نفسه أن يصافح النجوم
وهو في أسفل الوادي .. كلما سمع اسم عِلْمٍ هفت نفسه إليه، وكلما نبا إليه .. وكلما
نبا إليه خبر ثغر دعوي تخيل نفسه يطير إليه .. ثم لا تلبث ارتطامات الواقع وكدمات
تعثر المشروعات أن تحفر أخاديد الإحباط في أحلامه .. ويرى بنفسه ملف الآمال تتساقط
أوراقه ورقة ورقة أمام عينيه. وتتنوع استجابات الناس لهذا السيناريو المتكرر في
حياة الكثرين، ولكن من أسوأ الاستجابات الشائعة استجابة يمكن تسميتها: (إلباس
العجز جبّة الحكمة) . .
ودعنا نستعرض بعض نماذج هذه الاستجابة:
فمن ذلك أن من أعظم شعب العلم (حفظ
العلم في الصدور) كما قال ربنا: ﴿بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي
صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت:49]،
ولو لم يكن في فضل حفظ العلم إلا بركة دعاء سيدي رسول الله r
لكفى: (نضّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه) ([33]) . .
بل تمعن في استفسار رسول الله r
- كما في الصحيحين- حين قال لأحد شباب الصحابة: (ماذا معك من القرآن؟) فقال
الشاب: (معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا ..) وأخذ يعدّد سوراً، ثم أعاد
النبي r السؤال بتدقيق أكثر يكشف منزلة
الحفظ في نفس رسول الله r حيث
قال له النبي r : (أتقرؤهن عن ظهر قلب؟)،
فقال الشاب: نعم، فقال النبي r : (انطلق
فقد زوجتكها فعلمها من القرآن) ([34])،
فمفهوم (القراءة عن ظهر قلب) الذي يؤكد عليه رسول الله r
هاهنا يسكب اليقين في النفس حول شرف حفظ العلم . .
وكل طلاب العلم بلا استثناء يبدؤون
حياتهم العلمية بمشروعات الحفظ، ولكن إمكانيات الحفظ والضبط تتفاوت، فقد رأينا
أشخاصاً يحفظون في نصف ساعة ما يستذكرونه بعد شهرين، ورأينا أشخاصاً يحفظون بعد
العصر ما يضطربون في تلاوته قبيل العشاء!
فبعضهم إذا لم يستطع حفظ العلم لا
يعترف لنفسه بالعجز ويجتهد في تحفيز إخوانه ممن يستطيع ذلك، بل تراه يخذّل إخوانه
عن حفظ العلم، ويبتكر ألوان الملامز في المشتغلين بحفظ العلم، برغم أنه هو ذاته،
هو ذاته لا غيره، يضمر في نفسه رهبة أمام حفاظ العلم، وذهولاً منهم إذا بدؤوا في
سرد محفوظاتهم، وكم رأينا من أشخاص يذمون حفظ العلم أمام أقرانهم، ثم إذا أرادوا
الثناء على من يوافق هواهم قالوا: هو «يحفظ
كذا وكذا»، فيذمون حفظ العلم في باب التنظير،
وينسون تنظيرهم في ساحة النزال والمباهاة ..
بل ويخترع بعضهم متضادات ليست أضداداً
أصلاً، كتضديدهم بين الحفظ والفهم، وهل رأيت أحداً أصلاً يقول: (أوصيك أن تحفظ ولا
تفهم!)، بل كل من يقول احفظ يقول لك: افهم، ولكن المصيبة في من يقول: (افهم ولا
تحفظ!) وأي شيء يضيرك أن تكون صادقاً مع نفسك، وناصحاً لفتيان يستمعون إليك، فتقول
لهم: يا إخواني استثمروا أعماركم قدر استطاعتكم بالفهم والحفظ، كليهما.
ومن أسباب سوء الفهم في مسألة (حفظ
العلم) أن كثيراً من الناس إذا ذكر لهم حفظ العلم انصرفت أذهانهم إلى (حفظ
المتون) المقررة المعروفة، والواقع أن حفظ المتون هو «جزء»
جليل من حفظ العلم، ولكنه ليس هو حفظ العلم بـ«المطابقة»، فحفظ العلم أوسع من ذلك كثيراً، حيث
يدخل في حفظ العلم: حفظ ألفاظ القرآن والحديث، وأسماء الأعلام ووفياتهم ومعاني
اللغة والتعريفات وأشهر الأقوال في المسألة والتسلسل التاريخي للمذاهب والبدع
ومواطن المسائل ومظانها وحفظ الموضوعات التي تعرض لها كل كتاب مهم في بابه .. إلخ.
بما يعني أن كل عناصر العلم هي من
أبواب حفظ العلم، وكلما حفظ طالب العلم قدراً أكبر من المعلومات زادت إمكانياته.
وقد كان السلف في القرون المفضلة قبل نشوء المتون المقررة المعروفة منهمكين في حفظ
العلم ويحفظون ألفاظ النصوص وآثار الصحابة والأسانيد وأحوال الرواة ولغة العرب
وشواهدها ونحوها من المعلومات. والمراد أن حفظ العلم أوسع من حفظ المتون، وأن حفظ
المتون جزء جليل من حفظ العلم.
ومن أسباب سوء الفهم -أيضاً- في مسألة
(حفظ العلم) ظنُّ الكثيرين أن حفظ العلم بتكرار لفظه، بتعيين مقطع وتكراره، وهذا
صحيح جزئياً، فتكرار اللفظ المعين طريق عملي فعّال لحفظ العلم، لكنه ليس هو الطريق
الوحيد، بل الصحيح أن كل وسائل «معاناة
العلم» بإدمان النظر فيه وتقليبه، وتأمله
وتدبره: بالشرح والتلخيص والتعليم والتحقيق والتحرير والمدارسة والمباحثة والفتيا
.. الخ . كلها من وسائل حفظ العلم ورسوخه في الذهن.
ومعاناة العلم تثمر الخبرة به،
ولذلك ترى الإمام ابن تيمية يستعمل مصطلح الخبرة في تقييم العلم كثيراً،
كقوله من له خبرة بالسنة علم كذا، أو من له خبرة بنصوص أحمد، أو
فلان لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة، وهكذا، فالخبرة فيها قدر زائد
على مجرد العلم المحض، وهي الناتجة عن معاناة العلم وتقليبه وإدمان النظر فيه وتفحصه
وتمعنه ..
وهذه القضايا، حول مفهوم حفظ العلم
ووسائل حفظ العلم؛ ليس هذا موضع بسطها، ولها إن شاء الله موضع آخر، وإنما المراد
التنبيه عرضاً على وهم يرد للبعض.
ومن شعب العلم (التبحر) وسعة
الاطلاع وجرد المطولات وثراء المقروءات، وجندلة الكتب واحداً تلو الآخر، وسعة
الاطلاع تفتح باب التشعب في العلم، ولذلك قال ابن عبد الهادي عن شيخه البحر ابن
تيمية: (لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، وقلّ أن يدخل في
علم من العلوم، في باب من أبوابه؛ إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب) ([35]) .
وقال ابن كثير عن صاحبه ابن القيم: (وكنت
من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه ..،
واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْره، من كتب السلف والخلف) ([36]) .
ووفرة المصادر تتيح لمن يروم الكتابة
والتأليف النقول التي يحتاجها، ويظهر أثر ذلك في كتابه، كما قال ابن حجر عن
الأذرعي: (وجمع الكتب حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصل عند غيره، وظفر من النقول
ما لم يحصل لأهل عصره، وذلك بيّن في تصانيفه) ([37])
.
وتحقيق وتحرير المسائل هو مخ العلم،
ولقد حفر إزميل التجارب في ذهني أن (مقارنة المصادر هي مفتاح التحقيق).
ومن أعظم ثمرات مقارنة المصادر أنها
تفرز لك (المعلومة) عن (القراءة والتفسير)، فكم من مُعطى قرأته في كتاب تظنه
معلومة مسلَّمة يُبنى عليها، فلما قارنت المصادر تبيّن أنها رأي وتوجيه واستنتاج
من المؤلف.
وتجد بعض شداة العلم في مبتدأ الطريق
يولعون بشراء الكتب، وذهنه يعيش قصة مشروع علمي مع كل كتاب يمد يده إليه ليقتنيه،
فيتخيل نفسه كيف سيقرؤه؟ وماذا يستخرج منه؟ وماذا سيضيف إليه؟ ثم لا يلبث بعد زمن
أن يرى كتبه التي اشتراها من معرض الكتاب السابق لم يمسها إلى الآن بينما هو يدفع
عربته في معرض الكتاب الحالي! فتضطرم في صدره أحاسيس اللاجدوى ومخاوف خداع الذات،
فتجد بعضهم لا يعترف لنفسه بالعجز عن الجدية في القراءة وسعة الاطلاع، وعدم قدرته
على الاستفادة من الكتب الكثيرة، بل ينقلب ويخلع على عجزه عباءة الحكمة، ويتحول
ذاماً ومحذراً من اقتناء الكتب ومطاردة المصادر، دون تمييز بين من يقتني الكتب
وينتفع بها، وبين من يقتني الكتب ويكدسها.
وهذا التوازن بين الحث على اقتناء
الكتب، وبين التحذير من الاقتناء للمكاثرة فقط، تعددت التنبيهات إليه في كتب أدب
الطلب، ومن ذلك قول بدر الدين بن جماعة (ت733ه): (ينبغي لطالب العلم أن يعتني
بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، لأنها آلة التحصيل، ولا يجعل تحصيلها
وكثرتها حظه من العلم، وجمعها نصيبه من الفهم، كما يفعله كثير من المنتحلين للفقه
والحديث) ([38]) .
فوازن ابن
جماعة هاهنا بين الحث على اقتناء الكتب، والاحتراس من اقتناء المكاثرة، وهذا
يتعارض مع من يزهّد في كثرة اقتناء الكتب مطلقاً، ومن يمدح كثرة اقتناء الكتب
مطلقاً.
وهاتان الشعبتان من شعب العلم، أعني
شعبة (حفظ العلم) وشعبة (سعة الاطلاع)، كثر افتعال الصدام بينهما، وهو نظير الصدام
المفتعل بين شعبة (حفظ العلم) وشعبة (فهم العلم)، وكل هذه الشعب تقع من العلم موقع
الأبواب من القصر، فاجتهد في تكثير أبوابك، وما على أحدٍ يُدعى من جميع هذه
الأبواب من ضرورة.
ولا أذيع سراً إن قلت للقارئ أنني كلما
رأيت انفجار المعارف في عصرنا، وتنوع أساليب العرض والمعالجة، ثم رأيت طالب علم
يزهّد في سعة الاطلاع؛ إلا انقبض قلبي، وخشيت أن ينشأ جيل إسلامي ينكسر معرفياً
أمام التيارات المنحرفة، ثم تدور في خاطري الهموم كيف أوصّل لهذا رسالة بأن تصرفه
خاطئ وخطر على مستقبل العلم والدعوة.
ومن أعظم شعب العلم، شعبة (فقه مسائل
التراث) وشعبة (فقه النوازل) فتجد بعض من حاول أن يفقه المستجدات المالية والطبية
والسياسة الشرعية أعياه تتبع مصادرها الحديثة، فعاد منتقصاً لها بدل أن يعترف
بعجزه ويحرض إخوانه على القيام بالواجب الكفائي، وتجد آخرين حاولوا فقه المسائل
التراثية الأصيلة فأعيتهم لغة تلك الكتب وانقطعت أعناقهم عن مطولاتها، وتنوع
العلوم الآلية المطلوبة لها؛ فأنِفوا من الاعتراف بالعجز، وصاروا يظهرون التهكم
بمن يحرث الماضي ويعيد إنتاج المستهلكات. والواقع أن كلا المطلبين شعبتان عظيمتان
من شعب العلم، فمن جمعهما فقد تسيّد المشهد الفقهي، ومن عجز عن أحدهما فليجتهد
فيما تدركه قواه وملكاته، وليشارك إخوانه في الجبهة الأخرى بالنية الصالحة على
الأقل، فيدعو لهم ويحبهم، والمرء مع من أحب، وليس من اللائق إذا عجزت عن أحدهما أن
تتقمص صورة الحاذق الواعي في تركك لأحد البابين.
ومن أعظم وسائل الدعوة اليوم
التسلح بقدر أساس من الثقافة المعاصرة، فإن العلم الشرعي غذاء، والثقافة
المعاصرة وعاء، والوعاء الجميل يفتح شهية المتلقي للغذاء النافع، وأكثر العلماء
بعد السلف تأثيراً في قضايا المنهج هم العلماء المثقفون، كابن حزم والغزالي وابن
تيمية، بل إن المثقفين الإسلاميين كالمودودي وسيد قطب والندوي ونحوهم كانوا أكثر
تأثيراً من بعض فحول العلماء في عصرنا، برغم ما يعتري خطاب هؤلاء المثقفين الإسلاميين
من بعض القصور الناشئ عن قلة الخبرة بعلوم الشريعة، فكيف لو جمع بينهما في نموذج (العالم
المثقف)؟!
والمراد أن هذه الأمة لها خصوصية، فهي
(أمة وحي) فمن لم يعرف كلام الله ورسوله، ومعاني كلامهما، والعلوم الموصلة
لذلك؛ لم يستطع التأثير الصحيح في هذه الأمة، ومن لم يعرف الثقافة المعاصرة لم
يعرف كيف تشكل عقل الجيل الجديد؟ وكيف تفكر النخب المعاصرة المأزومة مع الإسلام؟
فالثقافة المعاصرة «لغة» ومن لم يعرف لغة قوم كيف يدعوهم؟
ولذلك قال الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم:4]
فتدبر كيف ربط البيان باللسان، ينفتح لك باب إدراك أثر معرفة اللسان الثقافي
المعاصر في البيان الشرعي.
وكنت حين أقرأ في كتب التراجم يلفت
انتباهي حين يقولون عن عالم من علماء السنة أنه اطلع على العلوم العقلية في عصره،
بل إنني كنت زمناً طويلاً أتوهم أن ابن تيمية إنما قرأ الثقافة المعاصرة بعدما كبر
وصار في أواسط العمر، واكتشفت أنه أنجز العلوم الشرعية، ثم اطلع على الثقافة
المعاصرة، بل وصل إلى مستوى نقدها، ليس نقداً جزئياً في بعض المسائل، بل نقداً كلياً شاملاً، كل ذلك وهو صغير، حيث يقول عن
نفسه:
(المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة
والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً وقولاً للباطل وتكذيباً للحق في مسائلهم
ودلائلهم، وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم، وأنا إذ ذاك
صغير قريب العهد من الاحتلام؛ كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل، إما في الدلائل وإما
في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقاً لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة، وإما أن
تكون المسألة باطلاً، فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا وذكر «مسألة التوحيد»، فقلت: التوحيد حق، لكن اذكر ما شئت
من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه..) ([39]) .
هذا الحوار الذي يسجله ابن تيمية من
واقع سيرته الذاتية، حيث يروي كيف نقد الثقافة الفلسفية في عصره باستيعاب شامل
ودقيق؛ وهو قريب العهد من الاحتلام، بلغ بي من الانبهار مبلغه، وتوقفت عن
القراءة حين بلغت هذا الموضع، ووضعت يدي في الكتاب، وصرت أبحث عن من أطلعه عليه،
وأتحرى الدهشة في وجهه كالمستزيد ..
والمراد هاهنا أن الجمع بين العلم
الشرعي والثقافة المعاصرة عملة نادرة، وأهل هذا الجمع هم المؤهلون للتأثير
العميق في هذا العصر بعد توفيق الله، وهم المؤهلون لتحقيق مراد الله بتحكيم
الشريعة في مسائل المعرفة والعلوم المعاصرة، وتحرير مسائل العلوم الحديثة في ضوء
الوحي، ويجب أن نعترف أنها مهمة شاقة وتحتاج لملكات خاصة، من أهمها «سرعة الإدراك»،
وهي ملكة أخص من مطلق الفهم، وتأمل سرعة الإدراك فيما يرويه ابن عبد الهادي عن
شيخه ابن تيمية: (وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي، ثم فهمها، وأخذ
يتأمل كتاب سيبويه حتى فهمه) ([40]) .
والحقيقة أنك تجد بعض المشتغلين بالعلم
الشرعي لاحظ أنه لا يمكنه الجمع بين العلم الشرعي والثقافة المعاصرة، فصار يزهّد
غيره من أهل العلم في ذلك، وهذا اجتهاد غير موفق، بل يجب أن يوجه العالم طلابه إلى
أن يؤصّلوا أنفسهم في العلوم الشرعية، ثم يكونوا أنفسهم تكويناً ثقافياً ممتازاً
بحسب الطاقة والإمكان، ولا يلبس عجزه جبّة الحكمة.
ومن ذلك أنك تجد من شعب الإيمان (الصدع
بالحق) وتحمل ما يترتب عليه تبعاً من الابتلاء، بل إن حمل رسالة الإسلام ذاتها
لا تسلم من تهديدات القوى الدنيوية أصلاً، كما قال الله: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ
اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ﴾ [الأحزاب39]،
وجاء في القرآن التنبيه على مقام (الصبر) بعد مقام (النهي عن المنكر) كما قال
الله: ﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾[لقمان:17]،
فيصدع الناهي عن المنكر -مثلاً- في المنكرات الأخلاقية أو المظالم الحقوقية
والمالية ونحوها، ثم قد يرى الفقيه والداعية عجزه عن ذلك، فلا يصارح بعضهم نفسه
بعجزه، ويدعو لمن قام بالفرض الكفائي ورفع المعرّة عنه؛ بل يحاول أن يلبس عجزه جبّة
الحكمة ومشلح بُعد النظر، ويلمّح للصادعين بمهامز التهور والتعجل وقلة العلم
والوعي والعاطفة والحماس ونحو هذا المعجم البارد.
وكم شاهدنا من عجز عن الإنكار
والاحتساب، وفي ذات الوقت ثقُل عليه أن يعترف بالعجز والقصور، فاستعاض عن ذلك
باستسذاج المحتسبين.
ومن أعظم شعب الإيمان نصرة
المجاهدين في سبيل الله، الملتزمين بالضوابط الشرعية للجهاد، المجافين للغلو،
والمتسامين بأخلاقيات المجاهد في سبيل الله، أولئك الذين ألقوا أرواحهم تحت أزيز
الغطرسة الاستعمارية وذيولها، نُصْرَتُهم بالكلمة والريال وقنوت النازلة وأكف
الضراعة إذا هبطت الأسحار، وتدبر قول ربنا: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾[الأنفال:72]، ثم
إنك تجد بعض من حاول نصرة هؤلاء المظلومين شعر بإحراجات داخلية فتداهمه الخيالات
المرتعشة حتى يقوده الذعر ليس إلى الاعتراف بعجزه، أو على الأقل يقول لنفسه أن لديه
مصالح دعوية راجحة تمنعه من نصرة المظلوم، ونحو هذا، بل تراه يستسمن عمامة الحكمة
بأكوارها وذؤابتها ويتزيا بها، وتندّ من لسانه العبارات الموحشة يطعن بها في ظهور
أقوام اشترى الله سبحانه نفوسهم، أيقوى هذا على أن يأتي يوم القيامة وخصومه تثعب
جراحهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك؟
وقد كان يسع هذا وأمثاله أن يجتهد فيما
يمكنه، ويشارك إخوانه الباذلين أرواحهم بالنية الصالحة والدعاء والحب، فالمرء مع
من أحب، وقد كان في غنى عن أن يغطّي عجزه بأسمال الحكمة المثلجة.
([1]) صحيح
مسلم (612).
([2]) القاضي
عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم، تحقيق د. يحي إسماعيل، دار الوفاء، ص(2/577).
([3]) ابن
القيم، مفتاح دار السعادة ، تحقيق
عبدالرحمن قائد، نشر مجمع الفقه، ص(2/895).
([4]) ابن
القيم، بدائع الفوائد ، تحقيق علي
العمران، نشر مجمع الفقه، ص(3/1187).
([5]) ابن
القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء
والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق الحساني عبدالله، دار التراث، ص(448).
([6]) ابن
تيمية، قاعدة في المحبة ، مطبوعة ضمن جامع
الرسائل، تحقيق محمد رشاد سالم، ص(2/393).
([7]) الخطيب
البغدادي، تاريخ بغداد، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب، ص(6/522).
([8]) ابن
القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء
والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق الحساني عبدالله، دار التراث، ص(449).
([9]) ابن
تيمية، مجموع الفتاوى، ص(20/146).
([10]) ابن
الجوزي، المدهش، دار الكتب العلمية، ص 295.
([11]) صحيح
مسلم: (2822)
([12]) صحيح
مسلم: (2956)
([13]) ابن
القيم، إغاثة اللهفان ، تحقيق محمد عزيز
شمس، نشر مجمع الفقه، ص(2/817).
([14]) ديوان
أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، دار الكتاب، ص(1/49).
([15]) ديوان
أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، دار الكتاب، ص(1/245).
([16]) ديوان
المتنبي، دار بيروت، ص(490).
([17]) ديوان
المتنبي، دار بيروت، ص(260).
([18]) ديوان
المتنبي، دار بيروت، ص(518).
([19]) البخاري
(1787)، مسلم (1211)، بنحوه.
([20]) مسلم
(1898) .
([21]) البخاري
(1865) .
([22]) أبو
داود (1950) .
([23]) ابن
تيمية، مجموع الفتاوى، ص(10/622).
([24]) البخاري
(6412) .
([25]) ذكره:
أبو عبيد، الأمثال، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، نشرة جامعة الملك عبد العزيز،
ص(256)؛ ابن الأثير، النهاية، تحقيق رائد صبري، بيت الأفكار، ص(411)؛ وانظر تعليق
الزيلعي عليه في تخريج أحاديث الكشاف (2/353).
([26]) مصنف
ابن أبي شيبة (34562) .
([27]) ابن
عبد القوي، عقد الفرائد وكنز الفوائد، نشره محمد الجميح، ص (2/398) .
([28]) ابن
جماعة، تذكرة السامع والمتكلم، تحقيق السيد الندوي، دار رمادي، ص(173) .
([29]) ابن
تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق د. ناصر العقل، مكتبة الرشد، ص (1/483).
([30]) ابن
تيمية، الرد على المنطقيين، تحقيق عبد الصمد الكتبي، مؤسسة الريان، ص(299) .
([31]) المصدر
السابق، ذات الصفحة.
([32]) صحيح
البخاري (1897).
([33]) سنن
أبي داود (3660)، سنن الترمذي (2656).
([34]) صحيح
البخاري (5030)، صحيح مسلم (1425)، ولم أجد التصريح باسم المبهم، وصُرِّح بكونه
شاب في مسند ابن أبي شيبة (102).
([35]) ابن
عبد الهادي، طبقات علماء الحديث، تحقيق أكرم البلوشي وزميله، مؤسسة الرسالة،
ص(4/282).
([36]) ابن
كثير، البداية والنهاية، ص(9/491).
([37]) ابن
حجر، إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق د. حسن حبشي، نشرة لجنة إحياء التراث
الإسلامي، ص(1/241).
([38]) ابن
جماعة، تذكرة السامع والمتكلم، تحقيق السيد الندوي، دار رمادي، ص(225) .
([39]) ابن
تيمية، مجموع الفتاوى، ص(4/27).
([40]) ابن
عبد الهادي، طبقات علماء الحديث، تحقيق أكرم البوشي وزميله، مؤسسة الرسالة،
ص(4/282).
لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف من الرابط اسفل المقال
تحميل كتاب مسلكيات برابط ميديا فير PDF مباشر من هنا