-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب غربة الإسلام الجزء الاول PDF برابط ميديا فير




بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القوي المتين، المتفرد بالتدبير والتكوين، الغني عن العالمين أجمعين، فلا تنفعه طاعات المطيعين، ولا تضره معاصي العاصين، خلق الجن والإنس ليعبدوه ويطيعوا أمره ولا يعصوه، وحذّر العاصين من وبيل عقابه كما حل بكثير من الماضين، فقال -تعالى- وهو أصدق القائلين: }أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ{ [الأنعام: 6]، وقال -تعالى- مخبرا عن قوم آخرين: }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ{ [الأعراف: 165-166].
أحمده سبحانه أن أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينا واصطفاه لنا على كل دين }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران: 85].
وأشكره أن هدانا إلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، وأسأله تعالى متوسلا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح حالي وأحوال المسلمين، ويجعلنا بمنِّه وكرمه من عباده المتقين، الذين كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان فكانوا من الرائدين، ونعوذ بالله من فتن المضلين، ومن خطوات الشياطين وإخوان الشياطين.


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين، بعثه الله رحمة للعالمين وحُجة على المعاندين، وأيَّده بالآيات والمعجزات والبراهين، فعلّم به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجعله حرزا للأميين، ولم يزل منذ بعثه الله برسالته قائما بأمر ربه على أكمل الوجوه وأفضلها؛ يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبين للناس ما نزل إليهم من ربهم غاية التبيين، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين، وما من شيء يقربهم من الجنة إلا وقد أمرهم به، وما من شيء يقربهم من النار إلا وقد حذرهم منه؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة، والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين، فجزى الله عنا نبينا أفضل ما جزى أحدا من الأولين والآخرين، فلقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح أمته غاية النصح، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه دائما إلى يوم الدين، وعلى سائر إخوانه من المرسلين والنبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
أما بعد: فهذا كتاب في بيان غربة الإسلام الحقيقي وأهله في هذه الأزمان، وذكر الأسباب العاملة في هدم الإسلام وطمس أعلامه وإطفاء نوره، دعاني إلى جمعه ما رأيته من كثرة النقص والتغيير في أمور الدين،



وما عمَّ البلاء به من المنكرات التي فشت في المسلمين، وابتُلى ببعضها كثير من المنتسبين إلى العلم والدين فضلا عن غيرهم من جهال المسلمين.
ولما كان العمل بالمعاصي من أعظم الإفساد في الأرض؛ لما يترتب على ذلك من نزع البركات، ووقوع الفتن والهلكات، كما قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: }وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا{ [الأعراف: 56]: إن إفسادها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، وكان أيضا شؤم المعاصي لا يختص بالمسيئين، بل يعُمّ من باشر الذنب ومن لم يباشره، إذا ظهر ذلك ولم يُغيَّر، كان من أهم الأمور عندي بيان ما وقع فيه الأكثرون من المخالفات والتحذير من شؤمها وسوء عاقبتها، وحث المؤمنين عامة وولاة الأمور وأهل العلم خاصة على تغيير ما ظهر منها قبل أن يصيبهم الله بعذاب يعم الصالح والطالح، فقد قال تعالى: }وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً{ [الأنفال: 25]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم.
وفي المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع عن أبي سعيد الخدري t قال: سمعت رسول الله r يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»،
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود t أن رسول الله r قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن،

ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل»
ورواه الإمام أحمد في مسنده مختصرا.
وأرجوا من كرم الله تعالى وجوده إتمام ما قصدتُ من البيان والتحذير، وأن يجعل في ذلك براءة للذمة من واجب الجهاد والتغيير، وأسأله تعالى أن يمنَّ عليّ وعلى جميع المسلمين بالإنابة إليه والتوكل في كل الأمور عليه، فإنه لنعم المولى ونعم النصير.


فصل
وقد ورد في غربة الإسلام أحاديث كثيرة نذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.
الحديث الأول: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء» رواه مسلم وابن ماجة.
الحديث الثاني: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي r قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم، ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" ولفظه: «بدأ الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا، فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس».
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك عن رسول الله r قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» رواه ابن ماجة.
الحديث الرابع: عن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله r: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء» قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «النّزّاع من القبائل» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله، والترمذي وابن ماجة والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود، قال: وفي الباب عن سعد وابن

عمر وجابر وأنس وعبد الله بن عمرو y.
الحديث الخامس: عن سعد بن أبي وقاص t: سمعت رسول الله r يقول: «إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه الإمام أحمد.
الحديث السادس: عن سلمان الفارسي t أن رسول الله r قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» رواه الطبراني.
وله أيضا عن جابر وابن عباس y مرفوعا مثل ذلك([1])، وزاد في حديث جابر: قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون عند فساد الناس».
الحديث التاسع: عن سهل بن سعد الساعدي t قال: قال رسول الله r: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» رواه الطبراني.
الحديث العاشر: عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده t أن رسول الله r قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويّة من رأس

الجبل، إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي»
رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو نعيم في الحلية مختصرا، ورواه إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
r: «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: يا رسول الله، مَن الغرباء؟ قال: «الذين يُحيون سنتي من بعدي ويُعلِّمونها عباد الله».
الحديث الحادي عشر: عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله r: «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بالكتاب حين يُترك ويعملون بالسنة حين تُطفأ» رواه الحافظ محمد بن وضاح.
الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله r ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» فقيل: مَن الغُرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» رواه الإمام أحمد والطبراني.
ورواه الحافظ محمد بن وضاح بلفظ: «من يبغضهم أكثر ممن يحبهم»، وعنده في أوله: «طوبى للغرباء» ثلاث مرات.
وكذلك في روايته للإمام أحمد: «طوبى للغرباء» ثلاث مرات.
الحديث الثالث عشر: عنه t قال: قال رسول الله r: «أحب شيء إلى الله الغرباء» قيل: ومَن الغُرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم،



يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريقه، قال عبد الله: سمعت سفيان بن وكيع يقول: إني لأرجو أن يكون ابن حنبل منهم.
قال القاضي عياض: روى ابن أبي أويس، عن مالك -رحمه الله تعالى- معنى «بدأ غريبا» أي: بدأ الإسلام غريبا في المدينة، وسيعود إليها. انتهى.
قلت: ويستدل لهذا القول بما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»، قال الجوهري: أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. انتهى.
وروى أبو داود في سننه، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله r: «يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح»، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه، زاد أبو داود: قال الزهري: وسلاح قريب من خيبر.
وروى الطبراني في الصغير أيضا من طريق الزهري عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله r يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالك المسلمين بسلاح»، وسلاح من خيبر.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث الزهري عن سالم أنه سمع


أبا هريرة t يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالح المسلمين سلاح»، وسلاح قريب من خيبر.
قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ. انتهى.
قلت: وقد سبقه إلى تقرير هذا المعنى الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه "إنكار الحوادث والبدع" لما ذكر قوله r: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» قال: ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريبا مستخفيا بإسلامه قد جفاه العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا لكثرة أهل الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. انتهى.
وقد قرر هذا المعنى أيضا الحافظ ابن رجب وأطال الكلام عليه، وكذلك شيخه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وغير واحد من المحققين؛ قال ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله: «بدأ الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي r في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»، فلما بُعث النبي r ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى ويُنال منه،


وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يُشرّدون كل مُشرّد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية؛ كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يُعذّب في الله ومنهم من يُقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله r والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ثم عمل الشيطان مكائده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم وأفشا فيهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق؛ فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي r بوقوعه.
فأما فتنة الشبهات فقد روي عن النبي r من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة، على اختلاف الروايات في عدد الزيادة على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه r.
وأما فتنة الشهوات ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي r قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس


والروم، أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، قال: «أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون».
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي r قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسونها، فتهلككم كما أهلكتهم».
وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر t عن النبي r معناه أيضا.
ولما فُتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب t بكى، فقال: إن هذا لم يُفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال.
وكان النبي r يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة t عن النبي r قال: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومُضلّات الفتن»، وفي رواية: «ومضلّات الهوى» فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمّت غالب الخلق ففُتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون ولها يغضبون، ولها يوالون وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا، وكفّر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخوانا، قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا

الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله
r: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»، وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في الأحاديث؛ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرُّون بدينهم من الفتن، وهم النّزّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد كما كان الداخلون في الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث، قال الأوزاعي في قوله r: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ»: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرا مدح السنة، ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها.
ورُوي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرّف بالسنة فعرفها غريبا، وأغرب منه من يعرفها.
وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء.
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي r التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض

يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي
r وأصحابه y، ثم صار في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم، السنة عبارة عن ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة. وإنما خصُّوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة.
وأما السُنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات في تفسير الغرباء: «قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم، ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانا في الخير، وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.


وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت t أنه قال لرجل من أصحابه: يوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد r فأعاده وأبداه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، ونزل عند منازله، لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت، ومثله قول ابن مسعود t: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة، وإنما ذُلّ المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لما هم عليه. انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله تعالى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على قوله تعالى: }فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ{ الآية [هود: 116]: الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية وهم الذين أشار إليهم النبي r في قوله: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»، وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله r ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن أهل الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة، ولكن هؤلاء هم أهل

الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين، قال الله تعالى فيهم:
}وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ{ [الأنعام: 116]، فأولئك هم الغرباء عن الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم.
فالغربة ثلاثة أنواع:
غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق؛ وهي الغربة التي مدح رسول الله r وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا، وأنه سيعود غريبا، وأن أهلها يصيرون غرباء. وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي r التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالإتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، فلِغُربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي r إنهم النزاع من القبائل، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله r وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عبّاد أوثان، وعبّاد نيران، وعبّاد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فٍكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله

غريبا في حيّه، وقبيلته، وقريته، وأهله، وعشيرته، وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله r وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء بين الناس، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات ومناصب وولايات لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول r، فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شيخهم وأعجبوا منه برأيه؟! انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ومراده بشيخ أهل الأهواء إبليس لعنه الله، ورأيه الذي أعجب به أتباعه هو المعارضة بين العقل والنقل وتقديم العقل على النقل عند التعارض، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني- قال: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام


غريبا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا، صريع عدوّه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها! وسائر ذلك من الهمج، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار؛ هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرَّجه أبو نعيم في الحلية، فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله. انتهى.
قلت: وقد روى البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده وفي كتاب الزهد بأسانيد صحيحه عن أم الدرداء قالت: دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد r شيئا إلا أنهم يصلون جميعا.
ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" بإسناده إلى أم الدرداء فذكره، قال: وفي لفظ: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمه، ثم تفقده ما عرف منه شيئا.
وروى أيضا بإسناده عن أبي الدرداء t قال: لو خرج رسول الله r اليوم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي رحمه الله: فكيف لو كان اليوم؟! قال عيسى -يعني الراوي عن الأوزاعي-: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!


وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله r بين أظهُرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه فقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه!
وروى الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس t قال: ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله r! قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها؟!
وفي صحيح البخاري أيضا عن الزهري قال: دخلتُ على أنس بن مالك t بدمشق وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت.
وروى الحافظ محمد بن وضاح بإسناده عن أنس t قال: ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله r! ليس قولكم لا إله إلا الله.
وروى ابن سعد في الطبقات عن ثابت البُناني قال: كنا مع أنس بن مالك t فأخَّر الحجَّاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد النبي r إلا شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ قال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله r؟
وروى محمد بن وضاح بإسناده عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض الأودية

لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه.
وقال مالك: بلغني أن أبا هريرة t تلا: }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا{ [النصر: 1-2] فقال: والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا.
وقد رواه الحاكم عنه مرفوعا كما سيأتي في آخر الفصل الذي بعد هذا.
وروى مالك أيضا عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة. يعني بالناس: أصحاب رسول الله r.
روى أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة أنه قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب محمد r لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه اليوم إلا الأذان.
وروى محمد بن وضاح بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة.
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومنّني على البكاء، ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله r أنتم عليه إلا قبلتكم هذه.


وروى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن أنه قال: ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم.
وروى محمد بن وضاح بإسناده عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة.
قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أبي الدرداء t: وقوله: والله ما أعرف من أمة محمد r شيئا إلا أنهم يصلون جميعا؛ مراد أبي الدرداء t أن أعمال المذكورين يحصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي؛ لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلاقة عثمان t، فياليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء! فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان. انتهى.
قلت: وما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، وما زال النقص والتغيير في أمور الدين في ازدياد وكثرة كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس t أنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم r، رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة: اعلموا -رحمكم الله- أن الإسلام في إدبار وانتقاص واضمحلال ودروس، جاء الحديث: «ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم». وعن النبي r أنه قال: «خير

أمتي الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة»
.
وجاء عنه r أنه قال لأصحابه: «أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة». انتهى.
فكلما طال الأمد وبَعُد العهد بآثار النبوة زاد الشر، وكثر النقص والتغيير في أمور الدين كما دلت على ذلك الأحاديث وشهد به الواقع، فياليت شعري ماذا يقول أبو الدرداء، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومالك بن أبي عامر، ومعاوية بن قرة، والحسن البصري، وميمون بن مهران، وأحمد بن عاصم لو رأوا ما وقع بعدهم من الحوادث الكثيرة، والفتن التي يُرقِّق بعضها بعضا؟! وماذا يقول ابن القيم، وابن رجب لو رأيا غربة الإسلام الحقيقي وأهله في أواخر القرن الرابع عشر كيف اشتدت واستحكمت؟! وماذا يقولون كلهم لو رأوا هذه الأزمان التي لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه؟!
قد رفعت فيها رايات الكفر والنفاق، وبلغت روح العلم والإيمان إلى التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، ونزل فيها الجهل وظهر وثبت، وبث في مشارق الأرض ومغاربها كل البثّ، ونثّ بين الناس كلهم غاية النثّ، وهُجرت فيها السنة النبوية والطريقة السلفية، وهان أهلها على الناس، وتُرك فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، وضعف فيها جانب الأمر بالمعروف حتى أشفى على العدم، وفشت فيها المنكرات وظهرت ولم

تغير، ومرجت فيها عهود الأكثرين وخفت أماناتهم، وكثر اختلافهم وخوضهم فيما لا يعنيهم، وكانوا حثالة وغثاء كغثاء السيل، قد قلّ فيهم الفقهاء العاملون، وكثر فيهم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، وكثر فيهم الخطباء المتفصحون المتنطعون المتقعرون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون كتاب الله أفلا يعقلون، وكثر فيهم الذين يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، وكثر فيهم إخوان العلانية أعداء السريرة، وكثر فيهم الذين يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها، بضاعتهم التملق بالكذب والتمادح بالباطل، إن أُعطي أحدهم قليلا من حطام الدنيا رضي وغلا في المدح وجاوز الحد في الإطراء، وإن لم يُعط سخط وأفرط في الذم وانتهاك الأعراض المحرمة بغيا وعدوانا.
وماذا يقولون لو رأوا أكثر المنتسبين إلى الإسلام يعظِّمون الكفار والمنافقين، ويتسابقون إلى تقليد أعداء الله في أقوالهم وأفعالهم، ويتنافسون في مشابهتهم والحذو على مثالهم؟ قد أعجبوا بزخارفهم الباطلة وآرائهم الفاسدة، وقوانينهم وسياساتهم الجائرة الخاطئة الفاجرة، وافتتنوا بمدنيتهم الزائفة الزائغة، وما تدعو إليه من الترف واتباع الشهوات، والأشر والبطر واللهو واللعب والغفلة عن الله والدار الآخرة، بل ما تدعو إليه من الإباحية والانحلال من دين الإسلام بالكلية، والبعد عن الفضائل ومكارم الأخلاق، والتحلي بالرذائل وسفساف الأخلاق،



وشغفوا أيضا بالصحف والمجلات، وأخبار الإذاعات، وما ينشر في الجميع من الخرافات والهذيانات والخزعبلات وأنواع المحرمات، حتى دخل على كثير منهم من الشكوك والأوهام والشبهات ما أضلهم عن الهدى، وأوقعهم في مهامه الغي والردى، فتهاونوا بكثير من المأمورات، وارتكبوا كثيرا من المحظورات، وبسبب هذه الأفعال الذميمة انتقضت عرى كثيرة من عرى الإسلام، واشتدت غربة الإيمان والسنة بين الأنام، حتى عاد عند الأكثرين المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على ذلك صغيرهم وهرم عليه كبيرهم، فيالها من مصيبة على الإسلام وأهله ما أعظمها وأنكاها، ويالها من فتن مظلمة أوهت قواعد الشريعة وهدمت بناها.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وماذا يقولون لو رأوا الطامة الكبرى؟! وهي عبادة الأوثان في أكثر الممالك الإسلامية، حتى أعاد أهلها بذلك أمر الجاهلية الذين بُعث إليهم النبي r، بل كانوا شرا منهم كما لا يخفى على عاقل عرف حال أهل الجاهلية الأولى وعرف ما عليه المشركون في هذه الأزمان، وسنذكر الفرق بينهم فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ونذكر أيضا ما وقع فيه أكثر المسلمين من المخالفات التي أوهت الإسلام وثلمته وهدمته، فإلى الله المشتكى، وبه المستغاث، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان وأحسن فيما قال رحمه الله تعالى:
على الدين فليبكي ذوو العلم والهدى


فقد طُمست أعلامه في العوالم

وقد صار إقبالُ الورى واحتيالهم
                   

على هذه الدنيا وجمع الدراهم

وإصلاح دنياهم بإفساد دينهم
                   

وتحصيل ملذوذاتهم والمطاعم

يعادون فيها بل يوالون أهلها


سواء لديهم ذو التقى والجرائم

إذا انتقص الإنسان منها بما عسى
                                                             

يكون له ذخرا أتى بالعظائم

وأبدى أعاجيبا من الحزن والأسى
                                                             

على قلة الأنصار من كل حازم

وناح عليها آسفا متظلما
                                                             

وباح بما في صدره غير كاتم

فأما على الدين الحنيفي والهدى
                                                             

وملة إبراهيم ذات الدعائم

فليس عليها والذي فلق النوى
                                                             

من الناس من باك وآس ونادم

وقد درست منها المعالم بل عفت
                                                             

ولم يبق إلا الاسم بين العوالم

فلا آمر بالعرف يعرف بيننا
                                                             

ولا زاجر عن معضلات الجرائم

وملة إبراهيم غودر نهجها
                                                             

عفاء فأضحت طامسات المعالم

وقد عدمت فينا وكيف وقد سفتْ
                                                             

عليها السوافي في جميع الأقالم

وما الدين إلا الحب والبغض والولا
                                                             

كذاك البرا من كل غاو وآثم

وليس لها من سالك متمسك
                                                             

بدين النبي الأبطحي ابن هاشم

فلسنا نرى ما حلَّ بالدين وانمحت
                                                             

به الملة السمحاء إحدى القواصم

فنأسى على التقصير منا ونلتجي
                                                             

إلى الله في محو الذنوب العظائم


فنشكو إلى الله القلوب التي قست


وران عليها كسب تلك المآثم

ألسنا إذا ما جاءنا متضمخ


بأوضار [أهل]([2]) الشرك من كل ظالم

نَهشُّ إليهم بالتحية والثنا


ونهرع في إكرامهم بالولائم

وقد برئ المعصوم من كل مسلم


يقيم بدار الكفر غير مصارم

ولا مظهر للدين بين ذوي الردى


فهل كان منا هجر أهل الجرائم

ولكنما العقل المعيشي عندنا


مُسَالمة العاصين من كل آثم

فيا محنة الإسلام من كل جاهل


ويا قلة الأنصار من كل عالم

وهذا أوان الصبر إن كنت حازما


على الدين فاصبر صبر أهل العزائم

فمن يتمسك بالحنيفية التي


أتتنا عن المعصوم صفوة آدم

له أجر خمسين امرئ من ذوي الهدى


من الصحب أصحاب النبي الأكارم

فنُح وابكِ واستنصر بربك راغبا


إليه فإن الله أرحم راحم

لينصر هذا الدين من بعد ما عفت


معالمه في الأرض بين العوالم

أقول: رحمة الله علينا وعلى الشيخ سليمان، كيف لو رأى ما حدث بعده من العظائم التي كان يخشى وقوعها في قوله:
وإني لأخشى أن تجيء عواضل


وليس لها من منكر حين تفتعل


فقد وقع الأمر كما قال رحمه الله تعالى، وجاءت عواضل كثيرة فلم

تنكر، ثم زاد الأمر حتى أُنكِر على من يُنكِر المنكر، وقُمع بعضهم وقُهر واضُطهد، وظهر مصداق ما جاء في حديث أبي أمامة
t الذي رواه الطبراني وغيره مرفوعا إلى النبي r أنه قال: «إن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا وأنصارا».
وللشيخ يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي نظم حسن يصف فيه غربة الإسلام في زمانه، وهو يليق بأواخر القرن الرابع عشر أكثر مما يليق بالقرن السابع، قال رحمه الله تعالى:
نُح وابكِ فالمعروف أقفر رسمه


والمنكر استعلى وأثر وسمه

لم يبق إلا بدعة فتّانة


بهوى مضل مستطير سُمّه

وطعام سوء من مكاسب مُرَّة


يُعمي الفؤاد بدائه ويُصمه

ففشا الرياء وغيبة ونميمة


وقساوة منه وأثمر إثمه

لم يبق زرع أو مبيع أو شرا


إلا أُزيل عن الشريعة حكمه

فلكيف يفلح عابد وعظامه


نشأت على السحت الحرام ولحمه

هذا الذي وعد النبي المصطفى


بظهوره وعدا توثق حتمه

هذا لعَمْرُ إلهك الزمن الذي


تزداد شرته وينقص حلمه

وَهَت الأمانة فيه وانقصمت عرى الـ


ـتقوى به والبر أدبر نجمه

كثر الريا وفشا الزنا ونما الخنا


ورمى الهوى فيه فأقصد سهمه


ذهب النصيح لربه ونبيه


وإمامه نصحا تحقق عزمه

لم يبق إلا عالم هو مُرتشٍّ


أو حاكم يغشى الرعية ظلمة

والصالحون على الذهاب تتابعوا


فكأنهم عقد تناثر نظمه

لم يبق إلا راغب هو مُظهر


للزهد والدنيا الدنية همه

لولا بقايا سُنَّة ورجالها


لم يبق نهج واضح نأتمّه

يا مقبلا في جمع دنيا أدبرتْ


كبناءٍ استولى عليه هدمه

هذي أمارات القيامة قد بدت


لمُبَصَّر سَبَرَ العواقبَ فهمه

ظهرت طغاة الترك واجتاحوا الورى


وأبادهم هرج شديد حطمه

والشمس آن طلوعها من غربها


وخروج دجال فظيع غشمه

وآن ليأجوج الخروج عقيبه


من خلف سد سوف يفتح ردمه

فاعمل ليوم لا مردَّ لوقعه


يُقصي الوليدَ به أبوه وأمه




فصل
وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار بما سيقع في آخر الزمان عند اشتداد غربة الإسلام والسنة؛ من تغيُّر الأحوال وظهور النقص في أمور الدين، وكثرة الشر والفساد. وقد ظهر مصداق أكثرها من أزمان متطاولة، وما زال الشر يزداد على ممر الأوقات أو كاد أن يتكامل ظهور الجميع في هذه الأزمان كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم للأحاديث ومعرفة بالواقع. ونذكر من ذلك ما يسره الله تعالى من صحيح وحسن وضعيف مما هو مطابق للواقع، وكفى بالواقع برهانا على صحة الضعيف منها، وشاهدا بخروجه من مشكاة النبوة.
الحديث الأول: عن مرادس الأسلمي t قال: قال رسول الله r: «يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالةً» رواه الإمام أحمد والبخاري.
وفي رواية له موقوفة: «لا يعبأ الله بهم شيئا»، وقال -رحمه الله تعالى-: يقال: حفالة وحثالة، يعني أنهما بمعنى واحد.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل: آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه.
وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما.


وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة، ويبقى من التمر بعد الأكل.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: «وتبقى حفالة كحفالة التمر» أي: رذالة من الناس كرديء التمر ونفايته.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في "فتح الباري": وجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ: «تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز» أخرجه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر، وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع. انتهى.
وقوله: «لا يباليهم الله بالة» أي: لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا. قاله الخطابي وأبو موسى المديني؛ قال الخطابي: يقال: باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة، وقال أبو موسى: أصل بالة بالية، مثل عافاه الله عافية، فحذفوا الياء منها تخفيفا، يقال: ما باليته وما باليت به أي: لم أكترث به. انتهى.
وهذا هو معنى قوله في الرواية الأخرى: «لا يعبأ الله بهم شيئا».
الحديث الثاني: عن رويفع بن ثابت الأنصاري t أن رسول الله r قال: «تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا مثل هذا، وأشار إلى حشف التمر» رواه البخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.


الحديث الثالث: ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة معلقا فقال: جاء الحديث: «ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم» ورواه البخاري في كتاب الأدب المفرد موصولا عن الحسن من قوله.
الحديث الرابع: عن ابن مسعود t أنه قال: «الصالحون أسلافا، ويبقى أهل الريب ممن لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا» رواه أبو نعيم وغيره وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.
الحديث الخامس: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «لتنتقنّ كما ينتقى التمر من الجفنة، فليذهبن خياركم وليبقين شراركم، حتى لا يبقى إلا من لا يعبأ الله بهم، فموتوا إن استطعتم» رواه البخاري في الكُنى، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه وهذا لفظه.
الحديث السادس: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله r قال: «كيف بكم وبزمان -أو يوشك أن يأتي زمان- يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا –وشبك بين أصابعه» فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ قال: «تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم» رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.


وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عنه t قال: بينما نحن حول رسول الله r إذ ذكر الفتنة فقال: «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم وكانوا هكذا -وشبك أصابعه» قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: «الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قوله: «يغربل الناس فيه غربلة»، قال أبو عبيد الهروي: أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم، والمغربل: المنتقى، كأنه نُقِّي بالغربال.
وقال سعيد بن منصور: حثالة الناس: رداءتهم، قال: ومعنى قوله: «قد مرجت عهودهم»: إذا لم يفوا بها.
وقال الطيبـي: «مرجت عهودهم»: اختلطت وفسدت، وشبك بين أي أصابعه أي يمرج بعضهم ببعض، ويتلبس أمر دينهم فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر.
وقوله: «وتقبلون على خاصتكم»: رخصة في ترك الأمر بالمعروف إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. انتهى.
وفي هذا الأخير نظر سيأتي بيانه في ذكر الأمر بالمعروف إن شاء الله تعالى.
الحديث السابع([3]): عن ثوبان t قال: قال رسول الله r: «يوشك


الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهذا لفظه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في دلائل النبوة.
وفي رواية أحمد وأبي نعيم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق» والباقي نحوه.
والغثاء: الزبد وما ارتفع على الماء مما لا ينتفع به، قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ونقله عنه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وقال الراغب الأصفهاني: يضرب به المثل فيما يضيع ويذهب غير معتد به. انتهى.
الحديث الثامن: عن علي t قال: قال رسول الله r: «يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر مَن تحت أديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود» رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة مختصرا بدون إسناد فقال: وجاء عنه r: «يأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه».
الحديث التاسع: عن أنس t عن النبي r قال: «يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة» رواه أبو نعيم في الحلية، والحاكم في

المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان.
الحديث العاشر: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله: أبي تغترون أم عليّ تجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» رواه الترمذي.
قوله: «يختلون الدنيا بالدين» يعني أنهم يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة، والختل: الخداع، يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه، وهذا يطابق حال الذين اتخذوا قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأذان والإمامة وغير ذلك من الأمور الدينية طرقا للتكسب وجمع الأموال، وهو بالقُرَّاء الفسقة أخص لما يأتي في حديثي معاذ وحذيفة -رضي الله عنهما- من التصريح بذلك، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في تفسيره عن أُبي بن كعب t أن رسول الله r قال: «بشر هذه الأمة بالسناء، والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب».
وقوله: «يلبسون للناس جلود الضأن من اللين» كناية عن تملقهم للناس وتحسين الخُلُق في وجوههم وإظهار البشاشة لهم واللين معهم، وكل ذلك منافقة باللسان وتكلف وتصنع في الظاهر، وأما في الباطن فهم

بخلاف ذلك؛ ولهذا وصف ألسنتهم بغاية الحلاوة فقال في هذا الحديث «ألسنتهم أحلى من السكر»، وقال في حديث ابن عمر: «ألسنتهم أحلى من العسل»، وشبّه قلوبهم بقلوب الذئاب لما انطوت عليه من مزيد الخبث والغدر والفجور، ووصفها بغاية المرارة والنتن، فقال في حديث ابن عمر
-رضي الله عنهما-: «وقلوبهم أمر من الصبر»، وقال في حديث معاذ بن جبل t: «وقلوبهم أنتن من الجيف»، ومثل ذلك ما في الحديث الطويل عن حذيفة t، ووصفهم في الحديث الآخر عن معاذ بأنهم إخوان العلانية أعداء السريرة، ونحو ذلك في حديث سلمان t، وما أكثر هذا الضرب الرديء في هذه الأزمان، فالله المستعان.
وقوله: «فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» قال النووي: قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار، قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة. انتهى، قال الحافظ ابن حجر: وتطلق الفتنة على الكفر والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى: }وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً{ [الأنبياء: 35]. انتهى.
والمراد بما في هذا الحديث: الفتنة في الشر؛ لقوله: «تدع الحليم
 


منهم حيرانا»، والله أعلم.
وقوله في هذا الحديث: «فتنة ظلماء» كناية عن عظمها وتحير من وقع فيها وبعده من السلامة، وقد روى مسلم في صحيحه عن حذيفة t قال: كنا عند عمر t فقال: أيكم سمع رسول الله r يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي r يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت؟ لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله r يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه».
قوله: «تعرض الفتن على القلوب» قال النووي: قال الأستاذ أبو عبد الله ابن سليمان معناه: تظهر على القلوب، أي تظهر لها فتنة بعد أخرى.
قوله: «كالحصير» أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى، شبَّه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد، ومعنى «أشربها» دخلت فيه دخولا تاما وألزمها، وحلت منه محل الشراب، ومعنى «نكت نكتة» نقط

نقطة. انتهى مُلخصا.
وقوله: «مثل الصفا» كناية عن صلابته في الدين، وأن الفتن لا تؤثر فيه، ولهذا قال: «فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض»، و«الأسود المرباد» هو ما خالط سوداه غيره؛ قال النووي: قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره: الربدة لون بين السواد والغبرة، وقال ابن دريد: الربدة لون أكدر، وقال غيره: هي أن يختلط السواد بكدرة، وقال نفطويه: المربد: الملمع بسواد وبياض، ومنه تربّد لونه أي تلون، والله أعلم.
وقوله: «كالكوز مُجَخِّيا» قال سعد بن طارق -أحد رواة هذا الحديث-: يعني منكوسا، وقال أبو عبيد الهروي: المجخي المائل عن الاستقامة والاعتدال. فشبَّه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء.
قال النووي: قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك. انتهى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات؛ فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى.
إذا علم هذا، فكثير من القرّاء والمنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين


وكُتَّاب في زماننا قد تهوّكوا في كثير من فتن الشبهات وفتن الشهوات واتبعوا في ذلك أهواءهم بغير روية ولا مبالاة }وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{ [القصص: 50]، فكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الكفر الأكبر والشرك الأكبر ووسائله وما يدعو إليه ويقرب منه، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة النفاق الأكبر والزندقة والإلحاد، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن الشرح الأصغر والكفر الأصغر والنفاق الأصغر، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن البدع والأهواء  المضلة، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الفسوق والعصيان من ترك المأمورات وارتكاب المحظورات، فمن ذلك تهوّكهم في التشبه بأعداء الله تعالى واتباع سنتهم حذو القذة بالقذة، وقد قال النبي r: «من تشبه بقوم فهو منهم».
فكثير منهم يتشبهون بالنصارى والمجوس والمشركين في حلق اللحى والتمثيل بشعر الوجه، وكثير منهم يتشبهون بالنصارى في حلق جوانب الرأس وتسريح الباقي إلى جهة القفا ويسمونه "التواليت"، وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في فرق شعورهن من جانب الرأس وفي تسريح شعورهن إلى جهة القفا وجمعها معقوصة خلف الرأس كأنها أسنمة البخت المائلة كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، ويأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في لبس الثياب التي لا تستر إلا بعض أجسادهن كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: «كاسيات عاريات» ويكون في أوساط بعض تلك ثياب تكة تشبه الزنار، ويأمرونهن أيضا بجعل

جيوبهن من ناحية القفا تشبها بأعداء الله تعالى وخلافا للمسلمين.
وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم بالسفور عند الرجال الأجانب مشابهة للإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال، ولا يغارون من خلوة الرجال الأجانب بهن ولا بغيرهن من محارمهم، وكثير منهم يتشبهون باليهود والنصارى في الإشارة بالكف والأصابع ورفع اليد إلى جانب الوجه عند التسليم، وكثير منهم يتشبهون بمشركي قريس وبطوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال في التصفيق في الأندية والمجامع عند التعجب واستحسان المقالات، وكثير منهم قد اعتاضوا عن أحكام الشرع بقوانين أعداء الله وأنظمتهم وسياساتهم الخاطئة وآرائهم الفاسدة.
ومن ذلك تهوّكهم في تعظيم أعداء الله بالقيام لهم وبداءتهم بالسلام وتصديرهم في المجالس وتقديمهم على المسلمين في الدخول ومناولة ما يؤكل ويشرب والتبسط لهم، وتصديقهم في كثير من مزاعمهم الباطلة المخالفة لما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد t، وقد غضب النبي r لما رأى مع بعض أصحابه صحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب وقال: «أمتهوّكون فيها؟»، فكيف لو رأى ما آل إليه الأمر في زماننا من انتشار مقالات أعداء الله وآرائهم وتخرصاتهم بين المسلمين، وقبول كثير منهم لها، وتنافسهم في تعلمها وتعليمها أكثر مما يعتني بالعلوم الشرعية، فالله المستعان.
ومن ذلك تهوكهم في شرب الدخان الخبيث المسمى بالتتن، ويسمى أيضا التنباك والتبغ، ومن ذلك تهوكهم في استماع الغناء والمزامير وأنواع

المعازف والملاهي وأصوات النساء الأجنبيات ونغمات البغايا... ([4])، وتهوكهم في اتخاذ آلات ذلك كالراديو والصندوق المسمى الفونوغراف وغير ذلك من آلات اللهو والطرب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتمكين نسائهم وبناتهم وغيرهن من محارمهم من الحضور عند الراديو وغيره من آلات اللهو، واستماعهن إلى أنواع المحرمات التي تُشوِّقهن إلى فعل الفواحش وأنواع المحرمات([5]).
ومن ذلك تهوكهم في الحضور عند السينما التي هي من أنواع السحر ومن أخبث الملاهي التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ومن ذلك تهوكهم في اتخاذ الساعات التي فيها الموسيقى المطربة، ومثل ذلك اتخاذ السيارات التي فيها الراديو والموسيقى المطربة.
ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالأوراق المسماة بالجنجفة، والمقامرة



على اللعب بها وذلك من الميسر المحرم، ومثل ذلك اللعب بالكيرم ونحوه وأخذ العوض على الغلبة فيه.
ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالكرة وهو من الأشر المذموم، وأخذ العوض على الغلبة فيه من الميسر المحرم.
ومن ذلك تهوكهم في تصوير الحيوانات واقتناء الصور واشتراء الصحف والكتب المشحونة بالتصاوير، ووضع صور الملوك والأكابر في المجالس.
ومن ذلك تهوكهم في قراءة الجرائد والمجلات والكتب العصرية وصرف هممهم إلى مطالعتها وإعراضهم عن تدبر كتاب الله تعالى وسُنة رسوله r والنظر في علوم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
ومن ذلك تهوكهم في بعض الأمصار مع النساء الأجنبيات في معاشرتهن والخلوة بهن وبالمردان، وذلك من أعظم الوسائل إلى ارتكاب الفاحشة كما في الحديث: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»، وقال r: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»، والأمرد مثل المرأة في ذلك أو أعظم، إلى غير ذلك من الفتن التي قد تهوّك فيها كثير منهم، وبعضهم متهوكون في جميع هذه الأفعال السيئة وبعضهم في كثير منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وتهوكهم هذا -والله أعلم- مقدمة بين يدي الفتنة الظلماء التي أشار إليها في حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ومعاذ وأنس y، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحديث الحادي عشر: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي r قال: «إن الله تبارك وتعالى قال: لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، فبي حلفت لأتيحنّهم فتنةً تدع الحليم منهم حيراناً، فبي يغترّون أم عليّ يجترئون؟» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد جاء ذكر هذا الضرب الرديء في الكتب المتقدمة كما قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل؛ «قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون، وبي يغترون؟ حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانا»، قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ{ الآية [البقرة: 204].
ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق أحمد بن سعيد عن عبد الله بن وهب به مثله.
قال ابن جرير: وحدثني محمد بن أبي معشر أخبرني أبو معشر نجيح قال:


سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض الكُتُب «إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مُسُك الضأن من اللين، يجترئون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترون! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانا»، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد.
الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن مسعود t أنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غيّرت السنة؟» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقِّه لغير الدين» رواه عبد الرزاق والدارمي والحاكم في مستدركه، ورمز الذهبي في تخليص المستدرك إلى أنه على شرط البخاري ومسلم.
وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.
وقد رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعا إلى النبي r قال: والمشهور من قول عبد الله موقوف.
الحديث الثالث عشر: عن علي t أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر t: متى ذلك يا علي؟ قال: «إذا تفقه لغير الدين، وتعلم


العلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة» رواه عبد الرزاق.
الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم جابيا ولا عريفا ولا شرطيا» رواه الطبراني.
الحديث الخامس عشر: عن مكحول عن معاذ بن جبل t قال: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وعرفاء ظلمة، وقُرَّاء فسقة، أهواؤهم مختلفة، ليست لهم زِعَة، يلبسون ثياب الرهبان وقلوبهم أنتن من الجيف، فيلبسهم الله فتنة ظلماء يتهوكون فيها تهوك اليهود» ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع".
ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" من حديث علي المرادي عن معاذ t مختصرا، قال: «يكون في آخر الزمان قُرَّاء فسقة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وعرفاء ظلمة، وأمراء كذبة» وهكذا رواه البخاري في "التاريخ الكبير" إلا أنه قال عن عيسى المرادي، والله أعلم، وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف.
وقوله فيه: «ليست لهم زعة» أي ليس لهم وازع من خوف الله تعالى يكفهم ويمنعهم عن الفسوق والعصيان ومخالفة أوامر الله ورسوله r.
الحديث السادس عشر: ما رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الجلد جيلان بن فروة عن معقل بن يسار t قال: سمعت رسول الله r
 
يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يَخْلَق القرآن في صدور أقوام من هذه الأمة كما تَخْلَق الثياب، ويكون ما سواه أعجب إليهم، ويكون أمرهم طمعا كله لا يخالطه خوف، إن قصَّر عن حق الله منَّتْه نفسه الأماني، وإن تجاوز إلى ما نهى الله عنه قال: أرجو أن يتجاوز الله عني، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم المداهن» قيل: ومن المداهن؟ قال: «الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر».
الحديث السابع عشر: عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: «يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصَّروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا، إنا لم نشرك بالله شيئا، أمرهم كله طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في دينه المداهن» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد".
وهذا الأثر كالذي قبله يحمل على أنه بلغه عن النبي r؛ لأن الإخبار عن المغيبات لا دخل للرأي فيه، وإنما يتلقى عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.
الحديث الثامن عشر: عن سعد بن أبي وقاص t قال: قال رسول الله r: «لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها» رواه الإمام أحمد وأشار إليه الترمذي في جامعه.
الحديث التاسع عشر: عن معاذ بن جبل t أن النبي r قال:



 «يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة» فقيل: يا رسول الله، وكيف يكون ذلك؟ قال: «ذلك برغبة بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض» رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية.
وروى أبو نعيم أيضا أن أبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- كتبا إلى عمر بن الخطاب t كتابا فذكره، وفيه: وإنا كنا نُحدَّث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، فكتب إليهما عمر بن الخطاب t جواب كتابهما وفيه: كتبتما تحذراني أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم.
الحديث العشرون: عن سلمان الفارسي r قال: «إذا ظهر العلم -وفي رواية: القول- وخزن العمل، وائتلفت الألسن، واختلفت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم» رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد موقوفا، ورواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما مرفوعا إلى النبي r.
وفي مراسيل الحسن: «إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام؛ لعنهم الله عز وجل عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم».




([1]) وحديث جابر وابن عباس -رضي الله عنهما- عند الطبراني هما الحديث السابع والثامن بتعداد الشيخ الوالد -رحمه الله- وإن لم يصرح بذلك؛ فقد وضع فوق كل منهما خطا بلون أحمر علامة التعداد كما هو منهجه رحمه الله، ورقمه للحديث التاسع بعده يؤكد ذلك.
([2]) ساقطة من الأصل، والتصحيح من ديوان الشيخ المسمى (عقود الجواهر المنضدة الحسان شعر سليمان بن سحمان) ص459.
([3]) علق الوالد رحمه الله هنا بقوله: في ص359ج2 من المسند عن أبي هريرة t نحوه فليراجع.
([4]) كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها: المتهتكات.
([5]) كلامه -رحمه الله- عن الراديو وعدّه من المحرمات إنما هو من باب التحريم بالوصف؛ لما استقر عليه الحال وقت تصنيف الكتاب -وهو السبعينات بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة- حيث اتصفت عامة الإذاعات في تلك الفترة بنشر الباطل من الأغاني المحرمة، والدعايات المضللة لملل الكفر ومذاهبه، وانحصر الخير فيها في أوقات ضيقة قد تقتصر على الافتتاح ونحو ذلك، والحكم للأعم الأغلب. ومما يؤكد هذا أنه -رحمه الله- بعد ظهور الإذاعات المتصفة بسلامة المنهج والمشتملة على الدعوة إلى الخير والفضيلة وما ينفع الناس في دينهم ودنياهم -كإذاعة القرآن الكريم- كان يحض على سماعها، والاستفادة من البرامج المنقولة عبرها، بل ويستمع إليها أحيانا، ولو كان يرى حرمة العين لما فعل ذلك.


لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف من الرابط اسفل المقال 

تحميل كتاب غربة الإسلام الجزء الاول PDF برابط ميديا فير من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016