-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب روائع القصص الإسلامي PDF برابط مباشر ميديا فير


الزمرة الأولى

قصص السابقين

تقديم:
السابقون الأولون على مدار التاريخ الإنساني هم الرسل والأنبياء، فهم خير الناس وأفضل الناس، ويأتي من بعدهم على إثرهم العلماء الأتقياء الذين استوعبوا علمهم، وحملوا إرث الرسل والأنبياء، فهؤلاء هم الأخيار، وهم حزب الرحمن، الذين اصطفاهم الله لدينه وشريعته.

******

القصة الأولى

هذا يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين

الفقيه العالم أفضل من العابد غير الفقيه، وقد أورد ابن القيم رحمه الله تعالى قول أبي هريرة: «الفقيه أشدّ على الشيطان من ألف عابد»؛ [مفتاح دار السعادة: 1/267].
ذلك أن العالم - كما يقول ابن القيم -: «يفسد على الشيطان ما يسعى فيه، ويهدم ما يبنيه، فكلما أراد إحياء بدعة وإماتة سنّة، حال العالِمُ بينه وبين ذلك، فلا شيء أشدّ عليه من بقاء العالِم بين ظهراني الأمة، ولا شيء أحبّ إليه من زواله من بين أظهرهم، ليتمكن من إفساد الدين وإغواء الأمة، وأما العابد






 فغايته أن يجاهد ليسلم منه في خاصة نفسه، وهيهات له ذلك»؛ [مفاح دار السعادة: 1/269].
وقد أورد ابن القيم في كتابه [مفتاح دار السعادة: 1/268] قصة تظهر فضل العالم على العابد.
قال ابن القيم: «قال المزني: رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن الشياطين قالوا لإبليس: يا سيدنا، ما لنا نراك تفرح بموت العالمِ ما لا تفرح بموت العابد، والعالمِ لا نُصِيب منه، والعابد نُصِيب منه؟
قال: انطلقوا فانطلقوا إلى عابد فأتوه في عبادته، فقالوا: إنا نريد أن نسألك! فانصرف، فقال إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا أدري، فقال: أترونه كفر في ساعة؟! ثم جاؤوا إلى عالمِ في حلقته يضاحك أصحابه ويُحدِّثهم، فقالوا: إنا نريد أن نسألك! فقال: سَلْ، فقال: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال: نعم، قالوا: كيف؟ قال: يقول: كن فيكون؟ فقالوا: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يُفسد عليَّ عالَمًا كثيرًا.
وقد رويت هذه الحكاية على وجه آخر، وأنهم سألوا العابد، فقالوا: هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه؟ فقال: لا أدري، فقال: أترونه لم تنفعه عبادته مع جهله، وسألوا العالمِ عن ذلك؟ فقال: هذه المسألة محال؛ لأنه لو كان مثله مخلوقًا، فكونه مخلوقًا وهو مثل نفس مستحيل، فإذا كان مخلوقًا لم يكن مثلَه، بل كان عبدًا من عبيده، وخلقًا من خلقه، فقال: أترون هذا يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين! أو كما قال».
*****

 


القصة الثانية

اتخذوا مالًا لا يغرق إذا انكسرت السفينة

أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [مفتاح دار السعادة: 1/361] قصة تدل على أن بعض أنواع السعادة مستعارة، وهي غير دائمة، مثل سعادة المال والجاه، ترى الرجل سعيدًا، ملحوظًا بالعناية، مرموقًا بالأبصار، فلا يمضي عليه إلا وقت قصير، حتى يزول عنه ذلك العز، فيكون حاله كفرح الأقرع بجمة ابن عمه.
قال ابن القيم: «يحكي عن بعض العلماء أنه ركب مع تجار في مركب، فانكسرت بهم السفينة، فأصبحوا بعد عزّ الغنى في ذلّ الفقر، ووصل العالِم إلى البلد، فأُكرم وقُصد بأنواع التحف والكرامات، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا: هل لك إلى قومك كتاب أو حاجة؟ فقال: نعم تقولون لهم: إذا اتخذتم مالًا، فاتخذوا مالًا لا يغرق إذا انكسرت السفينة، فاتخذوا العلم تجارة».
وقال ابن القيم: «واجتمع رجل ذو هيئة حسنة ولباس جميل ورَواء برجل عالمٍ، فجسّ المخاضة (أي: اختبره) فلم ير شيئًا، فقالوا: كيف رأيته؟ فقال: رأيت دارًا حسنة مزخرفة، ولكن ليس بها ساكن!».
****

 

 

 



القصة الثالثة

ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الوزارة

قال ابن القيم: في «تاريخ بغداد» للخطيب: حدثني أبو النجيب عبدالغفار بن عبد الواحد قال: سمعت الحسن بن علي المقري يقول: سمعت أبا الحسين ابن فارس يقول: سمعت الأستاذ ابن العميد يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرِّياسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شهدت مذاكرة سليمان بن أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابيِّ بحضرتي، فكان الطبراني يغلب بكثرة حفظه، وكان الجعابيُّ يغلب الطبرانيُّ بفطنته وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتهما، ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه.
فقال الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هاته؟ فقال: حدثنا أبو خليفة، حدثنا سليمان بن أيوب، وحدّث بالحديث، فقال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب، ومني سمع أبو خليفة، فاسمع مني حتى يعلو إسنادك، فإنك تروي عن أبي خليفة عني، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني.
قال ابن العميد: فوددت في مكاني أن الوزارة والرِّياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبرانيَّ، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث.
وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: من تعلّم القرآن عظُمَت قيمته، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقداره، ومن تعلّم اللغة رقّ طبعه، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجَّته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه».

 


القصة الرابعة

نحن نفني ونموت والعلماء باقون الدهر

أنبل المراتب في الدنيا والآخرة مرتبة العالمِ الذي أخلص دينه لله تعالى، وقد أورد ابن القيم في كتابه [مفتاح دار السعادة: 1/502] القصة التالية حدد فيها الخليفة الرشيد أنبل المراتب التي يجوزها الناس.
قال ابن القيم: «قال يحيى بن أكثم: قال الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين. قال :فتعرف أجلّ مني، قلت: لا، قال: لكني أعرفه؛ رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله r.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أهذا خير منك، وأنت ابن عمّ رسول الله r، وولي عهد المؤمنين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله، لا يموت أبدًا، ونحن نموت، ونفني، والعلماء باقون الدهر».
وقال ابن القيم أيضًا: «قال خيثمة بن سليمان: سمعت ابن أبي الخناجر يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون، والناس قد اجتمعوا إليه، فمرّ أمير المؤمنين، فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس ألوف، فالتفت إلى أصحابه، وقال: هذا المُلك».
***

 

 





القصة الخامسة

هذا وأبيك الشرف

وقال ابن القيم في كتابه [مفتاح دار السعادة: 1/504]: «في كتاب «الجليس والأنيس» لأبي الفرج المعافي بن زكريا الجريري، حدثنا محمد بن حسين بن دريد: حدثنا أبو حاتم، عن العُتبي، عن أبيه، قال: ابتنى معاوية بالأبطح مجلسًا، فجلس عليه ومعه ابنه قرظة، فإذا هو بجماعة على رحال لهم، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنّى:
بينما يذكرني أبصرنني

عند قيد الميل يسعى بي الأغرّ

قلن تعرفن الفتى قلن نعم

قد عرفناه وهل يخفى القمر

قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: خلّوا له الطريق فليذهب. قال: ثم إذا هو بجماعة، وإذا فيهم رجل يُسأل، فيقال له: رميت قبل أن أحلق؟ وحلقت قبل أن أرمي؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنه قرظة، وقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة».
***

 

 






الزمرة الثانية

قصص الفضلاء العلماء

تقديم:
هذه باقة من قصص الفضلاء من أهل العلم، ترى فيها نوادر لطيفة تُحكى، وأخبارًا تُروى، ومواقف سديدة، ونظرات صائبة، وفي كثير منها ما به يتأسى، وإليه يصار.

القصة السادسة

دخل الرشيد فقام له الناس إلا محمد بن الحسن

قال الجصاص في كتابه [أحكام القرآن: 3/95] حدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي، قال: سمعت أبا عبيد يقول: كنا مع محمد بن الحسن، إذ أقبل الرشيد، فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن، فإنه لم يقم، وكان الحسن بن زياد معتل القلب على محمد بن الحسن، فقام، ودخل، ودخل الناس من أصحاب الخليفة، فأمهل الرشيد يسيرًا، ثم خرج الإذن، فقام محمد بن الحسن، فجزع أصحابه له، فأدخل، فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسرورًا، قال: قال لي: ما لك لم تقم مع الناس؟ قال: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي








خارجة منه، وإن ابن عمك r قال: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار»، وإنه إنما أراد بذلك العلماء، فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو، ومن قعد اتباعًا للسنّة التي عنكم أخذت فهو زين لكم.
قال: صدقت يا محمد، ثم شاورني، فقال: إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب على ألا ينصروا أولادهم، وقد نصَّروا أبناءهم، وحلت بذلك دماؤهم، فما ترى؟
قال: قلت: إن عمر أمرهم بذلك، وقد نصَّروا أولادهم بعد عمر، واحتمل ذلك عثمان، وابن عمك، وكان من العلم بما لا خفاء به عليك، وجرت بذلك السنن، فهذا صالح من الخلفاء بعده، ولا شيء يلحقك في ذلك، وقد كشفت لك العلم ورأيك أعلى، قال: لا، ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله، إن الله جلّ اسمه أمر نبيه بالمشورة تماماً لما به من الأخلاق التي جعلها الله له، فكان يشاور في أمره، فيأتيه جبريل بتوفيق الله، ولكن عليك بالدعاء لمن ولّاه الله أمرك، ومر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أصحابك، قال: فخرج له مال كثير، ففرقه».
***

 

 






 


القصة السابعة

أوذي وسجن وعذِّب في سجنه

بعض الأثرياء الوجهاء يصابون بالبلاء، ومن هؤلاء العلّامة بلال حفيد الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، فقد كان يمسك بأنفه في شبابه حين يسير في الشارع ليس فيه غبار، ثم أوذي وسجن، وعذِّب في سجنه، وضرب حتى تغير، فصبر، وعلم أن ما أصابه من بلاء ولأواء كان بسبب ذنوبه، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشوري: 30].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [عدة الصابرين: ص95]: «وفي جامع الترمذي [3252] عن شيخ من بني مرة قال: قدمت الكوفة فأخبرت عن بلال بن أبي بردة، فقلت: إن فيه لمعتبرًا، فأتيته وهو محبوس في داره التي كان بنى، وإذا كل شيء منه قد تغير من العذاب والضرب، وإذا هو في قشاش، فقلت له: الحمد لله يا بلال لقد رأيتك تمر بنا وأنت تمسك بأنفك من غير غبار، وأنت في حالتك هذه، فكيف صبرك اليوم؟ فقال: ممن أنت؟ قلت: من بني مرة بن عباد.
قال: ألا أحدثك حديثًا عسى أن ينفعك الله به؟ قلت: هات، قال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى؛ أن رسول الله r قال: «لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر»، قال: وقرأ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشوري: 30].
***


القصة الثامنة

كان ابن تيمية في أول أمره يحسن الظن بابن عربي

كنت أقرأ في كتاب: «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» [1/157] فلفت نظري ما ذكره المؤلف عن الشيخ العلّامة ابن تيمية رحمه الله تعالى، من أنه كان يحسن الظن بابن عربي الصوفي صاحب الفتوحات، ثمّ إنه عرف بعد ذلك حقيقته وحاله، ونقل عنه قوله: «وأنا كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد؛ مثلًا كلامه في كثير من الفتوحات، والكنه، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة هؤلاء وجب البيان»؛ [مجموع الفتاوى: 2/464].
وحضر الشيخ مرة مع الصوفية، وأقاموا سماعًا، لكنه لم يشاركهم، يقول: « وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة ، فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان، وأرادوا أن يقيموا سماعًا وأن أحضر معهم، فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانًا منفردًا قعدت فيه، فلما سمعوا وحصل الوجد والحال، صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده، ويقول: يا فلان قد جاءك نصيب عظيم، تعال خذ نصيبك».






فقلت في نفسي - ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا -: أنتم في حل من هذا النصيب، فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئًا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر»؛ [مجموع الفتاوى: 10/418].
وهذه القصة كانت في أوائل عمره، وهنا يلحظ حرص هؤلاء الصوفية عليه لإدخاله في زمرتهم، لكن موقفه القوي، ووضوح العقيدة عنده ومعرفته بأحوالهم يدل على وعي مبكر بحال هذه الطائفة المنحرفة، ولذلك استمر في موقفه منها، ورد عليها، وفضح دعاتها، كما حدث له في مسألة «حلول الحوادث – الصفات الاختيارية لله تعالى – ومسألة الزيارة البدعية والشرعية ما يذكره بقوله: «ولكن هذه المسألة [أي حلول الحوادث] ومسألة الزيارة وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه، أنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين بقول أهل البدع، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو اتباع الرسول، وألا نكون ممن قيل فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]، وقد قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]....» [جامع الرسائل: 2/56، مجموعة الفتاوى: 6/258]، بل يذكر أنه صنف منسكًا ذكر فيه استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، ثم تبين له أن ذلك بدعة، يقول: «وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسكم استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، كنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئًا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن


المسجد الحرام هو المسجد الذس شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات»؛ [اقتضاء الصراط المستقيم: 2/802].
فهذه المواقف له تدل على المنهل الأصيل الذي انطلق منه، متبعًا للكتاب والسنّة، ولو كان ذلك فيه مخالفة لما كان عليه الآباء والأجداد، أو ما يترسمه الشيوخ والعلماء والقضاة، فالحق أحق أن يتَّبع، والأمور لا توزن بكلام الناس وما اعتادوه – ولو كانوا علماء فضلاء- وإنما توزن بميزان الحق والعدل المبني على الشرع المنزّل.
***

 

 

 

 

 

 

 







القصة التاسعة

الحافظ الفذ محمد بن إسماعيل البخاري

يهب الخالق لبعض عباده حافظة ينطبع فيها كل ما سمعه وقرأه، ومن هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وقد اختبره علماء بغداد في حفظه، قال ابن حجر العسقلاني في كتابه [هدي الساري: ص679]: «قدم محمد بن إسماعيل البخاري بغداد فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وأرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس، فحضروا، وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين.
فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ، والبخاري يقول: لا أعرفه، وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون، فهم الرجل، ومن كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ.
ثم انتدب رجل من العشرة أيضًا، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال: لا أعرفه فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا واحدًا حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.






ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه.
فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول، فقال: أما حديثك الأول، فقلت كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتم على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل».
قال ابن خجر معقبًا على هذه الواقعة: «هنا يخضع للبخاري، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة، وروينا عن أبي بكر الكلوذاني قال: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة، وقد سبق ما حكاه حاشد بن إسماعيل في أيام طلبهم بالبصرة معه، وكونه كان يحفظ ما يسمع ولا يكتب، وقال أبو الأزهر: كان بسمرقند أربعمائة محدث، فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة».
***

 







القصة العاشرة

الحافظ علي بن عمر بن أحمد الشهير بالدارقطني

ومن علمائنا الحفاظ - على ما ذكره ابن كثير [البداية والنهاية: 11/317] الدارقطني، وهو علي بن عمر بن أحمد، ومما يدل على قوة حافظته أنه كان في مجلس إسماعيل الصفار، وهو يملي على الناس الأحاديث، والدارقطني ينسخ في جزء حديث، فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس: إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ، فقال الدارقطني: فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أتحفظ كم أملى حديثًا؟ فقال إنه أملى ثمانية عشر حديثًا إلى الآن، والحديث الأول منها عن فلان عن فلان، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئًا، فتعجب الناس منه. وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: لم ير الدارقطني مثل نفسه، وقال ابن الجوزي: وقد اجتمع له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر الإمامة والعدالة، وصحة العقيدة.
***

 

 

 






القصة الحادية عشرة

حفظ الإمام محمد بن عيسى الترمذي

ومن الأئمة الحفاظ الإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، فإنه كان يضرب به المثل في الحفظ، قال الإدريسي: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن الحارث المروزي الفقيه يقول: سمعت أحمد بن عبد الله أبا داود المروزي يقول: سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى الحافظ يقول: كنت في طريق مكة، وكنت قد كتبت جزءين من أحاديث شيخٍ، فمرّ بنا ذلك الشيخ، فسألت عنه؟ فقالوا: فلان، فذهبت إليه، وأنا أظن أن الجزءين معي، وحملت معي في محملي جزءين كنت أظن أنهما الجزءان اللذان له، فلما ظفرت به، وسألته أجابني إلى ذلك، أخذت الجزءين فإذا هما بياض، فتحيّرت، فجعل الشيخ يقرأ عليّ من حفظه، ثم ينظر إليّ، فرأى البياض في يدي، فقال: أما تستحيي مني؟! قلت: لا، وقصصت عليه القصة، وقلت: أحفظه كله، فقال: اقرأ، فقرأت جميع ما قرأ عليّ على الولاء، فلم يصدّقني.
وقال: استظهرت قبل أن تجيء! فقلت: حدِّثني بغيره، فقرأ علي أربعين حديثًا من غرائب حديثه، ثم قال: هاتِ اقرأ، فقرأت عليه من أوله إلى آخره كما قرأ، فما أخطأت في حرفٍ! فقال لي: ما رأيت مثلك!!»؛ [انظر مقدمة الترمذي للشيخ أحمد شاكر: 1/84].
***

 

 


القصة الثانية عشرة

اليهود يكذبون على العلّامة الأمير الصنعاني

آذى اليهود رسولنا r وأصحابه بعد هجرته إلى المدينة، فقاتلهم مرة بعد أخرى، ولم يزل هذا دأبهم حتى يومنا هذا، وهذه واقعة في أرض اليمن في زمن الشيخ العلاّمة محمد الأمير صاحب كتاب (سبل السلام)، فقد قبض في تلك الأيام على سكران، وهو يحاول ارتكاب فاحشة، فغضب الإمام، وطلب سالماً العراقي كبير اليهود وشيخهم، وقال له: منعنا اليهود عن بيع الخمر من المسلمين، وها أنت مرخص لهم ببيعه، فأجاب اليهودي: قد أفتانا السيد محمد الأمير والسيد الحسن بن إسحاق بجواز بيعه من المسلمين، (وكأنه لقن هذا الجواب من بعض حساد البدر)، فلما بلغ البدر جواب اليهودي دخل على المتوكل، وقال له: بلغني ما قال اليهودي، وقد كذب عليّ، فأحضره الآن لتعرف حقيقة كذبه، وتعرف ما قد فعله اليهود مما يخالف عهودهم، ومنها الإكثار من الكنائس، فاستدعاه الإمام وظهر كذبه على السيد البدر، فأمر به إلى السجن، ثم ناصح السيد البدر الإمام المتوكل بوجوب إخراج اليهود من اليمن؛ لأنها من جزيرة العرب، أو على الأقل أن يزال ما أحدثوه بلا حق من كنائس جديدة لم تكن لهم، وقد ظهر من هذه الحادثة أن لليهود أنصارًا من أعيان المسلمين ينتفعون منهم، ويدافعون عنهم. [العدة على إحكام الأحكام: 1/33].
***

 



القصة الثالثة عشرة

القاسمي يؤرخ لتدوين أحد مؤلفاته

من لطائف ما يذكره أهل العلم مسارهم في تأليف كتاب دوّنوه، وقد فعل ذلك جمال الدين القاسمي في خاتمة كتابه [قواعد التحديث: ص408]، فإنه قال في تلك الخاتمة: «يقول جامعه: كانت البداءة في تصنيف في إحدى الجماديين عام (1320هـ)، ولما تم ترتيبه شرعت في تبييضه ليلة العشر الأخير من رمضان من العام المذكور، في السدة اليمنى العلياء من حرم جامع السنانية في دمشق الفيحاء، ثم صحبته في رحلتي القدسية في أواخر المحرم، وبيضت جانبًا كبيرًا من آخره في عمان البلقاء، أيام مسيري إلى القدس منها، وإقامتي بها عشرة أيام من أوائل صفر، إلى أن كملت نسخًا وتبيضًا بعونه تعالى صباح الخميس، لخمس بقين من صفر المذكور عام (1321هـ) في المسجد الأقصى، داخل حرمه الشريف، أيام إقامتي في حجرته القبلية، والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، قاله بفمه، ورقمه بقلمه، العبد الذليل الضعيف، أفقر الورى لرحمة مولاه، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر القاسمي الدمشقي، غفر الله له ولوالديه، ولأسلافه وأشياخه وأولاده ومحبيه ولجميع المؤمنين، والحمد لله رب العالمين».
ثم جاءت تحت هذه العبارة بالحبر الأحمر: «بحمده تعالى تم مقابلة على أصلي، وكتبه مؤلفه جمال الدين في 19 ذي الحجة 1324هـ».

 

 




القصة الرابعة عشرة

والله لا أحقرت بعدك أحدًا

قال محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في كتابه [الفكر السامي: 2/40] في ترجمته لداود الظاهري: «حكى داود الظاهري قال: حضر مجلسي أبو يعقوب الشريطي من أهل البصرة وعليه خرقتان، فتصدر، وجلس إلى جانبي من غير أن يرفعه أحد، وقال لي: سل يا فتى عما بدا لك، فكأني غضبت منه، فقلت له مستهزئًا: أسألك عن الحجامة، فبرك أبو يعقوب، ثم روى طريق «أفطر الحاجم والمحجوم»، ومن أرسله ومن أسنده، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء.
ثم روى طريق احتجام رسول الله r وإعطاء الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه، ثم روى طرق أن النبي r احتجم بقرن، وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة مثل «ما مررت بملأٍ من الملائكة» ومثل «شفاء أمتي في ثلاث» وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة، مثل قوله u: «لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا».
ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطب في الحجامة في كل زمان وما ذكروه فيه، ثم ختم كلامه بأن قال: وأول ما خرجت الحجامة من أصفهان، فقلت: والله لا أحقرن بعد أحدًا»؛ نقله ابن خلكان.
***

 




القصة الخامسة عشرة

فكيف بك يا هارون إذا نادى المنادي من قبله احشروا الظلمة

«ذكر الإمام ابن بليان والغزالي وغيرهما أن الرشيد لما ولي الخلاقة زاره العلماء بأسرهم إلا سفيان الثوري، فإنه لم يأته، وكان بينه وبينه صحبة، فشق عليه ذلك، فكتب إليه الرشيد كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري، أما بعد يا أخي، فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك، ولم أقطع منها ودك، وإني منطوٍ لك على أفضل المحبة وأتم الإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى لأتيتك، ولو حبوًا لما أجد لك في قلبي من المحبة.
وإنه لم يبقَ أحد من إخواني وإخوانك إلا زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال، وأعطيتهم المواهب السنيّة ما فرحت به نفسي، وقرّت به عيني، وقد استبطأتك، وقد كتبت كتابًا مني إليك أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل، ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني، وأمره بإيصاله إليه، وأن يحصى عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله، ليخبره به.
قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة، فوجدت سفيان في مسجده، فلما رآني على بُعد قام، وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك







 ‏اللهم من طارق يطرق إلا ‏بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلي، ولم يكن وقت صلاة، فدخلت، وسلّمت، فما رفع أحد من جلسائه رأسه إليّ، قال: فبقيت واقفًا، وما منهم أحد يعرض عليّ الجلوس، وقد علتني من هيبتهم الرعدة فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب ارتعد، وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم، وأدخل يده في كمه، وأخذه وقلبه بيده. ورماه إلى من كان خلفه، وقال: ليقرأه بعضكم، فإني أستغفر الله أن أمس شيئًا مسّه ظالم بيده.
‏قال عباد: فمدّ بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه ثم قرأه، فجعل سفيان يتبسم تبسم المتعجب ، فلما فرغ من قراءته قال: أقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، فقيل له: يا أبا عبد الله، إنه خليفة، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن، فقال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام، فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا، فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما نكتب إليه؟
‏قال: اكتبوا له: بسم الله الرحمن الرحيم ، من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان ولذة قراءة القرآن، أما بعد: فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودّك، وإنك قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه، وأنفذته بغير حكمه ، ولم ترض بما فعلته ، وأنت ناء عني، حتى كتبت إليّ تشهدني على نفسك، فأما أنا، فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غدًا بين يدي الله الحكم العدل.
يا هارون، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله،





 وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم؛ يعني العاملين؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟
فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابًا، وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك ستقف بين يديك الحكم العدل، فاتقِ الله في نفسك، إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إمامًا.
يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستورًا دون بابك، وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس، ولا ينصفون، ويشربون الخمر، ويحدّون الشارب ويزنون، ويحدون الزاني، ويسرقون، ويقطعون السارق ويقتلون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها على الناس؟ فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قبل الله: احشروا الظلمة وأعوانهم، فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك، وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار؟
وكأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمدًا r في أمته.
واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحدًا بعد واحد، فمنهم من تزود زادًا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك ثم إياك أن تكتب إلي بعد هذا، فإني لا أجيبك والسلام.
وألقى الكتاب منشورًا من غير طي، ولا ختم فأخذته، وأقبلت به إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة بقلبي، فناديت: يا أهل الكوفة، من يشتري





 رجلًا هرب إلى الله، فأقبلوا إليّ بالدراهم والدنانير، فقلت: لا حاجة لي بالمال، ولكن جبة صوف، وعباءة قطوانية، فأتيت بذلك، فنزعت ما كان عليّ من الثياب التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي إلى أن أتيت باب الرشيد حافيًا راجلًا، فهزأ بي من كان على الباب، ثم استؤذن لي، فلما رآني على تلك الحالة، قام وقعد، وجعل يلطم رأسه ووجهه، ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول، وخاب المرسل ،ما لي وللدنيا، والملك يزول عني سريعًا، فألقيت الكتاب إليه مثل ما دُفع إليّ، فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه، وهو يشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، قد اجترأ عليك سفيان، فلو وجهت إليه، فأثقلته بالحديد، وضيقت عليه السجن، فجعلته عبرة لغيره.
فقال هارون: اتركوا سفيان وشأنه، يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه، والشقي والله حقًّا من جالستموه، إن سفيان أمة وحدة.
ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة، ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى؛ [مجموعة الرسائل المنيرية: 4/57].
***

 












القصة السادسة عشرة

غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الألوهية

كان المعز الفاطمي جبارًا طاغية، وذكر ابن كثير في [البداية والنهاية: 11/284] شيئًا من طغيانه وجبروته، فقال: «أُحضر بين يديه المعزّ الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة، ورميت المصريين بسهم، فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة، ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضُرب في اليوم الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه، وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له الشهيد، وإليه يُنسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير.
***

 

 






القصة السابعة عشرة

من سيرة الشيخ أمجد الزهاوي

من علماء العصر الأخير الشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله تعالى المولود في مدينة بغداد في عام 1300هـ/ 1883م، وجدّه الأعلى الصحابي المشهور خالد بن الوليد t.
وهو سليل أسرة معروفة بالعلم، فجدّه محمد فيضي الزهاوي بلغ به علمه إلى أن يسند إليه منصب الإفتاء في مدينة بغداد سنة 1270هـ/ 1853م، وأبوه الشيخ محمد سعيد الزهاوي اختير بعد وفاة والده مفتيًا لبغداد أيضًا، كما أسند إليه عضوية محكمة الاستئناف لمدة سبع سنوات، وكان رئيس مجلس التمييز الشرعي السنّي منذ عام 1335هـ/ 1918م.
ولم يكن ما حازه الشيخ أمجد وأبوه وجدّه من قبله من مناصب علمية وقضائية وراثة شكلية، وإنما تمّ ذلك لما امتازوا به من ذكاء، وعلم جم، وفقه بيِّن.
فالشيخ أمجد انطلق في مقتبل شبابه إلى الآستانة للدراسة في معاهدها العليا صحبه خمسين طالبًا، منهم ابن عمه خالد الزهاوي، ونوري السعيد، وتقدم لامتحان الدخول مع خمسمائة طالب من شتى أنحاء العالم الإسلامي، نجح منهم خمسون طالبًا فحسب، وكان الشيخ أمجد الزهاوي أول الناجحين.
واختار الشيخ أمجد أن يدرس في مدرسة النواب، وكانت مدة الدراسة فيها ست سنوات، وكان ترتيبه الأول في جميع سني دراسته، وتخرج بدرجة امتياز







مرتفع، وكانت تدعى درجة «علي الأعلى» في تلك الأيام، ولما رفع أسماء الطلبة الناجحين في عام تخرجه، أهداه السلطان عبد الحميد وسام الشرف مع ميدالية، تقديرًا لنبوغه وتفوقه، وعرض عليه أن يعين في محكمة استانبول، فشكر السلطان، وأبلغه برغبته في العودة إلى دياره في العراق.
وقد عاد إلى العراق من الآستانة وهو يحمل أعلى شهادة في عصره، ومما يدلك على ما يتحلى به الشيخ من علم وفقه ودراية أنه عُيِّن لرئاسة مجلس التمييز الشرعي السني سنة 1933، وكان أصغر أعضاء المجلس سنًا، وقد اعترف له جميع أعضاء المجلس بأهليته لتولي هذا المنصب.
لقد كان الشيخ أمجد مثالًا صادقًا لطالب العلم، فقد كان يضني نفسه في طلب العلم، ومن الأمثلة على ذلك أنه رجع من درس العلم الذي ألقاه الشيخ عباس القصاب في جامع الشيخ صندل في حي الكرخ بمدينة بغداد إلى منزله على الجهة الثانية من دجلة، فأخذ يستعيد الدرس، فأشكلت عليه مسألة من المسائل، فما كان منه إلا أن رجع إلى منزل شيخه، وهي عنه بعيدة، وكان عليه أن يقطع الجسر الخشبي المضروب على الطوافات، والرياح الشديدة تتلاعب به، وكانت الأمطار منهمرة، والوحول تغطي الطريق، فلم يثنه شيء من ذلك عن الوصول إلى شيخه ليوضح له المسألة التي أشكلت عليه.
قال الدكتور عبد المجيد القصاب حاكيًا هذه القصة عن عمّه الشيخ وكان هو أيضًا شاهدًا لها: «طرق باب دارنا ففتحته، وإذا الشيخ أمجد الزهاوي ملتحفًا عباءته، وكانت تقطر ماءً، فأدخلته المجاز (مدخل الدار) وسألته: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ وكيف وصلت؟ فقال: مسألة أشكلت عليّ، أريد أن يشرحها الشيخ لي، فخرج إليه عباس، متعجبًا من قدومه في هذا الوقت العصيب، فأخذ الشيخ يستعطفه، طالبًا منه أن يشرح له ما خفي عليه، فلما عرض عليه الدخول أبى، فلما اتضح له ما أشكل غادر عائدًا كما أتى.



كان الشيخ أمجد يديم النظر فيما يقصد إليه، ولا يلتفت إلى ما لا يعنيه، ومن أمثلة ذلك أن الشيخ أمجد صحب الشيخ فؤاد الآلوسي، ومرّا في طريقهما على شواطئ البحر في الإسكندرية، وهي مكتظة بأشباه العرايا من النساء والرجال، فلما سئل الشيخ عن تلك المناظر التي كانت على جانب الطريق الذي مروا منه، إذا به لم ير شيئًا من تلك الموبقات، ذلك أنه كان مستغرق التفكير فيما جاء من أجله، وقريب من هذا أنه لم يكن يبالي بالطعام والشراب، فإنه إذا لم يقدم إليه، لا يسأل عنه، كما ذكر ذلك وتحقق منه الشيخ علي الطنطاوي في سفراته معه، وكانت طويلة وكثيرة.
بل كان يُؤذَى، وتكال له التهم، فقد دخل عليه وهو في المدرسة السليمانية ببغداد من كال له التهم والسباب، فلم يرد عليه الشيخ، وتأثر صاحباه الشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ الآلوسي، فلما جاء هذا الشخص بعد أيام إلى الشيخ يعتذر إليه عما كان منه تجاه الشيخ، قال له: «ابني والله ما أذكر هذا الذي تدعيه، ابني سامحك الله»، فعجب الشيخان اللذان حضرا الواقعتين.
لقد كان الشيخ جريئاً فيما يوكل إليه من قضايا، ولو كان الذين يواجههم أصحاب الملك والسلطان، لقد أدخل العثمانيون القوانين الوضعية الغربية التي تعارض حكم الشريعة، وكان الشيخ رئيس محكمة حقوق الموصل، فطلب منه الوالي أن يحكم وفق تلك القوانين، فرفض وحكم وفق حكم الشرع.
وفي بغداد كان الشيخ رئيس محكمة التمييز، فاشتكى إليه يهوديّ الوصيَّ على العرش عبد الإله، بأنه اغتصب أرضه، فحكم للوصي، وفي التمييز توسط له بعض معارف الشيخ ، ليصادق على قرار الحكم رضاءً للوصي، فقال لهم الشيخ: «لا يهمني رضاء الوصي، لكن يهمني رضاء رب الوصي».
وبعد أن درس القضية جيدًا، وجد أن الحق لليهودي، فنقض قرار الحكم، وأعاد الأرض لليهودي.




وفي عام 1924 توكل الشيخ عمَّن طلب تثبيت ملكية دار له في حي الكرخ اتخذتها الطائفة البهائية كعبة لهم؛ لأن نبي هذه الطائفة وهو بهاء الله سكن هذه الدار لما قدم بغداد، وصدر الحكم لمصلحة مالكيها، فثارت البهائية ثورة عارمة في العالم أجمع، وتدخل المندوب السامي البريطاني لدى الملك فيصل، وثار علماء المسلمين، ولم يجرؤ أحد من المحامين في ذلك الوقت على تولي الدفاع عن أصحاب الحق، فما كان من الشيخ أمجد إلا أن أخذته الحمية لدينه، وتولى الدفاع عن صاحب الدار، وأبطل دعوى البهائيين، وانتصر للحق، وأعاد الدار لأصحابها، وأرسل المرجع الديني الأعلى في النجف وفدًا يحمل مالًا لشكر الشيخ، فشكرهم، ورفض أن يأخذ على ما قدّمه أجرًا.
(وفي سيرة الشيخ مواقف كثيرة رائعة، فإن شئت المزيد فارجع إلى الكتاب المترجم له فيه، وهو كتاب: الإمام أمجد بن محمد سعيد الزهاوي، طبعة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي الأولى 1417هـ/ 1996م).
***

 

 











القصة الثامنة عشرة

مسألة حيرت العلماء

ذكر ابن القيم مسألة وقعت في عهد إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى حيّرت أهل العلم، والواقعة أن رجلًا تزوج امرأة، فأحبها حبّاً عظيماً، وأبغضته بغضًا شديدًا، وبلغ بها بغضه أنها كانت تواجهه بالشتم والسباب، والدعاء عليه، ولا شك أنها كانت تتمنى الخلاص منه وفراقه.
وقد واتتها الفرصة عندما قال لها يومًا: أنت طالق ثلاثاً، لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله، وكانت المرأة من النباهة أنها لم تضع وقتاً في انتهاز الفرصة، فقالت له من غير تأخير: أنت طالق ثلاثاً بتاتاً، فأدهش قولها زوجها، ولم يدر ما يصنع بما قالته له.
فاستفتى أهل العلم في عصره، فكلهم قالوا له: لابد أن تطلق.
قال ابن القيم: «وقعت حادثة في أيام ابن جرير وهي: أن رجلًا تزوج امرأة فأحبها حبّاً شديداً، وأبغضته بغضاً شديداً، فكانت تواجهه بالشتم والدعاء عليه، فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثًا لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله، فقالت له في الحال: «أنت طالق ثلاثاً بتاتاً»، فأبلس الرجل ولم يدر ما يصنع، فاستفتى جماعة من الفقهاء، فكلهم قال: لابد أن تطلق، فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت، وإن لم يجبها حنث وطلقت، فإن بر طلقت، وإن حنث طلقت»؛ [بدائع الفوائد: 3/153].








وقد ذكر ابن القيم ثلاثة أجوبة يمكن لزوجها أن يتخلص مما كادته به زوجته:
الأول: ما أجاب به ابن جرير، فقد أرشد الزوج بأن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً إن أنا طلقتك، فإنه يكون خاطبها بمثل خطابها له؛ لأنه وصل الخطاب بالشرط.
الثاني: أن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وهذا خطاب تذكير، ولا يقع به الطلاق، وهذا جواب ابن عقيل رحمه الله تعالى.
الثالث: وهو اختيار ابن القيم، وهو يرى أنه أحسن من الجوابين السابقين، وهو أنه لا يلزمه أن يخاطبها بمثل كلامها، لأن كلامه معها أولاً أنها لا تكلمه بشتم أو سب أو دعاء، أو ما كان من هذا الباب إلا كلمها بمثله، أما إذا كلمته بغير هذا الكلام، كأن تطلب منه شراء مقنعة أو ثوبًا أن يقول لها بمثل كلامها له.
***

 

 














القصة التاسعة عشرة

الزهاوي مع عبد الكريم قاسم

قال تلميذ الشيخ أمجد الزهاوي الدكتور طه العلواني في مقدمة كتابٍ ترجم للشيخ أمجد [ص: 8]: «وأذكر موقفاً آخر للشيخ أمجد الزهاوي تشرفت بمرافقته فيه، وهو موقفه – رحمه الله – من عبد الكريم قاسم وحديثه معه، بمناسبة اعتقال الإمام الخالصي إمام أهل الكاظمية، فلقد هاجم الإمام الخالصي عبد الكريم قاسم وحكومته في خطبة عامة بعد أن أصدر عبد الكريم قانون الأحوال الشخصية، وفي هذا القانون مخالفات لأحكام شرعية كثيرة، أهمها وأبرزها أن إحدى المواد نصت على قول: «للذكر مثل حظ الأنثى» وذلك بدلًا من قوله تعالى: {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11، 176] وكان مجرد التعبير بهذا الشكل يشتمل على نوع من الجرأة على الله – جلّ شأنه – أغضبت العلماء إغضابًا شديدًا، فبعضهم استنكر عن طريق المذكرات والرسائل، وبعضهم ألقى خطابًا معبرًا عن معارضته لهذا القانون، مطالبًا بالرجوع عنه وتغييره.
أما الشيخ الخالصي، فقد هاجم عبد الكريم هجومًا شخصيًّا شديدًا، وهاجم حكومته هجومًا عنيفًا مما حمل عبد الكريم على الإيعاز باعتقاله، وتمّ ذلك، وقد كان هذا النوع من العلماء إذا اضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراء ما ضد أحد منهم، فإنها قد تقوم بفرض الإقامة الجبرية عليهم في بيوتهم، أما هذه المرة، فقد تجرأت الحكومة على اعتقال الشيخ الخالصي في سجن الأمن العام.








فاستطاع الشهيد عبد العزيز البدري أن يقنع الشيخ الزهاوي ومجموعة من علماء السنة بوجوب الاحتجاج والدفاع عن الشيخ الخالصي، ولما فعلوا ذلك وأبرقوا إلى عبد الكريم بمضمون احتجاجهم غضب عبد الكريم قاسم، وأمر مدير الأمن العام باستدعاء الشيخ ومجموعة من كبار المشايخ أمثال فؤاد الألوسي وعبد القادر الخطيب وغيرهم، وشرح الملابسات والظروف التي أدت إلى اعتقال الخالصي، واستعراض هيبة الدولة أمامهم، مع التأكيد بأن أي أحد يتجرأ على الدولة وهيبتها فإن الدولة على أتم الاستعداد لاتخاذ أقصى الإجراءات ضده بقطع النظر عن وضعه وصفته ومكانته، فذلك كله لا يلتفت إليه عندهم.
وقد فعل مدير الأمن العام عبد المجيد جليل ما أمر به، وكانت إساءة بالغة لهؤلاء العلماء الذين لم يدخل بعضهم طوال حياته كلها مركزًا من مراكز الشرطة، ولم يواجه أي موقف مماثل لهذا الموقف.
فالعالم قد يحتج على تصرف من تصرفات الحاكم، وقد يشجب بطريقة من الطرق بعض سياساته، لكنه ما دام لم يرفع بوجه الحاكم سلاحًا، ولم يحرض الجماهير على العصيان والتمرد عليه، فإن الحاكم كثيرًا ما يلاين ويلاطف ويبدي حسن النية والاستعداد لتصحيح الأوضاع، وقبول النصح، وكان أهل الحنكة والحكمة من السياسيين كثيرًا ما يواجهون مواقف العلماء بمثل تلك المرونة إلا إذا تجاوزوا القول إلى الحركة والتحريض؛ ولذلك فقد كان لدى العلماء نوع من الشعور بحصانة عرفية، بل ربما كانت الظروف في العهد الملكي تدفع النظام ورجاله إلى مزيد من الاتزان في التعامل مع علماء المؤسسات الدينية رغم تهميش دورهم وفاعليتهم في المجتمع، ومحاصرة المؤسسات ذات العلاقة بهم، وحصر دورها في أضيق الحدود، ولذلك فقد كانت المحافظة على شيء من المكانة لبعض العلماء أمرًا ممكنًا في ظل ذلك العهد.





أما بعد انقلاب «14 تموز» العسكري، فقد تغيرت الأحوال، فالعسكريون الذين تربوا في جيوش ما بعد قيام «الدولة القطرية» لم يكونوا كالعسكريين الذين تربوا في ظل الدولة العثمانية، وما كان سائدًا فيها من أعراف وقيم، بل لقد اختلف العسكريون الذي نشؤوا في ظل الدولة العثمانية حين كانت عثمانية الاتجاه عن العسكريين الذين نشؤوا في ظل الدولة بعد بروز سياسة الاتحاد والترقي، وما عرف عنها من سياسات التتريك وسواه، ولذلك فقد مثّل تسلم هذا النوع من العسكريين لزمام الأمور انعطافًا خطيرًا كان له ما بعده.
وكان شيخنا الزهاوي يتحرق ألماً لما يحدث، ولا يتردد في شجب الأوضاع في كل مناسبة والتحريض على الصمود في وجهها، وعدم الركون إلى الدعة أو الراحة حتى تزول، وكان يعمل على تثبيت الشباب المسلم، والتأكيد عليهم بأنها فترة عابرة لن تلبث أن تزول إن شاء الله، وزال «المد الأحمر» وعمل عبد الكريم قاسم على تقليص نفوذ الشيوعيين واليساريين من جديد بعد أن اطمأن إلى أن حالة الانقسام الداخلي التي هيّأ لها قد جعلت من الشعب معسكرين يستطيع موازنة قوائم حكمه بينهما أو عليهما، وصارت مهمته تتلخص بالعمل على إيجاد التوازن بينهما، فكلما ضعف أحد المعسكرين أفسح له من المجالات، ما يسمح له بأن يستعيد بعض قواه لئلا ينهار أو يتلاشى.
ومع أن علماء السنّة – بالذات – كانوا موظفين لدى إدارة الأوقاف وهي مؤسسة حكومية، لكن ذلك لم يمنع الكثيرين منهم أن يحافظوا على إحساسهم بمكانتهم ودورهم وأهميته ومسؤوليتهم أمام الله عنه، صحيح أن هؤلاء قلائل، لكن شيخنا الزهاوي كان أبرزهم، فلم تكن تسنح له فرصة ما لأداء هذا الدور إلا وأدّاه كأي عالم عابد زاهد من رجال السلف والصدر الأول.
وقد سنحت الفرصة لموقف مع عبد الكريم قاسم الذي استطاع أن يملأ قلوب جلّ العراقيين رعبًا آنذاك، لكن شيخنا كان من بين أولئك القلائل الذين



لم تستطع مهابة الخلق أن تلج قلوبهم، وإذا كان من جاؤوا بعد عبدالكريم قد تجاوزوه في الإرهاب بمراحل لكن ذلك لا يعني أن عهده كان خاليًا من ذلك، إن المصائب حين تتعاظم وتتوالى قد ينسي بعضها بعضًا، وقد تجعل الإنسان يقول: «حنانيك، بعض الشر أهون من بعض»، ولكن الذين عاشوا تلك الفترة يعرفون أن الناس قد عانوا من ضروب الإرهاب كثيرًا.
وذات يوم ذهبت لزيارة شيخي الشيخ محمد فؤاد الآلوسي في «جامع مرجان»، وما إن جلست إليه قليلًا في مدرسته «المرجانية» حتى بدا لي وكأن عمره قد تضاعف، وظهر كما لو كانت الهموم قد تراكمت عليه، فسألته عما به، فقصّ عليّ قصة اعتقال الإمام الخالصي وبرقية الاحتجاج التي أرسلوها بعد أن عجزوا عن مقابلة عبد الكريم قاسم، أو الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي، واستدعائهم بواسطة الشرطة إلى الأمن العام، وحديث مدير الأمن معهم، والحزن والمرارة التي يشعر بها نتيجة لذلك كله، وأردف قائلًا: كان يمكن أن يكون إحساسي بالمهانة أقل لو أن الموقف اقتصر عليّ وعلى أمثالي.
لكن أن يتطاولوا على الشيخ أمجد، فيستدعونه إلى الأمن العام بسيارة شرطة، وكأنه مجرم فذلك يعني أن هؤلاء بلغت بهم الجرأة على الله وعلى عباده العلماء أقصى حد، ولو أنني وجدت سبيلًا إلى الهجرة لما تأخرت، أو الانتصاف منهم لفعلت، ولكن لا سبيل لشيء من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فحاولت تطييب خاطره، والتخفيف عنه، وذكرت له أن ذلك قدر أهل العلم، واستعرضت له كثيرًا من أسماء العلماء الذين امتحنوا، وأشرت إلى بعض علماء القرن السابق من العراقيين الذين اضطرتهم مظالم السلطة إلى الهجرة إلى نجد وغيرها وهم كثير، كما ذكرته بمواقف الأدباء الذين يصل بهم الحال إلى حد إعلان السخط أو التنكر للبلد الذي ولدوا فيه، ونشؤوا على حبّه، وتفيؤوا ظلال الحياة فيه عقودًا من السنين.



 حتى إذا شعرت أن قد زايله ما كان يجد أو بعضه بدأت أقلب معه جوانب الأمر، وكيف يمكن أن تصان كرامة العلماء، وألا يتكرر ما حدث، واتفقنا على أن أبذل جهدي على تدبير لقاء بينهم وبين عبدالكريم قاسم على ألا يشترك فيه من العلماء إلا ثلاثة، هم: الشيخ الزهاوي، والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ الآلوسي نفسه، لكي يكون الحديث معه قويًّا وصريحًا يستطيع عبد الكريم قاسم أن يدرك منه مدى تأثر العلماء لما حدث، ورفضهم أن يعود لمثل هذا الإجراء، ومطالبته بإقالة مدير الأمن العام إذا كان قد تصرف بنفسه، أو اعتذار عبدالكريم قاسم بنفسه منهم إذا كان مدير الأمن قد تصرف بناءً على أوامر.
وذكر أسماء بعض العلماء الذين لا يريد لهم أن يشاركوا في هذا اللقاء خشية أن يلينوا أو يضعفوا، ثم ودعته وانصرفت، وقد يسّر الله – تعالى – فوفقت في مساعي لتدبير هذا اللقاء الذي تم بعد يومين من بدء السعي لتدبيره، وذلك بمساعدة السكرتير الصحفي لعبد الكريم قاسم الرائد سعيد الدوري.
وحين وصل المشايخ الثلاثة وبرفقتهم الفقير إليه تعالى استقبلنا المقدم قاسم الجنابي مرافق عبد الكريم قاسم، وقادنا إلى مكتبه، وما هي إلا لحظات حتى دخل عبد الكريم قاسم فحيّا الجميع وجلس، ثم كرّر ترحيبه بالمشايخ، وأعرب عن سروره بوجوده معهم في هذه الليلة بالذات لمساعدته في اختيار نسخة من بين عدد كبير من مخطوطات القرآن العظيم الثمينة التي أمر بجمعها لاختيار نسخة من بينها تطبع بنفقة الحكومة العراقية، وتوزع في سائر أنحاء العالم ليكون هدية العراق الثمينة إلى الأمة والعالم الإسلامي.
فرد الشيخ محمد فؤاد الآلوسي مباشرة عليه، بقوله: «إن المصاحف كثيرة جدًّا، وليس المهم طباعة المصحف، بل المهم تطبيقه؛ فماذا يفيد البلاد والعباد أن






تطبع آلاف المصاحف إذا لم تطبق أحكام القرآن وتعاليمه؟»، فوجم الجميع، وشعر شيخي الآلوسي بأنه قد استعجل أمرًا كان له فيه أناة، وأحس بالتأثر الذي بدا على وجه عبد الكريم قاسم.
فالتفت الشيخ الآلوسي إليه مبتسمًا، وقال: أتدري أنني أعرفك منذ زمن بعيد حين كنت برتبة مقدم أو عقيد، وقبل أن تقوم الثورة؟ فنظر عبد الكريم إليه محاولًا أن يتذكر!! فقال له الشيخ الآلوسي: لم أقصد أنه قد حدث بيننا لقاء في الماضي، بل أقصد أعرفك من خلال ما سمعته عنك من بعض المتعاونين معك، فأنا أعرف أنك كنت توصي ضابط الحسابات لديكم بأن يأخذ من مرتبك شهريًّا ربعه – قبل تسليم المراتب إليك - ويوزعه على فقراء باب الشيخ بنفسه، وأنك توزع ربعًا آخر منه على الفقراء من أقاربك، وتكتفي بنصف مرتبك، وهذا لا أعرف ضابطًا آخر يفعله – الآن – حتى أولئك المشهورين بتديّنهم، فانفرجت أسارير عبدالكريم.
ثم دعا الجميع إلى الانتقال إلى غرفة الاجتماع المجاورة، وما إن دخلنا حتى وجدنا على الطاولة مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة، فقال عبد الكريم: هذه هي المصاحف التي انحصر الاختيار فيها ومن بينها نريد اختيار «المصحف العراقي».
فأخذ الشيخ عبد القادر يستعرض النسخ المعروضة، ويقدمها لينظر فيها الشيخان الزهاوي والآلوسي، ثم أشاروا بواحدة منها، ثم جلس الجميع حول الطاولة، وبدأ الشيخ الزهاوي – رحمه الله – الحديث، فكان حديثًا من العسير أن نجد له مثيلًا في حوارات العلماء مع الحكام أو في نصائحهم أو مواعظهم لهم، ولو أن الحديث كان قد سجِّل لكان تحفة علمية أدبية، ولأمكن إخراج كتاب قيّم منه في «أدب النصيحة» نصيحة العالم للحاكم، أو مواعظ العلماء للحكام.






لقد اطَّلعت على العديد من النصائح المنسوبة إلى كبار العلماء كالنصيحة المنسوبة للإمام مالك – التي ذكر أنه وجهها إلى الرشيد، وكذلك النصيحة المنسوبة إلى سفيان الثوري يخاطب بها الرشيد كذلك.
وقرأت من مواعظ العلماء للحكام عددًا كبيرًا، لكنني لم أجد في شيء من ذلك ما وجدته في حوار شيخنا الزهاوي لعبد الكريم قاسم، والحق: أنه لم يكن حوارًا، بل كان درسًا تعليميًّا على أعلى مستوى لعبد الكريم من عالم يعرف كيف يجمع بين نور القرآن الكريم، وحكمة السنّة النبوية المشرفة، ولطائف الأمثلة السائرة وطرائف الأخبار التاريخية وعيون الشعر الحكمي وعبره و دروس الأحداث والمواقف، فلأول مرة في حياة عبدالكريم قاسم ولآخر مرة – على ما أظن – يجلس ما يقرب من ثلاث ساعات متصلة يستمع لحديث لم ينقطع، متسلسل في أفكاره، متصل في محاوره، شيّق في مقاطعه ومراحله، بحيث لم يستطع عبد الكريم أن يقاطعه ولو مرة واحدة، حتى وهو يحلل بعض المواقف العسكرية والسياسية التاريخية أو المعاصرة بطريقة لم يألفها عبد الكريم ضابط الركن المحترف.
ولم يكن أحد في الحاضرين – ومنهم عبد الكريم – يتمنى أكثر من أن يستمر الشيخ في ذلك العرض الرائع، ولم نعرف أن حديث الشيخ قد أوشك على الانتهاء إلا حين قال الشيخ – رحمه الله – لعبد الكريم قاسم: «أفندي: أنا أظن أن الحجاج كان أعقل منك...».
فانتفض عبد الكريم انتفاضة السليم، فواصل الشيخ: أتدري لماذا؟ قال: لا، قال الشيخ: لقد كان الحسن البصريّ معروفًا ببلاغته وفصاحته وتأثير مواعظه وخطبه، كان كثيرًا ما يندد بتصرفات الحجاج على المنبر، فقيل للحجاج: ما الذي يجعلك تترك الحسن البصري يصول ويجول، وهو ينتقدك، وقد تقتل غيره بأقل من ذلك بكثير، وقد قتلت سعيد بن جبير من غير أن يقول فيك شيئًا مما قاله الحسن!!.




فقال الحجاج: ويحكم، الحسن لا يملك إلا لسانه، والناس يسمعون عن ظلمي وإسرافي في الدماء، لكنهم إذا سمعوا الحسن وما يقول، ورأوا صبري عليه واحتمالي له، فإنهم قد يكذبون كل ما قيل لهم فيّ.
أما أولئك الذين لا يقولون مثل ما يقول الحسن، ولا شيئًا مما يقول: ولكنهم لا يترددون في الانضمام إلى أي ثائر على أمير المؤمنين لو واتتهم الفرصة، فإن هؤلاء مكمن الداء ومصدر الخطر.
وأنا أقول لك أفندي: إنه لا خطر على كرسيك من الشيخ الخالصيّ، ولا مني، ولا من جميع المشايخ والعلماء والخطباء، حتى لو اجتمعوا على ذمّك وسبّك، ولكن مصدر الخطر عليك هؤلاء (وأشار إلى مرافقي عبدالكريم الواقفين خلفه)، فهؤلاء يحملون السلاح، ويرون ما أنت فيه، وقد يغبطونك على ما أنت فيه من سلطان، ويتمنون لو استأثروا به دونك، فابتسم الجميع، لكن عبد الكريم قبل أن يرد على الشيخ بكلمة واحدة مدّ يده إلى الهاتف، وطلب مدير الأمن العام، ولم يقل لمحدثه على الخط الثاني أكثر من: «... عبد المجيد خذ الخالصي إلى منزله الآن خبرني»، وأعاد السماعة إلى موضعها.
وعاد يستمع إلى الشيخ الذي واصل في شرح وبيان الأمور التي تساعد على تهيئة الحاكم للسقوط وتباعد بينه وبين شعبه، ولما ظن الشيخ عبدالقادر الخطيب أن الشيخ أمجد قد فرغ، وأن مهمة إطلاق سراح الشيخ الخالصي قد تمت، بدأ يتحدث عن الدراسات والمدارس الدينية، وتخلفها عن زميلاتها، وضرورة العناية بها، فرحب عبد الكريم بتنفيذ أية خطة أو مقترحات، وطلب إعداد دراسة كاملة حول سائر الشؤون التي يرغبون اقتراحها، وأنه سيقوم بتنفيذها فورًا.
ثم دعا الجميع لتناول الطعام على مائدته، قال له الشيخ: أفندي، نحن في وقت متأخر من الليل، ووراءنا صلاة صبح، ولم نتعود الأكل في هذه الساعة،




فأصر عبد الكريم مؤكدًا أن هذا الطعام ليس من مال الدولة، بل هو طعام دفع ثمنه من مرتبه كضابط لا كرئيس وزراء؛ لأنه رفض أن يتقاضى طوال فترة حكمه مرتبًا أكثر مما يستحقه كضابط، فأصر الشيخ على الاعتذار، فاقترح أن يخرجوا معه لتفقد بعض المشاريع كعادته في جولاته الليلية، فاعتذروا، فنزل معهم إلى السيارة، وأمر سائقه أن يأخذهم بسيارته الخاصة إلى منازلهم، وطلب مني مرافقتهم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل بقي عبد الكريم بعد ذلك أسبوعًا يلوم مرافقيه لومًا شديدًا أنهم لم يعرفوه بهذا النوع من العلماء طوال فترة حكمه، ويؤكد أنه لو عرف هؤلاء من قبل لأخذت الأمور مجرى آخر، وقد أخبرني الرائد سعيد في حينه أن عبد الكريم قال لهم مرة بعد ذلك اللقاء: لقد أضعتم وقتي مع أناس لم يكونوا يستحقون من وقتي شيئًا، وحجبتموني وحجبتم عني أمثال هؤلاء: «إنني كنت أسمع بالشيخ الزهاوي، لكنني لم أكن أعرفه، ولو عرفته من قبل لاستفدت منه كثيرًا، فهذا رجل يجب أن تفخر البلاد به، فلا أظن له نظيرًا في أي بلد آخر».
أولئك آبائي فجئني بمثلهم


إذا جمعتنا يا جرير المجامع»

لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف من الرابط اسفل المقال 

تحميل كتاب روائع القصص الإسلامي PDF برابط مباشر ميديا فير من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016