-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب أبو ذر الغفاري PDF


مقدمة
يحار المرء عندما يعاود النظر في سير الصحابة الكرام دارسًا ومحلِّلًا.
ويكاد المرء في بعض الأحيان يتردد فيما يقرأ أو يسمع عن هؤلاء من مواقف أو مناقب، إلا أن الأمر لا مجال فيه للشك أو التردد، فالوقائع محفوظة في بطون كتب الجهابذة من العلماء، والبطولات منقولة إلينا بالتواتر جيلًا بعد جيل، والمناقب مسندة إليهم بالأسانيد الصحيحة التي تضاهي الشمس روعة وجمالًا.
والسبب الرئيسي في هذه الحيرة هي تلك القدرات الفائقة التي تمتع بها هؤلاء الصحب الكرام، والتي نعجز نحن عن بعضها فضلًا عن الإحاطة بها جميعًا، مما يقود البعض منا إلى الاستغراب أو عدم التصديق.
وأحسب أن أعظم ما أُوتيه هذا الجيل الفريد هي القدرة النفسية العظيمة التي وقفت سدًّا منيعًا أمام تحديات الحياة ومشكلاتها، والتي سحقت تحت أقدامها كلَّ ما ناوأها من خطوب الدهر ونكباته، والتي قادت أولئك الكرام البررة إلى ساحات رحبة من البطولات والنصر.
نعم إنهم قلة وضعفة وفقراء ومضطهدون؛ ولكنهم ما كانوا ليجعلوا لهذه الأمور سلطانًا على نفوسهم، وما كانوا ليسمحوا لليأس بأن يدب إلى قلوبهم، فالله - عز وجل - وعد عباده - إن هم أطاعوه - بالنصر والتمكين والخلافة في الأرض، وهو - سبحانه - لا يخلف وعده، ولا يهزم جنده، ولا يخذل أولياءه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات، الآيات: 171 - 173].
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
وأبو ذر الغفاري t من تلكم الشخصيات التي كانت تتمتع بهذه القدرات النفسية العظيمة، فقد كان t زاهدًا في زهرة الدنيا ومفاتنها، صبورًا على شظف العيش وقلة الشيء، مجاهدًا بنفسه وماله في سبيل الله، قوَّالًا للحق مجاهرًا به، وإن غضب عليه من غضب، فما كان لأبي ذر أن يضيِّع ما حفظ عن رسول الله r ولا أن يكتم شيئًا من وصايا الحبيب عليه الصلاة والسلام.
«تخلَّى من الدنيا، وتشمَّر للعقبى، وعانق البلوى إلى أن لحق بالمولى»([1]).
وقد التزم t بالأمر الشديد، والعزيمة دون الرخصة، مع حدَّة في بعض مواقفه، ولكن هذا كله لم يكن ليقدح في مسيرة الرجل وجهاده، ولا ليجعله خصيمًا لغيره من الصحابة كما زعم الزاعمون، ولا معارضًا لخلافة عثمان ذي النورين كما افترى آخرون.
وما نريد أن نقرره هنا أن هذا العلم الغزير الذي كان يحمله أبو ذر t عن طريق سؤالاته للنبي r أو عن طريق وصايا النبي r له([2])، هو الذي أدى به إلى تلك الاجتهادات والمواقف التي خالف فيها الجمَّ الغفير من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، وهو الذي دفعه إلى التعلق بعزائم الأمور دون رخصها. وهو مأجور بلا شك على هذه الاجتهادات وتلك المواقف أجرًا واحدًا إن أخطأ، وأجرين اثنين إن أصاب، وهذا من فضائل شريعتنا ومحاسن ديننا.
رُوي عن شداد بن أوس أنه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله r فيه الشِّدَّة، ثم يخرج إلى قومه فيسلم عليهم، ثم إن رسول الله r يرخِّص فيه بعد فلم يسمعه أبو ذر، فتعلَّق أبو ذرّ بالأمر الشديد([3]).
وهذا يؤكد لنا خطأ أولئك الذين تناولوا شخصية أبي ذر t بالدراسة والتحليل بعيدًا عن النصوص الشرعية، أو الروايات التاريخية الثابتة، فرأوا في أبي ذرّ t داعيًا إلى الاشتراكية ممجِّدًا لها كما زعم السحَّار، أو رأوه ثائرًا على الولاة والحكام وزعيمًا للمعارضة كما وصفه خالد محمد خالد، أو رأوه خارجًا عن الجماعة ثائرًا غاضبًا، إلى غير ذلك مما توهموه بغير مستند ولا دليل، إلا ما تناقلوه من كتب الأدب والقصص. أو كتب أهل البدع من الرافضة وغيرهم.
إن الاعتماد على كتب غير موثَّقة، وعلى روايات سقيمة، وعلى أسانيد واهية، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الخلط في التصوُّر والأحكام، وعدم وضوح الرؤية لدى الناقد والمؤرخ.
وكتاب الأغاني للأصفهاني، أو مروج الذهب للمسعودي، أو العقد الفريد، أو كتب الجاحظ وابن أبي الحديد، لا يمكن أن تصل بالدارس إلى نتائج مرضية، أو إلى أحكام تتسم بالعدل والإنصاف.
فهؤلاء جميعًا قصَّاصٌ لا يفرِّقون بين الثمين والبهرج، ولا بين الزائف والأصيل، وإنما يروون الأخبار هكذا دونما نقد أو تمحيص. ولكن يعيش لذلك الأماجد من علماء أهل السنة والجماعة ونقَّاد الحديث وأئمة الأثر، فينفون عن دين الله - عز وجل - تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
      كتبه
خالد أبو صالح


من هو أبو ذر؟

أولًا: اسمه وقبيلته:

اختلف في اسمه على أقوال عدة، أشهرها أنه: جُندب بن جُنادة وقيل: يزيد بن جنادة، وقيل: برير بن جنادة، وقيل: برير بن عبد الله، وقيل: جندب بن السكن، وقيل: ابن عشرقة([4]).
وقال الحافظ ابن حجر: قلت: في كتاب الأدب عن ابن ماجه، من طريق نعيم المجمر، عن طهفة الغفاري، عن أبي ذر قال: مرَّ بي النبي r وأنا مضطجع على بطني، فركضني برجله وقال: «يا جُنيدب إنما هذه الضجعة ضجعة أهل النار»([5]).
قال الحافظ: فإن صحَّ إسناده فهو صريح في أن اسمه جندب([6]).ا هـ.
قلت: ذكر هذا الحديث البوصيري في الزوائد قائلًا: «هذا إسناد فيه مقال؛ محمد بن نعيم لم أر من جرحه ولا من وثقه، ويعقوب بن حميد مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات»([7]).
وأخرج الطبراني وأبو نعيم حديثًا آخر وفيه أن النبي r سأله: «من أنت؟» فقال: إني جندب؛ رجل من بني غفار. وفي إسناد هذا الحديث أيضًا مقال، مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي ذر قال الذهبي: فيه جهالة، ذكره العقيلي وقال: لا يتابع على حديثه». انظر ميزان الاعتدال (4/ 87) ولكن الحافظ قال عنه: «مقبول» من الثالثة. انظر التقريب رقم (6546).
وعلى كل حال فجندب بن جنادة هو المشهور في اسم أبي ذر t.
قال ابن كثير في البداية: «واسمه جندب بن جنادة على المشهور»([8]).
ورجحه ابن سعد في الطبقات([9])، وجزم به الطبراني كما حكاه عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد([10]).
وأبو ذرّ من قبيلة غفار، وغفار من بني كنانة، وهم بنو غفار بن مُلَيْل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وهي من القبائل الخمس، (أسلم، وغفار، ومُزينة، وجُهينة، وأشجع) التي كانت في الجاهلية في القوة والمكانة دون بني عامر بن صعصعة، وبني تميم بن مرّ وغيرهما من القبائل، فلما جاء الإسلام كانوا أسرع دخولًا فيه من أولئك، فانقلب الشرف إليهم بسبب ذلك([11]).

ثانيًا: صفته:

قيل: كان t آدم([12]) ضخمًا جسيمًا كثَّ اللحية([13]).
وروى ابن سعد عن خُفاف بن إيماء قال: كان أبو ذر رجلًا يصيب، وكان شجاعًا، ينفرد وحده يقطع الطريق، ويغير على الصَّرَم([14]) في عماية الصبح على ظهر فرسه أو قدميه كأنه السبع، فيطرق الحيَّ ويأخذ ما أخذ، ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام، وسمع مقالة النبي r وهو يومئذٍ يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه([15]).
وقال حميد بن هلال: حدثني الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، فبينما أنا أصلي، إذ دخل رجل طوال، آدم، أبيض الرأس واللحية، محلوق، يشبه بعضه بعضًا، فاتبعته فقلت: من هذا؟ قالوا: أبو ذر([16]).
وقال أبو بريدة : وكان أبو ذر رجلًا أسود كثَّ الشعر([17]).
وقيل: كان رقيق العظم، فقد روى ابن سعد عن كليب بن شهاب الجرميّ قال: سمعت أبا ذر يقول: ما يوئسني رقة عظمي، ولا بياض شعري أن ألقى عيسى ابن مريم([18]).
ويحتمل أنه صار كذلك بعد أن كبرت سنّه وأثر فيه ما كان يلتزم من الزهد وخشونة العيش.

ثالثًا: سيرته t:

قال الذهبي: أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب محمد r قيل: كان خامس خمسة في الإسلام، ثم إنه رُدَّ إلى بلاد قومه فأقام بها بأمر النبي، r له بذلك، فلما أن هاجر النبي r هاجر إليه أبو ذر t ولازمه، وجاهد معه([19]).
خدم الرسول، وتعلَّم الأصول، ونبذ الفضول([20]). «كان t رأسًا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوَّالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدَّة فيه»([21]).
قال أبو نعيم: «كان للرسول r، ملازمًا وجليسًا، وعلى مساءلته والاقتباس منه حريصًا، وللقيام على ما استفاد منه أنيسًا، سأله عن الأصول والفروع، وسأله عن الإيمان والإحسان، وسأله عن رؤية ربه تعالى، وسأله عن أحبِّ الكلام إلى الله تعالى، وسأله عن ليلة القدر؛ أترفع مع الأنبياء أم تبقى، وسأله عن كل شيء حتى مس الحصى في الصلاة!!»([22]).
ومع أنه t كان من قبيلة تغير على القوافل وتقطع الطريق، وربما مارس هو بنفسه تلك الأعمال، إلا أنه كان يتنسك ويتعبد ويتأله في جاهليته، فكان يوحد ولا يعبد الأصنام، بل كان يسخر منها ومن عابديها. قال في خبر إسلامه لعبد الله بن الصامت: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله r بثلاث سنين، فسأله عبد الله لمن؟ فأجابه أبو ذر: لله !! فسأله عبد الله: فأين توجَّه؟ قال أبو ذر: أتوجه حيث يوجهني ربي([23]).

1 - جهاده t:

أما جهاده t فما تخلف عن غزوة غزاها رسول الله r منذ قدم إليه المدينة، إلا ما كان بأمر من رسول الله r فقد ذكر عن بعض أهل التاريخ أنه تخلف عن غزوتي ذات الرقاع وبني المصطلق، لأنه كان أميرًا على المدينة بأمر من رسول الله، r ([24]).
وأما غزوة بدر وأحد والخندق فقد فاتته لأن النبي r أمره في اللقاء الأول بأن يرجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، حتى إذا سمع بظهوره قدم إليه([25]).
وكان t حامل راية غفار يوم حنين ([26]).
وأما غزوة تبوك فقد روى ابن إسحاق عن ابن مسعود قال: «لما سار رسول الله r إلى تبوك، جعل لا يزال يتخلف الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه إن يكن فيه خير فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه». حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره!!».
ولكن ما كان لأبي ذر أن يتخلف عن رسول الله r مهما كانت التضحيات، ومهما بلغت به المشقة والعناء، قال ابن إسحاق: وتلوَّم([27]) بعير أبي ذرّ فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره وخرج يتبع رسول الله r ونظر ناظر فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله، r :«كن أبا ذر» فلما تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذر، فقال رسول الله، r : «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»([28]).
فكان t يقول عن هذا الموقف: أبطأت في غزوة تبوك من عَجَف([29]) بعيري.
ولكنه t لم يستسلم لذلك الأمر، كما يفعل الذين يسقطون أمام أي عقبة أو مشكلة، فلم يجعل ضعف بعيره سببًا وعذرًا له في التخلف عن رسول الله r في يوم من أشد الأيام التي مرَّت بالمسلمين وأقساها، ولكنه حمل متاعه على عاتقه، وانطلق في تلك الصحراء المدويَّة ليلحق برسول الله r فما قيمة الحياة إذا تخلف أبو ذر عن نبيه r في ساعة العسرة؟ وهل يتصور أن يكون رسول الله r في مواجهة مع الأعداء، تحيط به المنيَّة من كل جانب بينما أبو ذر t ينعم بالأمن والسلام ؟!

2 - زهده t:

وأما زهده t فقد بلغ في ذلك المنزلة العالية، والمحلة الرفيعة، أخرج الإمام أحمد، عن أبي أسماء أنه دخل على أبي ذرّ بالرَّبذة([30]). وعنده امرأة سوداء مُشعثة، ليس عليها أثر المجاسد([31]) والخلوق([32]) فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيتها مالوا عليَّ بدنياهم، وإن خليلي عهد إليَّ: «أن دون جسر جهنم طريقًا ذا دحضٍ ومزلّة» وإنا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار([33])، أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير([34]).
وعن أم طلق قالت: دخلت على أبي ذر فرأيته شعثًا شاحبًا، بيده صوف، قد جعل عودين وهو يغزل بهما، فلم أرفي بيته شيئًا، فناولته شيئًا من دقيق وسويقٍ، فقال لي: أما ثوابك فعلى الله([35])!!
ومرَّ أبو ذرّ على أبي الدرداء، وقد بني مسكنًا فقال له أبو ذر: ما هذا ؟! تعمِّر دارًا أذن الله بخرابها؟ لأن أكون رأيتك تتمرَّغ في عذرة أحبّ إليَّ من أن أكون رأيتك فيما رأيتك فيه([36]).
وعن سالم بن أبي الجعد عن أبيه قال: بعث أبو الدرداء إلى أبي ذر رسولًا، قال: فجاء الرسول فقال لأبي ذر: إن أخاك أبا الدرداء يقرئك السلام، يقول لك: اتق الله وحقّ الناس، قال: فقال أبو ذر: مالي وللناس، وقد تركت لهم بيضاءهم وصفراءهم، ثم قال للرسول: انطلق إلى المنزل، قال: فانطلق معه، قال: فلما دخل بيته إذا طعيم في عباءة ليس بالكثير، وقد انتشر بعضه، قال: فجعل أبو ذر يكنسه ويعيده في العباءة ثم قال: إن من فقه المرء رفقه في معيشته، قال: ثم جيء بطعيم فوضع بين يديه، قال: فقال لي: كل، قال: فجعل الرجل يكره أن يضع يده في الطعام لما يرى من قلته، فقال له أبو ذر: ضع يدك، فوالله لأنا بكثرته أخوف مني بقلته، قال: فطعم الرجل ثم رجع إلى أبي الدرداء فأخبره بما رد عليه، فقال أبو الدرداء: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منك يا أبا ذر.
وقال عبد الله بن خراش: رأيت أبا ذرّ بالربذة، وعنده امرأة له سحماء([37]) أو شحباء، وهو في مظلة سوداء، فقيل له: يا أبا ذر، لو اتخذت امرأة هي أرفع من هذه فقال: إني والله لأن أتخذ امرأة تضعني أحبّ إليَّ من أن أتخذ امرأة ترفعين([38])!!
قالوا: يا أبا ذر، إنك امرؤ ما تكاد يبقى لك ولد، فقال: وإنا نحمد الله الذي يأخذهم منا في دار الفناء ويدَّخر لنا في دار البقاء. قال: وكان يجلس على قطعةٍ المِسح والجوالق([39])، فقالوا له: يا أبا ذر، لو اتخذت بساطًا هو ألين من بساطك هذا؟ فقال: اللهم غفرًا، خذ ما أوتيت، إنما خُلقنا لدار لها نعمل، وإليها نرجع([40]).
ولم يكن زهد أبي ذر t عن عجزٍ وفاقة، بل لقد عرضت عليه كرائم الأموال فرفضها، وفضل أن يعيش فقيرًا مُعدمًا على أن يكون طالبًا لدنيا حقيرة؛ لعنها الله - عز وجل - يوم خلقها، ولعن طلابها واللاهثين وراءها. فعن أبي شعبة t قال: جاء رجل إلى أبي ذر فعرض عليه نفقة، فقال أبو ذر: عندنا أعنز نحلبها، وحمر تنقلنا، ومُحرَّرة تخدمنا، وفضل عباءة عن كسوتنا، إني لأخاف أن أحاسب على الفضل([41])!!
وقد بلغ الحارث - وهو رجل من قريش كان بالشام - أن أبا ذرّ كان به عوز، فبعث إليه بثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: ما وجد عبد الله من هو أهون عليه مني، سمعت رسول الله r يقول: «من سأل وله أربعون درهمًا فقد ألحف»([42]) ([43]) .
ولأبي ذر أربعون درهمًا، وأربعون شاة، وماهنان. قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين.
 وقد كان أبو ذر t يتشرف بأنه باقٍ على العهد الأول، لم يحد عن الطريق الذي خطه له رسول الله r يمنة ولا يسرة، فهو كما قال الشاعر:
تزول الجبال الراسيات وإنه


على العهد لا يلوي ولا يتغيَّر

فكان t يقول: إني لأقربكم مجلسًا من رسول الله r يوم القيامة؛ وذلك أني سمعته r يقول : «أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها». وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث منها بشيءٍ غيري([44])!!
ورآه يومًا عطاء بن أبي مروان في نمرةٍ([45]) مؤتزرًا بها قائمًا يصلي فقال له: يا أبا ذر أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته علي، فقال عطاء: فإني رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال: يا ابن أخي أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني، فقال عطاء: والله إنك لمحتاج إليهما، فقال أبو ذر: اللهم غفرًا... إنك لمعظِّم للدنيا، أليس ترى عليَّ هذه البردة ولي أخرى للمسجد، ولي أعنزٌ نحلبها، ولي أحمرةٌ([46]) نحتمل عليها ميرتنا ([47])، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟
إي - والله - فأي نعمة أفضل مما نحن فيه، ألسنا نركب السيارات الفارهة، ونسكن القصور العالية، ونسير على الطرق الممهدة الواسعة، ولا نشعر بحرارة الصيف أو قسوة الشتاء، ومع ذلك كله ننسى هذه النعم، ونحسب أنَّا ورثناها كابرًا عن كابر، فلا نؤدي حق الشكر عليها.
أما أبو ذر t الذي كان يعيش في مظلة من الشَّعر، يأكل يومًا ويجوع يومًا، فما كان لينسى نعم الله - عز وجل - عليه، فكان يشكر الله – عز وجل - على كسرة الخبز اليابسة، وشربة الماء التي يتجرعها بعد ظمأ كويل. وقد قيل له t ذات يوم: ألا تتخذ ضيعة كما أتخذ فلان وفلان؟ قال: ما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفيني في كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز([48]) من قمح([49]).
ولما عاتبته أمُّ ذرّ في معيشتها أجابها مشفقًا: يا أمّ ذرّ إن بين أيدينا عقبة كئودًا وإن المُخفَّ فيها أهون من المثقل([50]).
وأعظم من ذلك أنه t رفض أن يزاد في قوته على ما كان عليه في عهد رسول الله r لأنه خشي أن يكون ذلك بابًا من أبواب التعلق بالدنيا وزهرتها، قال أبو ذر t:  كان قوتي على عهد رسول الله r صاعًا، فلا أزيد عليه حتى ألقى الله عز وجل([51])!!
وجاءت إليه ابنته يومًا ومعها قفَّة لها، فمثلت بين يديه وعنده أصحابه وقالت: يا أبتاه: زعم الحرَّاثون، والزرَّاعون أن أفلُسُك هذه بهرجة([52])، فقال: يا بنية ضعيها، فإن أباك أصبح - بحمد الله - ما يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه([53]).
وأبو ذر t كان يرفض المال لأنه حتى وإن أدّى حقَّ الله فيه، واكتسبه من حلال وأنفقه في طاعة الله، فإنه ربما أخره عن دخول الجنة يوم القيامة ولو لسويعات قليلة، ففي الحديث: «لا تزول قدمًا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، وذكر منها: «ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه»([54]). فكان هذا السؤال والحساب يوم القيامة سببًا كافيًا للعابد الزاهد أبي ذر t في أن ينأى بنفسه عن هذه السبيل. فكان يقول دائمًا: «ذو الدرهمين أشدّ حسابًا يوم القيامة من ذي الدرهم» ([55]) !!
أما ما تركه أبو ذر t بعد وفاته، فقد سأل ابن سيرين ابن أختٍ لأبي ذر فقال له: ما ترك أبو ذر؟ فقال: ترك أتانين وحمارًا وأعنزًا وركائب([56]).
وعن كرمه وجوده t فكان مضرب المثل في ذلك، فكثيرًا ما كان يبيت طاويًا يعاني قسوة الجوع وشدته، ليشبع جيرانه وأضيافه.
قال عيسى بن عميلة الفزاري: أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمة شيء إلا مصَّره([57])، وقرب إليهم تمرًا وهو يسير، ثم تعذّر إليهم وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا الجئنا به، قال: وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئًا([58])!!
وعن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: كسى أبو ذرّ بردين فأتزر بأحدهما وارتدى بشملةٍ، وكسا أحدهما غلامه، ثم خرج على القوم فقالوا له: لو كنت لبستهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعت رسول الله r يقول: «أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تكسون»([59]).

3 - علمه t:

أما علمه t فقد نقل الآجري عن أبي داود أنه كان يوازي ابن مسعود في العلم([60])!!
وهذه والله درجة رفيعة، ومنزلة عالية أن يزاحم الغفاري t الإمام العالي والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود t في العلم.
وقد سئل عليُّ t عن أبي ذر فقال: وعى علمًا عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال([61]) فيُعطى ويُمنع، أما أن قد مُلىء له في وعائه حتى امتلأ([62])، ومن الذي ملأ وعاءه غير رسول الله، r؟
وقال t أيضًا: أبو ذر وعاءٌ مليء علمًا أُوكي عليه فلم يخرج منه شيء([63]).
ومع كل هذا العلم الذي أعطيه أبو ذر t إلا أنه كانت تفوته بعض المسائل التي كان يغيب عنها ويحضرها غيره من الصحابة، وذلك بسبب أنه كان يذهب إلى الربذة كثيرًا فيرعى الماشية هناك. فقد روي عن ابنن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الرَّبذة إلى المدينة مخافة الأعرابية([64])، فكان يحبّ الوحدة([65]).
وقد فاته t حكم التيمم عند فقد الماء فكان يصلي أيامًا وهو جنب إلى أن علَّمه رسول الله r التيمم. روى أبو داود عن أبي ذر قال: اجتمعت غُنَيمةٌ عند رسول الله r فقال: «يا أبا ذرّ ابدُ فيها». قال أبو ذر: فبدوت إلى الرَّبذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمس والستَّ، فأتيت النبي r فقال: «أبو ذرٍّ» فسكتُّ، فقال: «ثكلتك أمُّك أبا ذرٍّ، لأمك الويل»([66])، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعُسٍّ([67]) فيه ماء فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلًا، فقال r: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك فإن ذلك خير»([68]).
وفي رواية قال أبو ذر: إني اجتويت([69]) المدينة، فأمر لي رسول الله r بذودٍ([70]) وبغنم فقال لي: «اشرب من ألبانها». فقال أبو ذر: فكنت أعزب([71]) عن الماء، ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فأصلي بغير طَهُور، فأتيت رسول الله r بنصف النهار، وهو في رهطٍ من أصحابه، وهو في ظل المسجد فقال: «أبو ذر»([72])... وذكر نحوًا من الحديث السابق.
وهذا يمكن أن يكون شاهدًا لما قاله شداد بن أوس: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله r فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه، فيسلم عليهم، ثم إن رسول الله r يرخِّص فيه بعد، فلم يسمعه أبو ذرٍّ، فتعلّق أبوو ذرٍّ بالأمر الشديد([73]).
قال الذهبي: له مائتا حديثٍ وأحد وثمانون حديثًا، اتفقا منها على اثني عشر حديثًا، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر([74]).

قصة إسلامه (*)t: 

تعد رواية الإمام مسلم في قصة إسلام أبي ذر t من أوثق الروايات وأشملها للجوانب المتعددة التي تضمنتها قصة إسلام هذا الصحابي الجليل.
وفيها يحدثنا أبو ذر نفسه عن جوانب من شخصيته وطبيعة حياته وحياة قومه، وشيء من عادات الجاهلية فيقول: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أُنَيس وأمُّنا، فنزلنا على خالٍ لنا، فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيسٌ([75])، فجاء خالنا فنثا([76]) علينا الذي قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدَّرته([77])، ولا جماع لك فيما بعد، فقرّبنا صرمتنا([78])، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر([79]) أنيسٌ عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخيَّر أنيساً، فأتانا أنيسٌ بصرمتنا ومثلها معها.
قال أبو ذر: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله r بثلاث سنين، قلت لمن؟ قال: لله، قلت: فأيت توجَّه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيت  كأني خفاء([80]) حتى تعلوني الشمس.
فقال أُنَيس: إن لي حاجةً بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث عليَّ([81])، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلًا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، وكان أُنَيسٌ أحد الشعراء.
قال أُنَيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر([82]) فلم يلتئم على لسان أحدٍ بعدي أنه شعرٌ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر،، قال: فأتيت مكة، فتضعَّفت([83]) رجلًا منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ، فأشار إليَّ فقال: الصابئ([84])، فمال عليَّ أهل الوادي بكل مدرة([85]) وعظم حتى خررت مغشيًا عليَّ. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر([86]).
قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، ولقد لبثت - يا ابن أخي - ثلاثين بين يوم وليلة، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسَّرت عُكَن بطني([87])، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع([88]).
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قرماء إضحيان([89]) إذ ضرب على أسمختهم([90])، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتين منهم تدعوان إسافًا ونائلة([91]). قال: فأتتا عليَّ في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا عن قولهما، فأتتا عليَّ فقلت: هنٌ([92]) مثل الخشبة غير أني لا أكني، فانطلقتا تولولان([93]) وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا!!
قال: فاستقبلهما رسول الله، r، وأبو بكر وهما هابطان. قال: «مالكما؟» قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: «ما قال لكما؟» قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم([94]).
وجاء رسول الله، r، حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى.
فلما قضى صلاته كنت أنا أول من حيَّاه بتحية الإسلام فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك ورحمة الله» ثم قال: «من أنت؟» قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقدعني([95]) صاحبه، وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه ثم قال: «متى كنت ههنا؟» قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين، بين ليلة ويوم، قال: «فمن كان يطعمك؟»
قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسَّرت عُكن بطني، وما أجد على كبدي سُخفة جوع. قال: «إنها مباركة إنها طعام طعم»([96]).
فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله r وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابًا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعامٍ أكلته بها، ثم غبرت ما  غبرت([97])، ثم أتيت رسول الله r فقال: «إنَّه قد وجِّهت لي أرض([98]) ذاتُ نخيلٍ لا أُراها إلا يثرب([99])، فهل أنت مبلغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم». قال أبو ذر: فأتيت أنيسًا، فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك، إني قد أسلمت وصدَّقت، فأتينا أُمَّنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدَّقت، فاحتملنا([100])، حتى أتينا قومنا غفارًا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريُّ وكان سيدهم.
وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله r المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله r المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم([101]) فقالوا: يا رسول الله إخوتنا، نُسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله، r: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله»([102]).
وهناك رواية أخرى متفق عليها، فيها أشارات إلى بعض الأحداث التي لم تذكرها الرواية الأولى وهي من رواية ابن عباس t قال: لما بلغ أبا ذرٍّ مبعث النبي r بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علمم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكةة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلامًا ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزوَّد وحمل شنَّةً([103]) له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي r ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه([104])، حتى أدركه - يعني الليل - فاضطجع فرآه عليّ، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قريبته([105]) وزاده إلى المسجد، فظلّ ذلك اليوم ولا يرى النبي r حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرَّ به عليُّ فقال: أماا أنى([106]) للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه عليّ معه ثم قال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل، فأخبره، فقال: فإنه حق وهو رسول الله r فإذا أصبحتت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه([107])، حتى دخل على النبي، r، ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي، r: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري».
فقال: والذي نفسي بيده، لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكبَّ عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار!! وأن طريق تجَّاركم إلى الشام عليهم، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكبَّ عليه العباس فأنقذه([108]).

5 - فوائد من قصة إسلام أبي ذر t:

أولًا: أبو ذر الغفاري t من قبيلة غفار التي كانت تشتهر بالإغارة على القوافل وسلبها، فكانوا يحلون الشهر الحرام بالقتال والسلب والنهب، ولذلك كره النبي، r، أنه انتمى إليها، ولكنه، r ، بعد حديثه معهه علم أن الرجل على أتم  الاستعداد لتحمل أعباء الدعوة وواجباتها فوجهه إلى قومه داعيًا ومبلغًا.
وفي ذلك إشارة إلى المرء لا يقاس في الإسلام بنسبه وعشيرته وإنما بتقواه لله - عز وجل - وبما يستطيع أن يقدمه لهذا الدين من خدمات وتضحيات.
ثانيًا: وأبو ذر الغفاري t رجل لا يعرف أنصاف الحلول، ولا يعرف أيضًا مداهنة ولا مداراة، ولذلك لما فاجأه خاله بالتهمة التي ألصقت بأنيس أخيه ظلمًا، ردّ قائلًا، «أما ما مضى من معروفك فقد كدَّرته، ولا جماع لك فيما بعد» ثم انطلق هو وأخوه وأمه بعد هذا الموقف تاركًا خاله يبكي ما كان منه. فليس من طبيعته أن يرضى بعلاقة يشوبها دخنُ الظنون وكدر الترقب والشكوك، فطريقته صورها الشاعر بقوله:
فإما أن تكون أخي بحقٍّ


فأعرف منك غثي أو سميني

وإلا فاطّرحني واتخذني


عدوًّا أتقيك وتتقيني

ثالثًا: وأبو ذر t من جنس الأحناف المتألهين الذين لا يعترفون بعبادة الأصنام، بل كان يصلي لله قبل أن يسلم، ولذلك فإنه لما رأى المرأتين تدعوان إسافًا ونائلة قال لهما تلك المقالة الشنيعة حتى كفَّتا عن الشركك وانطلقتا تولولان.
رابعًا: والصبر والتحمل ومواجهة الأحداث صفات أكيدة لشخصية أبي ذر t:
أ - فعندما أخبره أنيس بخبر النبي، r، وأقسم له أنه صادق وأنهم كاذبون، لم يشفه ذلك ولم يكفه، بل ذهب بنفسه إلى النبي، r، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل من الأذى والجوع، حتى ظفر بلقاء الحبيب، r، فسمع من كلامه وأسلم على يديه.
ب - صبره على الأذى، فقد ضربوه مرة ضربًا شديدًا حتى سالت دماءه، وذلك عندما سأل عن النبي، r، في مكة.
وضرب أيضًا مرتين أو أكثر حتى أضجعوه، وذلك لأنه جهر بالشهادتين بين ظهراني قريش فأسمعهم ما يكرهون. ففي رواية ابن عباس: «فضربوه حتى أوجعوه». وفي رواية أبي قتيبة: «فضربت لأموت» أي ضربت ضربًا لا يبالي من ضربني أن لو أموت منه([109]).
جــ - صبره على الجوع فقد لبث في مكة قبل أن يلقى رسول الله، r، ثلاثين ما بين يوم وليلة، وفي رواية قال له النبي، r: «منذ كم أنت ههنا؟» قال: «منذ خمس عشرة» ([110])، وفي هذه المدة الطويلة لم يكن له طعام ولا شراب سوى ماء زمزم ومع ذلك لم يشعر بأثر الجوع وضعفه وهزاله.
د - صبره على الدعوة إلى الله - عز وجل - حتى أسلمت غفار عن بكرة أبيها، فقد لبث في قومه حتى فاتته بدر وأحد والخندق، داعيًا إلى الله - عز وجل - ومبلغًا دينه، وصابرًا على الأذى، حتى جاءتت غفار طائعة تائبة مخبتة فاستحقت دعاء الرسول، r، لها :«غفار غفر الله لها»([111]).
خامسًا: في القصة إشارة إلى كرم الصديق t فقد قال لرسول الله، r: ائذن لي في طعامه الليلة، وفي رواية قال له: أتحفني بضيافته الليلة([112])، أي خُصَّني بذلك وأكرمني به، وهذا من بالغ الكرم والنبل.
سادسًا: في الموقف الذي حدث بين أبي ذر t وعلي بن أبي طالب t دليل على الأخذ بالأسباب وعقد التدابير اللازمة للسلامة. فقد رأى كل منهما الآخر وتحادثا معًا ومع ذلك لم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء إلا بعد أن مضت ثلاثة أيام فسأله علي t واطمأن إليه أبو ذرّ.
وكذلك عندما كان أبو ذر يتبع عليًّا t إلى رسول الله، r، حرص عليُّ t على سلامته، وأن لا يصاب بأذى من المشركين، فأخبره أنه إذا رأى شيئًا يخاف عليه منه قام كأنه يريق الماء، فإذا انتهى الخوف مضى فيي طريقه وتبعه. وهذه التدابير مطلوبة شرعًا لأن في تركها تعريض النفس للخطر دون فائدة مرجوة.
سابعًا: في القصة إشارة إلى شجاعة أبي ذر الذي لم يأبه بالمشركين فصرخ بشهادة الحق بين ظهرانيهم تاركًا مصيره لما يقدره الله - عز وجل -.
ثامنًا: وفيها إشارة إلى حنكة العباس وخبرته بقومه فإنه لما أراد إنقاذ أبي ذر من بين أيديهم وهم يضربونه ذكَّرهم بدنياهم، وأن طرق تجارتهم إلى الشام تمر من غفار وهم يعلمون من هي غفار، فكفَّ القوم أيديهم عنه.
تاسعًا: قول أبي ذر للنبي، r: «لأصرخنَّ بها» قال الحافظ: أي بكلمة التوحيد، والمراد أنه يرفع صوته جهارًا بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي، r، له بالكتمان ليس على الإيجاب، بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي، r، على ذلك.
ويؤخذ منه: جواز قول الحق من يخشى منه الأذية لمن قال وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه([113]).
وهذا فقه رشيد من الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حيث إن هذا الأمر لا يمكن أن يُبت فيه بكلمة واحدة سواء بالجواز أو عدم، ولكنه - كما قال: - يختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، والضابط في ذلك هو النظر فيما يترتب على كل قول أو فعل من مصالح ومفاسد.
فأبو ذر t هو - وحده - الذي تعرض للأذى، ولم تتعرض الدعوة لأي مضاعفات من جراء إعلانه هذا في هذه المرحلة من مراحل الدعوة.
وكذلك لم تتورط الدعوة في أي ردّ فعل عكسي، لأن المواجهة مع قريش لم يأت زمانها، وليس من الحكمة أن تساق الدعوة إلى مواجهة لا قِبَلَ لها بها. ولو علم النبي، r، أن الأذى سوف يتعدى أبا ذر إلى غيره من أفراد العصابة المؤمنة لكان نهاه عن هذا الإعلان.
وفي ذلك قال أبو حامد الغزالي: «فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها، فإن إيذاء المسلمين محذور، كما أن السكوت على المنكر محذور»([114]).
وقال عبد الكريم زيدان: «ويحرم الاحتساب إذا ألحق المحتسب من جرائه أذى جسيمًا بغيره من أصحابه أو أقربائه أو رفقائه أو عموم المسلمين، حتى لو قدرنا زوال المنكر، لأنه يفضي إلى منكر آخر هو إلحاق الأذى بالآخرين، وهذا لا يجوز لأن للمسلم أن يتسامح في حق نفسه ويتحمل الأذى، ولكن ليس من حقه أن يتسامح في إيذاء غيره عن طريق احتسابه، وكذلك يحرم الاحتساب إذا أدى إلى وقوع منكر أكبر من المحتسَب عليه، مع لحوق الأذى بالآخرين، وكذلك يحرم الاحتساب إذا لم يكن من ورائه إلا إلحاق الأذى الجسيم بنفسه كقتله أو هتك عرضه دون أن يكون لاحتسابه أي مصلحة أو أي أثر في إزالة المنكر ورفعه»([115]).
عاشرًا: في القصة إشارة إلى فضيلة ماء زمزم وأنها مباركة تشبع شاربها فلا يحتاج معها إلى طعام، فقد اكتفى بها أبو ذر t خمسة عشر يومًا بلياليهن فسمن منها ولم يشعر بأثر الجوع، وقد ورد في فضيلة ماء زمزمم أحاديث وآثار بعضها صالح.
حادي عشر: الجمع بين الروايتين:
قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه، وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس، ولكن الجمع بينهما ممكن([116]). ثم بدأ الحافظ في التوفيق بين الروايتين، وهذا خلاصة ما ذكر:
أ - في رواية مسلم أن أنيسًا أتى له بأخبار عن رسول الله، r، أما في رواية ابن عباس فقد أجمل ولذلك قال له أبو ذر: ما شفيتني، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامهه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل([117]).
ب - قال الحافظ: قوله «قمت كأني أريق الماء» وفي رواية أبي قتيبة: «كأني أصلح نعلي» ويحمل على أنه قالهما جميعًا([118]).
جـ - في حديث أبي ذرّ أنه لقي النبي، r، في الطواف، وفي حديث ابن عباس أنه لقيه مع علي بن أبي طالب t قال الحافظ: ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولًا مع عليّ ثم لقيه في الطواف أو بالعكس،، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر([119]).
د - قال القرطبي : «في التوفيق بيت الروايتين تكلّف شديد ولاسيما أن في حديث عبد الله بن الصامت([120]) أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك».
ومع قول القرطبي هذا فإن الحافظ ابن حجر رأى إمكان الجمع بين الروايتين في ذلك أيضًا فقال: ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه، ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها حال السفر، فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يرحها، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة «فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد»([121]).
هـ - جاء في رواية للإمام مسلم لما سأله النبي، r: «متى كنت هنا»؟ قال: كنت ههنا منذ ثلاثين بين يوم وليلة.
وفي رواية أخرى للإمام مسلم قال: منذ خمس عشرة([122]). ولا تعارض بينهما أيضًا، لأن الخمسة عشر يومًا هي ثلاثون نهارًا وليلة، والعرب تستعمل كلمة اليوم مرادفة للنهار أحيانًا([123])، فقوله منذ ثلاثين ما بين يوم وليلة، أي ما بين نهار وليلة.

6 - فضائل أبي ذر t:

لأبي ذر t فضائل كثيرة يمكن للباحث الوقوف عليها وهو يقرأ في تاريخ الرجل وسيرته، ولكننا نشير هنا إلى الفضائل التي وردت بها النصوص الصريحة والروايات الثابتة الصحيحة، وإن كان ثمت ضعف نبهنا عليهه في موضعه. فمن ذلك:
أولًا: أبو ذر أول من حيَّا النبي، r، بتحية الإسلام، وقد ورد ذلك في قصة إسلامه التي أوردناها آنفا من رواية الإمام مسلم.
ثانيًا: صدقه t فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو t قال: سمعت رسول الله، r، يقول: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء أصدق من أبي ذر»([124]).
ثالثًا: صدق لهجته ووفاؤه وشبهه بعيسى ابن مريم: روى الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله، r: «ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذرّ، شبه عيسى ابن مريم عليه السلام». فقال عمر بن الخطاب كالحاسد([125]): يا رسول الله أفنعرف ذلك له؟ قال: «نعم فاعرفوه له»([126]).
قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال: أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى ابن مريم عليه السلام([127]).
قال أبو حاتم بن حبان معلقًا على هذا الحديث: يشبه أن يكون هذا خطابًا خرج على حسب الحال في شيء بعينه، إذ محال أن يكون هذا الخطاب على عمومه، وتحت الخضراء المصطفى r، والصديق والفاروق - رضي الله عنهما - ([128]).
وقال مثل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كما في منهاج السنة([129]).
رابعًا: أنه كان من الحنفاء قبل أن يسلم وقد ذكرنا ذلك في فوائد قصة إسلامه.

خامسًا: سبقه إلى الإسلام:

قال أبو ذر: كنت ربع الإسلام؛ أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع، أتيت نبي الله، r، فقلت له: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله، r، فقال: «من أنت»؟ فقلت: إني جندب رجل من بني غفار([130]).
قال الشيخ أبو حاتم بن حبان: قول أبي ذرٍّ: كنت رابع الإسلام، أراد من قومه، لأن في ذلك الوقت أسلم الخلق من قريش وغيرهم([131]). ا هـ.
وأما ما رواه الطبراني([132]) والحاكم ([133]) عن أبي ذر t أنه كان يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، لم يسلم قبلي إلا النبي، r، وأبو بكر، وبلال - رضي الله عنهما - فلا يصح إسناده([134]).
وقد استدل الحافظ ابن حجر من مقابلة عليّ بن أبي طالب لأبي ذر في قصة إسلامه بأن هذه القصة إنما وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين. قال: وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر منن سنتين بحيث يتهيأ لعليّ أن يستقلّ بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصحَّ في سنّ علي حين المبعث كان عشر سنين، وقيل: كان أقل من ذلك([135]). ا هـ.

7 - أبو ذر والخلافة:

لم يكن أبو ذر t يقف موقف المعارض من خلافة عثمان t ولم يكن كذلك راغبًا في منصب أو حظٍّ دنيويّ زائل، ولم يكن داعيًا لفتنة أو مؤيدًا لها أو حاثّاً على شقِّ عصا الطاعة كما يحلو للبعض أن يتصور،، بل كان t يقول : ولو أمَّروا على عبدًا حبشيًا لسمعت وأطعت([136])!!
ولكن حقيقة الأمر هي على خلاف ما ظنه هؤلاء أو توهَّموه، فما كانت الخلافات بين أبي ذر وغيره من صحابة رسول الله r، خلافات سياسية، وإنما هي في معظمها خلافات شرعية لا علاقة لها بسياسة عثمان t ونظام حكمه، فأبو ذر t من كبار علماء الصحابة ومجتهديهم، وكان يفتي في خلافة عثمان t وكان يجتهد فيي بعض المسائل ويخالف فيها الجمَّ الغفير من الصحابة - رضوان الله عليهم - وكان الصحابة يحترمون آراءهه واجتهاداته رغم مخالفتهم لها في بعض الأحيان، فهو وإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
ولعلَّ حدَّة أبي ذر t في بعض مواقفه كانت سببًا في إحجام كثير من الصحابة - ومنهم الخليفة نفسه -  عن مناقشته في اجتهاداته التي كان يخالفهم فيها.
دخل أبو ذر على عثمان وهو يقسم الأموال، وعبد الرحمن بن عوف بين يديه، وعنده كعب، فأقبل عثمان على كعب، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدَّق منه ويصل الرحم؟؟ قال كعب: إني لأرجو له، فغضب [أبو ذر] ورفع عليه العصا وقال: وما تدري يا ابن اليهودية، ليودَّنَّ صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا، تلسع السويداء من قلبه([137])!!
وعن غزوان أبي حاتم قال: بينما أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له إذ مرَّ به رجل من قريش فقال: يا أبا ذر ما يجلسك ها هنا؟ قال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب!! فأذن له فجاء حتى جلس ناحية، وميراث عبد الرحمن يقسم، فقال عثمان لكعب: أرأيت المال إن أُدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال: لا. فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه ثم قال: يا ابن اليهودية تزعم أن ليس عليه حقٌّ في ماله إذا آتى زكاته والله يقول: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } [الحشر:: 9]. ويقول: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. فجعل يذكر نحو هذا من القرآن، فقالل عثمان  للقرشي:
إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى([138]).
وروي أن أبا ذر ضرب كعبًا فشجَّه فقال له عثمان t: يا أبا ذر اتق الله واكفف يدك ولسانك([139]).
قال الحافظ الذهبي: وسأله [عثمان] عن أشياء فأخبره بالذي يعلمه، فأمره أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية، فكان يحدّث بالشام فاستهوى قلوب الرجال، فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته.
ثم إن معاوية t أرسل إلى عثمان t أن إذا كان لك بالشام حاجة أو بأهله فابعث إل أبي ذر، فإنه قد وغَّل صدور الناس، فكتب إليه عثمان: أقدم عليَّ، فقدم([140]).
ومما انفرد فيه أبو ذر وخالف الجمع من أصحاب رسول الله، r، قوله بتحريم الادخار مطلقًا، ولأنه قول انفرد به من بين الصحابة أجمعين كان الناس يفرون منه إذا كلمهم فيه، فقد قال الأحنف بن قيس: كنت في مسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فرّوا، حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها فثبتُّ وفروا، فقلت: من أنت؟ فقال: أبو ذر صاحب رسول الله، r، فقلت: ما ينفر الناس منك؟ فقال: إني أنهاهم عن الكنوز، فقلت: إن أُعطياتنا قد بلغت وارتفعت فتخاف علينا منها؟ قال : أما اليوم فلا، ولكنها يوشك أن تكون أثمان دينكم فدعوهم وإياها([141]).
قال ابن عبد البر([142]): وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل عل أنه كان يذهب إلى أن كلَّ مالٍ مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصحَّ ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: هل عليَّ غيرها - يعني الزكاة - قال r«لا إلا أن تطوع»([143]). ا هـ.
وقال الحافظ ابن حجر: وكان أبو ذر يحمل الحديث على إطلاقه، فلا يرى بادخار شيء أصلًا([144]).
وقال القرطبي: وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة، روي ذلك عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده، ومما انفرد به t([145]). ا هــ.


تحميل كتاب أبو ذر الغفاري PDF من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016