الرسالة الأولى:
قال ابن القيم رحمه الله
حقيقة الصلاة
لا ريب أن
الصلاة قرة عيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال
السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده هداهم إليها وعرفهم بها رحمة بهم وإكرامًا
لهم؛ لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منه منًا
وفضلاً منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل
الحظين وأعظمهما وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه
وابتهاجه بالقيام بين يديه وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير
معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه.
الصلاة مأدبة وغيث
ولما امتحن
سبحانه عبده بالشهوات وأسبابها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به
وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع
والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة
ومنفعة ومصلحة لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة ليست في اللون الآخر؛ لتكمل
لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل
فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه, وليثبه عليه نورًا
خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًا يوم لقائه.
الصدور من المأدبة
فيصدر المدعو
من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه وَخَلَعَ عليه بخلَع القبول وأغناه؛ لأن القلب
كان قبل قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُري والسقم ما ناله، فأصدره من
عنده وقد أغناه عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.
تجديد الدعوة
ولما كانت
الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد
وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا مَنْ بيده غيث القلوب وسقيها مستمطرًا سحائب
رحمته؛ لئلا ييبس ما أنبتته له تلك من كلأ الإيمان وعشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة
النبات والقلب في استسقاء واستمطار، هكذا دائمًا يشكو إلى ربه جدبه وقحطه وضرورته
إلى سقيا رحمته، وغيث بره فهذا دأب العبد أيام حياته.
الغفلة قحط
فإن الغفلة
التي تتنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله والإقبال عليه فغيث
الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة،
فإذا تمكنت الغفلة واستحكمت صارت أرضه ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات
فيها من كل جانب كالسمايم([1]).
عاقبة الغفلة
وإذا تدارك
عليه غيث الرحمة اهتزت أرضه وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب
كان بمنزلة شجرة رطوبتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبست عروقها
وذبلت أغصانها، وحبست ثمارها وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنًا
إلى نفسك لم يمتد ولم ينقد لك وانكسر فحينئذ تقتضي حكمة قيم البستان قطع تلك
الشجرة وجعلها وقودًا للنار.
يبوسة القلب
فكذلك القلب،
إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره، ودعائه فتصيبه حرارة النفس،
ونار الشهوات فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها والانقياد إذا قدتها،
فلا تصلح بعد هي والشجرة إلا للنار: }أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{ [الزمر:
22].
مطر القلب
فإذا كان القلب
ممطورًا بمطر الرحمة كانت الأغصان لينة منقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله
انقادت معك، وأقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل
غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه, فالمادة تعمل عملها في القلب
والجوارح، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر؛ لأن مادة القلب وحياته قد
انقطعت منه فلم تنشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية.
استعمال الجوارح
ولله في كل
جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيَّئت لها.
والناس بعد ذلك
ثلاثة أقسام:
أحدها: مَن استعمل تلك الجوارح فيما خُلقت له وأُريد منها، فهذا
هو الذي تاجر مع الله بأربح التجارة وباع نفسه لله بأربح البيع، والصلاة وضعت
لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها.
الثاني: مَن استعملها فيما لم تُخلَق له، ولم يُخلق لها، فهذا هو
الذي خاب سعيه وخسرت تجارته، وفات رضى ربه عنه وجزيل ثوابه وحصل على سخطه وأليم
عقابه.
الثالث: مَنْ عَطَّلَ جوارحَه وأماتها بالبطالة، فهذا أيضًا خاسر
أعظم خسارة، فإن العبد خلق للعبادة والطاعة لا للبطالة، وأبغض الخلق إلى الله
البطال الذي هو لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة، فهذا كَلٌ على الدنيا والدين.
جوارح الطاعة
فالأول: كرجل
أُقْطع أرضًا واسعة وأُعين بآلات الحرث والبذار، وأُعطيَ ما يكفيها لسقيها، فحرثها
وهيّأها للزراعة وبذر فيها من أنواع الغلال، وغرس فيها من أنواع الثمار والفواكه
المختلفة الأنواع، ثم لم يهملها بل أقام عليها الحرس وحفظها من المفسدين وجعل
يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسد منها، ويغرس عوض ما يبس وينفي دغلها ويقطع شوكها،
ويستعين بمغلها على عمارتها.
جوارح المعصية
والثاني:
بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض فجعلها مأوى للسباع والهوام ومطرحًا للجيف والأنتان،
وجعلها معقلاً يأوي إليه كل مفسد ومؤذ ولص، وأخذ ما أعين به على بذارها وصلاحها,
فصرفه معونة ومعيشة لمن فيها من أهل الشر والفساد.
جوارح البطالة
والثالث:
بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل ذلك الماء ضائعًا في القفار والصحاري فقعد مذمومًا
محسورًا.
فهذا مثال أهل
الغفلة، والذي قبله مثال أهل الخيانة والجناية، والأول مثال أهل اليقظة والاستعداد
لما خلقوا له.
فالأول: إذا
تحرك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله
له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد.
والثاني: إذا
فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخسران.
والثالث: إذا
فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط.
فالأول يتقلب
فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة.
والثاني: يتقلب
في ذلك بحكم الخيانة والتعدي, فإن الله لم يملكه ما ملكه ليستعين به على مخالفته،
فهو جان متعد خائن لله في نعمه، معاقب على التنعم بها في غير طاعته.
والثالث: يتقلب
في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة وبهجة النفس وطبيعتها، لم يبتغ بذلك رضوان الله
والتقرب إليه، فهذا خسران بَيِّنٌ إذ عطل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل
الأرباح والتجارب.
فدعا الله
سبحانه الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها أنواع
العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.
وافد الملك
وكان سِرُّ
الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه فإذا لم يقبل عليه
واشتغل بغيره وَلَهًا بحديث النفس، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من
خطئه وزلِله, مستمطرًا لسحايب جوده ورحمته, مستطعمًا له ما يقوت قلبه؛ ليقوى على
القيام في خدمته، فلما وصل إلى الباب ولم يبق إلا مناجاة الملك التفت عن الملك
وزاغ عنه يمينًا أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك وأقله عنده قدرًا
فآثره عليه وصيره قبلة قلبه، ومحل توجهه، وموضع سره، وبعث غلمانه وخدمه، ليقفوا في
طاعة الملك، ويعتذروا عنه وينوبوا عنه في الخدمة، والملك شاهد ذلك ويرى حاله.
كرم الملك
ومع هذا فكرم
الملك وجوده وسعة بره وإحسانه يأبى أن ينصرف عنه تلك الخدم والأتباع فيصيبها من
رحمته وإحسانه.
لكن فَرْقٌ بين
قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين وبين الرضخ([2]) لمن لا سهم
له: }وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ{ والله سبحانه خلق هذا
النوع الإنساني لنفسه واختصه وخلق له كل شيء كما في الأثر الإلهي: «ابن آدم
خلقتك لنفسي, وخلقت كل شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له».
وفي أثر آخر: «خلقتك
لنفسي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم، اطلبني تجدني، وإن وجدتني وجدت
كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء».
سبب القرب
وجعل الصلاة سببًا موصلاً له إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به، وما بين
صلاتين تحدث له الغفلة والجفوة والإعراض والزلات والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه،
وينحيه عن قربه، ويصير كأنه أجنبي عن العبودية ليس من جملة العبيد، وربما ألقى
بيده إلى أسر العدو فأسره وغله وقيده وجنه في سجن نفسه وهواه, فحظه ضيق الصدر
ومعالجة الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولا تدري السبب في ذلك.
فاقتضت رحمة
ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة مختلفة الأجزاء والحالات، بحسب
اختلاف الأحداث التي جاءت من العبد وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء
تلك العبودية.
طهارة القدوم
فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ويقدم على ربه متطهرًا والوضوء له ظاهر وباطن،
وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه
بالتوبة ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: }إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{ [البقرة: 222] وشرع النبي r للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: «اللهم
اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»([3]). فكمل له مراتب الطهارة باطنًا
وظاهرًا.
فإنه بالشهادة
يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة فشرع
أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا
وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه إذ يخلص من الإباق بمجيئه إلى داره
ومحل عبوديته.
ولهذا كان
المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.
استقبال القبلة
والعبد كان في
حال غفلته كالآبق عن ربه وقد عطل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلِق لها، فإذا جاء
إليه فقد رجع من إباقه فإذا وقف بين يديه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد
استدعى عَطْف سيده عليه وإقباله عليه بعد الإعراض.
وأمر بأن
يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه لينسلخ مما كان فيه
من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين المستعطف لسيده
وألقي بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس خاشع القلب مطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه
ولا طرفه يمنة ولا يسرة بل قد توجه بقلبه كله إليه وأقبل بكليته عليه.
حقيقة التكبير
ثم كَبَّرَه
بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه في التكبير لسانه فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء
وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن
الله بغيره وكان ما اشتغل به أهم عندهم من الله كان تكبيره بلسانه دون قلبه.
فالتكبير:
1- يخرجه من
لبس رداء التكبر المنافي للعبودية.
2- ويمنعه من
التفات قلبه إلى غير الله.
فإذا كان الله
عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء منعه حق قول الله أكبر والقيام بعبودية التكبير عن
هاتين الآفتين اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله.
دعاء الاستفتاح
فإذا قال: «سبحانك
اللهم وبحمدك» وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب
أيضًا بينه وبين الله.
وأتى بالتحية
والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمجيدًا ومقدمة بين يدي
حاجته، فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه بحوائجه.
الاستعاذة بالله
فإذا شرع في
القراءة قدم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان فإنه أحرص ما يكون على العبد في
مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء
على صرفه عنه واقتطاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن
اقتطع قلبه وعطله عن القيام بين يدي الرب تعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه
ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيي قلبه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده
الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود
التلاوة.
ولما علم سبحانه
حسد العدو وتفرغه للعبد، وعجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه
في صرفه عنه فيكتفي بالاستعاذة مؤنة محاربته ومقاومته، فكأنه قيل له: لا طاقة لك
بهذا العدو فاستعذ بي واستجر بي أكفكه وأمنعك منه.
وقال لي شيخ
الإسلام([4]) قدس الله روحه
يومًا: «إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي
فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب».
فإذا استعاذ
بالله من الشيطان بَعُدَ منه فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة([5]) وشاهد عجائبه
التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان
الحائل بينه وبين ذلك, النفس والشيطان، والنفس منفعلة للشيطان سامعة منه فإذا بعد
عنها وطرد لمَّ بها الملك وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
القراءة
فإذا أخذ في
قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض
لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو معرض عنه ملتفت إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك
مقته ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بين يديه، فجعل يخاطبه
الملك وقد ولاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة، فما الظن بمقت الملك لهذا،
فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب
العالمين وقيوم السماوات والأرض.
وليقف عند كل
آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له وكأنه سمعه يقول: حمدني عبدي حين يقول: }الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ{ فإذا قال: }الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ{ وقف لحظة ينتظر قوله: «أثنى علي عبدي» فإذا قال: }مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ{ انتظر قوله: «مجدني عبدي» فإذا قال: }إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ انتظر قوله: «هذا بيني وبين عبدي» فإذا قال: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ{ إلى آخر انتظر قوله: «هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل»([6]).
طعم الصلاة
ومن ذاق طعم
الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام
والركوع والسجود مقامها، فلكل عبودية من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل
من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها.
الحمد لله
فعند قوله: }الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ{ تجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى فعلاً ووصفًا
واسمًا, وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلاً
ووصفًا واسمًا, فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه, منزه عن العيوب والنقائص في
أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك،
وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال،
وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما
فيهما فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده ووجد بحمده؛
فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، وإرساله
رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عمرت بأهلها بحمده، والنار عمرت بأهلها
بحمده، وما أطيع إلا بحمده وما عُصي إلا
بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يحرك في الكون ذرة إلا بحمده، وهو المحمود
لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يوحده العباد، والإله
الحق وإن لم يؤلهوه، وهو سبحانه الذي حمد نفسه على لسان القائل: الحمد لله رب
العالمين، كما قال النبي r: «إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن
حمده»([7]).
فهو الحامد
لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه وإجراؤه
بحمده.
فله الحمد كله،
وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية
الحمد.
ومن عبوديته
أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمد فإذا حمده
على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده وهلم جرا.
فالعبد ولو
استنفد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه كان ما يجب له من الحمد ويستحق فوق
ذلك وأضعاف، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده.
ومن عبودية
العبد شهود العبد لعجزه عن الحمد وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو المحمود عليه
إذ هو مجريه على لسانه وقلبه.
ومن عبوديته
تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرة وباطنة على ما يحب العبد وما
يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة وإن غاب عن شهود العبد.
رب العالمين
ثم لقوله: }رَبِّ الْعَالَمِينَ{ من العبودية
شهود تفرده سبحانه بالربوبية، وأنه كما أنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومدبر
أمورهم وموجدهم ومفنيهم فهو وحده إلههم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم عند النوائب فلا
رب غيره، ولا إله سواه.
الرحمن الرحيم
ثم لقوله: }الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ{ عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته وسعها لكل شيء وأخذ كل موجود
بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصة التي أقامت عبده بين يديه في خدمته يناجيه
بكلامه ويتملقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته وإتمام نعمته عليه، فهذا من رحمته
بعبده، فرحمته وسعت كل شيء, كما أن حمده وسع كل شيء.
مالك يوم الدين
ثم يُعطي قوله:
}مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ{ عبوديتها ويتأمل تضمنها لإثبات المعاد، وتفرد الرب فيه بالحكم بين
خلقه، وأنه يوم يدين فيه العباد بأعمالهم في الخير والشر وذلك من تفاصيل حمده،
وموجبه.
ولما كان قوله:
}الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ إخبارًا عن حمده تعالى قال الله: «حمدني عبدي» ولما كان
قوله: }الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ{ إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: «أثنى علي عبدي» فإن
الثناء إنما يكون بتكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، ولما وصفه سبحانه بتفرده
بـ }مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ{ وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته
وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجدًا فقال: «مجدني عبدي» فإن التمجيد هو الثناء
بصفات العظمة والجلال.
إياك نعبد وإياك نستعين
فإذا قال: }إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ انتظر جواب ربه له: «هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل»
وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما ومَيِّزَ الكلمة التي لله والكلمة التي
للعبد، وَفَقِهَ سرَّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي
تقتضيه كلمة }إِيَّاكَ
نَعْبُدُ{ والتوحيد الذي تقتضيه كلمة }وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ{ وَفَقِهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء
قبلهما والدعاء بعدهما, وَفَقِهَ تقديم: }إِيَّاكَ
نَعْبُدُ{ على }وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ{ وتقديم المعمول على الفعل مع الإتيان به مؤخرًا، أوجز وأشد
اختصارًا، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة، وعلم ما دفع كل واحدة من الكلمتين من
الآفة المنافية للعبودية، وكيف تدخله الكلمتان في صريح العبودية، وَعَلِمَ كيف
يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر
والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلَّ الغايات وأكمل الوسائل، وكيف
جيء بهما بضمير الخطاب والحضور دون ضمير الغائب.
اهدنا الصراط المستقيم
ثم تأمل ضرورته
وفاقته إلى قوله: }اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{ الذي مضمونه:
1- معرفة الحق. 2-
وقصده وإرادته.
3- والعمل به 4-
والثبات عليه.
5- والدعوة
إليه والصبر على أذى المدعو
فباستكمال هذه
المراتب الخمس تستكمل الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.
أمور الهداية
ولما كان العبد
مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره من:
1- أمور قد
فعلها على غير الهداية علمًا، وعملاً وإرادة فهو محتاج إلى التوبة منها وتوبته
منها هي الهداية.
2- وأمور قد
هدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
3- وأمور قد
هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها؛ لتتم له الهداية ويزاد
هدى إلى هداه.
4- وأمور يحتاج
فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثلما حصل له في ماضيها.
5- وأمور يعتقد
فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتثبت فيه
ضده.
6- وأمور من
الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له
إرادة فعلها فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها.
7- وأمور منها
هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها.
8- وأمور منها
هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتم له
الهداية.
9- وأمور هو
قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملاً فهو محتاج إلى الثبات عليها
واستدامتها.
كانت([8]) حاجته إلى
سؤال الهداية أعظم الحاجات وفاقته إليها أشد الفاقات، فرض عليه الرب الرحيم هذا
السؤال كل يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس مرات متعددة، لشدة ضرورته
وفاقته إلى هذا المطلوب.
الناس والهداية
ثم بَيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال،
فانقسم الخلق إذًا ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:
1- مُنْعَمٌ
عليه بحصولها، واستمرار حظه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.
2- وضال لم
يُعْطَ هذه الهداية ولم يوفق لها.
3- ومغضوبٌ
عليه عرفها ولم يوفق للعمل بموجبها.
فالأول:
المُنعم عليه قام بالهدى ودين الحق علمًا، عملاً والضال منسلخ عنه علمًا وعملاً
والمغضوب عليه عارف به علمًا منسلخ منه عملاً.
([1]) السمايم: الريح الحارة.
لسان العرب (12/304).
([2]) الرضخ: العطية القليلة. انظر النهاية لابن
الأثير (2/228).
([3]) الحديث عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أخرجه الترمذي، كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء (1/77).
([4]) هو ابن تيمية رحمه الله.
([5]) المونق: من الأنق وهو
الفرح والسرور، ورياضه المونقة أي بساتينه التي تجلب الفرح والسرور.
([6]) إشارة إلى حديث أبي هريرة
وأوله «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» وقد أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب وجوب
قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/296).
([7]) إشارة إلى حديث أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه مسلم (404).
([8]) جواب قوله: «ولما كان
العبد مفتقرًا..».
لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف من الرابط اسفل المقال
تحميل كتاب ذوق الصلاة عند ابن قيم الجوزية PDF برابط ميديا فير مباشر من هنا