خرج الإمام أحمد إلى الدنيا بعد استقرار الحكم لبني العباس، في وقت تميز
بالاستقرار السياسي في معظم فتراته، وعاصر الإمام ثمانية من الخلفاء، وهم: المهدي
والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.
ويعد هذا العصر عصر انتصارات واسعة، وحضارة مزدهرة، وقوة وهيبة للخلافة،
وكانت الحركة العلمية قوية جدًا؛ فبغداد دار السلام والخلافة والعلم والعلماء.
ولكن مما يلحظ على هذا العصر – المزدهر في شتى مجالاته – ما صاحبه من تعكير
صفوه بتأثير الفرس والروم السيء سياسةً وفكرًا وعقيدةً، وزاده سوءًا ما عُرب من
كتبهم وكتب اليونان والهند، فابتليت الأمة بفتنة عمياء ومحنة شنعاء ألا وهي: «محنة
القول بخلق القرآن» والتي حُمِلَ الناس على القول بها([2]).
وقد ابتدأها الخليفة العباسي المأمون؛ وذلك بعد أن استحوذ المعتزلة عليه
فأزاغوه، وزينوا له هذا المذهب الفاسد، ولم يكن خليفة من الخلفاء قبله إلا وهو على
مذهب السلف ومنهاجهم القويم([3]).
وبعد تولي المأمون الخلافة سنة (198هـ)، ظهرت الدعوة إلى القول بخلق
القرآن؛ بسبب تقريبه لأهل البدع والاعتزال، من أمثال أحمد بن أبي دُؤَاد([4])،
الذي كان رأس الفتنة ومشعلها في الأمة – عامله المولى بما يستحق – والسبب في ميل
المأمون للمعتزلة وتقريبه لهم أنه كان تلميذًا لأبي الهذيل العلّاف والذي كان من
رؤوس المعتزلة([5]).
فأخذ يعمل جاهدًا في نشر الاعتزال طيلة تسع عشرة سنة، دون أن يحمل الناس
على ذلك بقوة السلطان، فلما دخلت سنة ثماني عشرة ومائتين من الهجرة، أمر بامتحان
العلماء وحملهم على القول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه في بغداد، وهو إسحاق بن إبراهيم
الخزاعي يأمره بحمل الناس على ذلك، وقد استعمل في حمل العلماء على تلك المقولة
التهديد والوعيد، فمن امتنع منهم عن القول بخلق القرآن حُبِسَ، وضيق عليه، وضرب،
وعُزل عن وظيفته، وقطع رزقه من بيت المال ([6]).
ثم كتب إليه ثانية بإحضار أشخاص سبعة، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي،
ويحيى بن معين، وأبو خثيمة، وأبو مسلم المستملي، وإسماعيل بن داود الجوزي، وأحمد
الدورقي، وابن أبي مسعود، فحملوا إلى الرقة ([7]) حيث المأمون، فامتحنهم
فأجابوا خوفًا من السيف ثم أطلقوا.
ولقد اغتم الإمام لإجابة هؤلاء؛ لأن هذا مبدأ الأمر فلو صبروا لانقعطت
الفتنة وانتهت المحنة، ولكن الله غالب على أمره.
قال حنبل: «سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل – وذكر الذين حملوا إلى الرقة
إلى المأمون وأجابوا – فذكرهم أبو عبد الله بعد ذلك فقال: هؤلاء لو كانوا صبروا
وقاموا لله لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل – يعني: المأمون – ولكن لما أجابوا
وهم عين البلد اجترأ على غيرهم. وكان أبو عبد الله إذا ذكرهم اغتم لذلك، ويقول: هم
أول من ثلم هذه الثلمة وأفسد هذا الأمر»([8]).
ثم كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ثالثة يأمره بإحضار مزيد من العلماء
لامتحانهم، منهم: الإمام أحمد، ومحمد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن
بن حماد سجادة، فأخذهم وامتحنهم فأبوا أن يجيبوا جميعًا، ثم امتحنهم مرة أخرى، فمن
امتنع أمر بحبسه وتقييده، فلما كان بعد ذلك دعا بالقواريري، وسجادة فأجابا وخلى
عنهما، فبقي ممن لم يجب الإمام أحمد، ومحمد بن نوح – عليهم رحمة الله -، فلم يجيبا
أبدًا، وامتنعا عن القول بذلك، فحبسا أيامًا، حتى ورد كتاب المأمون من طرسوس ([9])
يأمر بحملهما مقيدين فحملا إليه، ومضى الإمام داعيًا ربه ألا يريه المأمون، فلما
بلغا الرقة تلقاهم نبأ موت المأمون في السنة نفسها (218هـ)، فردا إلى بغداد، فلما
كانا ببلدة عانة([10])
توفي محمد بن نوح رحمه الله، فصلى عليه الإمام ودفنه ([11]).
قال الإمام أحمد: «فكنت أدعو الله ألا يريني وجهه، قال: فلما دخلنا طرسوس
أقمنا أيامًا، فإذا رجل قد دخل علينا، فقال لي: يا أبا عبد الله قد مات الرجل –
يعني: المأمون – فحمدت الله وظننت أنه الفرج، إذا رجل قد دخل فقال: إنه قد صار مع
أبي إسحاق المعتصم رجل يقال له: ابن أبي دؤاد، وقد أمر بإحضاركم إلى بغداد، فجاءني
في أمر آخر فحمدت الله على ذلك، وظننت أنا قد استرحنا حتى قيل لنا: انحدروا إلى
بغداد»([12]).
فجيء بأبي عبد الله مقيدًا حتى أدخل السجن، فكانت بداية هذه المحنة العظيمة
في هذه السنة – أعني: ثماني عشرة ومائتين -([13]).
فتولى بعد المأمون المعتصم، فاقتفى أثر سابقه واستفحلت المحنة بعد توليه
الخلافة، فلم يكتفوا بإدخال الإمام سجن بغداد، بل أنالوه الأذى وضربوه ضربًا
شديدًا حتى تخلعت يداه، والإمام صابر يناظر ويحتمل صنوف الأذى مع سجن دام نحوًا من
ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نحوًا من ثلاثين شهرًا، وناظروه طويلاً فلم يستطيعوا
له تحويلاً ولا صرفًا إلى بدعتهم، بل كان يسكتهم بقوة حجته، وشدة يقينه وإيمانه،
وثبات قلبه، فلما رأى الخليفة المعتصم إصراره وعدم تزحزحه عن قوله أمر بضربه بين
يديه فطاله الأذى العظيم، حتى لقد قال أحد الجلادين: «لقد ضربت أحمد بن حنبل
ثمانين سوطًا، لو ضربت فيلاً لهدته»([14]).
وفي شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين أمر الخليفة بإطلاقه، ففرح
المسلمون بخروجه وأقام في بيته يتعالج من آثار الضرب الشديد حتى شفاه الله، وبعد
برئه باشر التدريس والفتوى وحضور الجمعة والجماعة حتى مات المعتصم سنة سبع وعشرين
ومائتين.
فيكون الإمام قد مكث في السجن منذ أُخِذَ وحُمِلَ إلى المأمون إلى أن ضربه
المعتصم وخلى عنه سنتين وأربعة أشهر ([15]).
ثم ولي الواثق بالله الخلافة بعد أبيه المعتصم، فأظهر ما أظهره سلفه من حمل
الناس على القول بخلق القرآن والانقياد لما يمليه عليه رأس المعتزلة وأحمدُ البدعة
ابنُ أبي دؤاد.
فلما دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين أمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق
القرآن، لكنه لم يتعرض للإمام أحمد بشيء في هذا الامتحان، بل اكتفى بالإرسال إلى
نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم أن يبلغ الإمام بأن لا يجتمع إليه أحد، ولا يسكن
بأرض أو مدينة هو فيها، وأن يلزم بيته، ولا يخرج إلى جمعة ولا جماعة، وإلا نزل بك
ما نزل بك في أيام أبي إسحاق، فاختفى الإمام أحمد بقية حياة الواثق، ولم يزل ينتقل
في الأماكن، ثم عاد إلى بيته بعد أشهر ولزم منزله فلا يخرج منه لا إلى جماعة ولا
إلى جمعة، وامتنع من التحديث، واستمر به ذلك إلى أن توفي الواثق سنة اثنتين
وثلاثين ومائتين([16]).
وفي تعليل ذلك نقل ابنه صالح عنه أنه قال: «إني لأرى طاعته في العسر
واليسر، والمنشط والمكره والأَثَرة، وإني لآسف عن تخلفي عن الصلاة، وعن حضور
الجمعة، ودعوة المسلمين»([17]).
ثم ولي الخلافة بعده المتوكل، فكشف الله به الغمة، وأظهر السنة، ومحا
البدعة، وأخمد الفتنة، ففرح المسلمون بالفرج، وقد أكرم الإمام أحمد وعظمه، حتى كان
لا يولي أحدًا ولاية إلا بمشورته، وطلب منه الإقامة عنده فأبى ([18]).
فهذا مجمل خبر المحنة، وبيان فصولها العريضة، ولقد خرج منها الإمام أحمد
بعد صبره منتصرًا، وبعد مكابدته مظفرًا، فجعل الله له قبولاً في الأرض، حتى أصبح
إمامًا لأهل الجماعة والسنة، ومحنة لأهل الأهواء والبدعة.
ولقد صدق بشر بن الحارث أحد أصحاب الإمام إذ يقول: «إن أحمد أدخل الكير
فخرج ذهبًا أحمر»([19]).
وقال علي بن المديني: «أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم
المحنة»([20]).
وقال الميموني: «قال لي علي بن المديني بعدما امتحن أحمد: يا ميموني، ما
قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل. فعجبت من هذا عجبًا شديدًا، وذهبت إلى
أبي عبيد القاسم بن سلام، فحكيت له مقالة علي بن المديني، فقال: صدق، إن أبا بكر
وجد يوم الردة أنصارًا وأعوانًا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان، ثم
أخذ أبو عبيد يُطْري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله»([21]).
وفيه
مطلبان:
وفيه
ما يلي:
وقد كان هذا من الإمام رحمه الله في آخر أمر المحنة قبل وفاته، وأما قبل
ذلك فقد حدَّث أيامًا يسيرة بعد وفاة المعتصم.
قال أبو عبد الله البوشنجي: «حدث أحمد جهرة حين مات المعتصم، فرجعت من
الكوفة، فأدركته في رجب سنة سبع وعشرين وهو يحدث، ثم قطع الحديث لثلاث بقين من
شعبان بلا منع، بل كتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد: إن
أحمد قد انبسط في الحديث، فبلغ ذلك أحمد، فقطع الحديث إلى أن توفي»([22])،
فيكون تركه للتحديث في هذه الفترة قد استمر قرابة خمسة أعوام.
وفي أول عهد المتوكل – بويع له بالخلافة في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين
ومائتين – كان الإمام يحدث، بل يرى أن حاجة الناس إلى العلم شديدة وملحة في زمن
المحن والفتن.
قال ابن عمه حنبل بن إسحاق: «ثم ولي جعفر المتوكل، فلما ولي انكشف ذلك عن
المسلمين، وأظهر الله السنة، وفرج عن الناس، فكان أبو عبد الله يحدثنا، وسمعته
يقول: ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم في زماننا هذا»([23]).
وقال أبو بكر المروذي: «سمعت يعقوب رسول الخليفة يقول لأبي عبد الله: يجيئك
ابني بين المغرب والعشاء فتحدثه بحديث واحد أو حديثين، فقال: لا، لا يجيء. فلما
خرج سمعته يقول: ترى لو بلغ أنفه طرف السماء حدثته! أنا أحدث حتى يوضع الحبل في
عنقي!»([24]).
وفي سياق آخر: أن أبا عبد الله لما أرسل إلى المتوكل في سامراء، قال له
يعقوب – أحد حُجاب المتوكل -: «إن لي ابنًا أنا به معجب، وإن له في قلبي موقعًا،
فأحب أن تحدثه بأحاديث، فسكت، فلما خرج قال: أتراه لا يرى ما أنا فيه؟!»([25]).
ثم استقر الأمر بالإمام ألا يحدث إلا ولده وحنبل ابن عمه.
قال عبد الله: «سمعت أبي سنة سبع وثلاثين ومائتين يقول: قد استخرت الله أن
لا أحدث حديثًا على تمامه أبدًا، ثم قال: إن الله يقول: }يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ{ [المائدة: 1]، وإني أعاهد الله أن لا أحدث
بحديث على تمامه أبدًا، ثم قال: ولا لك، وإن كنت تشتهي.
فقلت له بعد ذلك بأشهر: أليس يروى عن شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد
الله بن الحارث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «العهد يمين»([26])؟
قال: نعم سكت، فظننت أنه سيكفر، فلما كان بعد أيام قلت له في ذلك، فلم ينشط
للكفارة، ثم لم أسمعه يحدث بحديثٍ على تمامه»([27]).
وقال حنبل: «وكان أبو عبد الله قد بلغ بُصْرَى – لما خرج إلى المتوكل
بالعسكر في سُرَّ مَنْ رأى – فوجه إليه رسولاً، وقد باب ببصرى يأمره بالرجوع، فرجع
أبو عبد الله، وامتنع من الحديث إلا لولده ولنا، وربما قرأ في منزلنا»([28]).
وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله في العسكر، يقول لولده: قال الله تعالى: }أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ{ [المائدة: 1]، أتدرون ما العقود؟ إنما هو
العهود، وإني أعاهد الله عز وجل، ثم قال: والله، والله، والله، وعلي عهد الله
وميثاقه ألا حدثت بحديث لقريب ولا لبعيد حديثًا تامًا حتى ألقى الله، ثم التفت إلى
ولده وقال: وإن كان هذا يشتهي منه ما يشتهي، ثم بلغه عن رجل من الدولة وهو ابن
أكثم أنه قال: قد أردت أن يأمره الخليفة أن يكفر عن يمينه، ويحدث، فسمعت أبا عبد
الله يقول لرجل من قبل صاحب الكلام: لو ضربت ظهري بالسياط، ما حدثت ([29]).
ويستنتج من كل ما مضى في مسألة ترك التحديث ومراحله ومنهج الإمام فيه ما
يلي:
أولاً: أن الإمام كان يرى عظيم أثر العلم والحديث والسنة لا سيما أيام
المحن وظهور البدع وعلو شأنها.
ثانيًا: أن أول ترك للتحديث منه رحمه الله كان من قبله ابتداءً، ولم يكن
بمرسوم من السلطان، وذلك في سنة سبع وعشرين ومائتين – أي: في زمن المحنة وقبل
انجلاء غمتها – ولم يستمر هذا الترك.
وأما قبل ذلك فلم يترك التحديث، بل إن تلك الفترة – بين سنة عشرين وسبع
وعشرين – هي التي أسمع فيها ابنيه وابن عمه حنبل مسنده، فقد قيل: إن ذلك كان سنة
خمس وعشرين ومائتين، وفي هذه الفترة أيضًا حدَّث عنه فيها الأئمة كمسلم وأبي داود
وغيرهما؛ كما عُلم من تاريخ رحلاتهم ودخولهم إلى بغداد للسماع من شيوخها وعلى
رأسهم الإمام رحمه الله.
ثالثًا: أنه ترك تحديث ابن رسول الخليفة ولم يكن ذلك بسبب أمر المحنة؛ بل
للموقف الواضح من أبي عبد الله تجاه السلاطين وأعوانهم، وأيضًا لم يكن طلب رسول
الخليفة لأبي عبد الله أن يحدث ابنه إلا لطلب الشرف بذلك والتزين به.
رابعًا: أن الإمام ترك التحديث لعامة الناس، واقتصر على تحديث ولده وابن
عمه، وهو الذي استمر عليه حتى مات رحمه الله، وكان ذلك من سنة سبع وثلاثين، ويلحظ
على هذه المرحلة أنه في آخرها لم يكن ينبسط للتحديث مطلقًا، بل أقسم على نفسه ألا
يحدث حديثًا تام.
وهذا كان من الإمام أحمد – فيما وقفتُ عليه – في راوٍ واحدٍ وهو الإمام
الحجة المتقن علي بن عبد الله بن المديني (ت234هـ).
فالإمام رحمه الله روى عنه قبل المحنة، فلما حصلت ترك الرواية عنه في
أثنائها وبعدها، لكنه لم يضرب على حديثه جملةً كغيره لجلالته وعظيم منزلته في هذا
الشأن؛ ولذا وجد لابن المديني في المسند أكثر من خمسة وستين حديثًا.
وقد ورد التصريح في ثلاثة مواضع من المسند على أن روايته عنه كانت قبل
المحنة، وسيأتي مزيد بسط لذلك عند الكلام على موقف أحمد من ابن المديني تفصيلاً.
وهذا الصنيع كان من الإمام مع جملة من الرواة، فيهم كبار أئمة وأساطين
رواية؛ كابن معين، وعلي بن الجعد، وأبي نصر التمار، وغيرهم.
قال أبو الفضل صالح ابن الإمام: «وضرب أبي على حديث كل مَنْ أجاب»([30]).
وقال سعيد بن عمر البرذعي: «سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن
حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار، ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن
امتحن فأجاب»([31]).
وقال أبو زرعة أيضًا: «كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن علي بن الجعد،
ولا سعيد بن سليمان، ورأيته في كتابه مضروبًا عليهما»([32]).
ويظهر هذا الأثر حينما أنكر الإمام رحمه الله ما بلغه عن ابن المديني أنه
حديث بحديث: «كلوه إلى عالمه»، فقال فيه: «كلوه إلى خالقه»، وهو مما أخطأ فيه
الوليد بن مسلم، فحدث به ابن المديني على الخطأ في قصة بينه وبين ابن أبي دؤاد
زعيم فتنة القول بخلق القرآن.
قال الخطيب البغدادي: «أخبرنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه، أخبرنا عيسى
بن حامد القاضي، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد الصيدلاني، حدثنا أبو بكر المروذي،
قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: إن علي بن المديني يحدث عن الوليد بن مسلم،
عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أنس، عن عمر: «كلوه إلى خالقه»؟ فقال أبو عبد الله:
كذب، حدثنا الوليد بن مسلم مرتين ما هو هكذا، إنما هو: «كلوه إلى عالمه»([33]).
قلت لأبي عبد الله: إن عباسًا العنبري قال لما حدث به بالعسكر: قلت لعلي ابن
المديني: إنهم قد أنكروه عليك؟ فقال: حدثتكم به بالبصرة، وذكر أن الوليد أخطأ فيه،
فغضب أبو عبد الله وقال: فنعم، قد علم – يعني: علي بن المديني – أن الوليد أخطأ
فيه فلم أراد أن يحدثهم به؟ يعطيهم الخطأ؟ وكذبه أبو عبد الله»([34]).
قال الخطيب: «أخبرنا البرقاني: سمعت أبا بكر أحمد بن جعفر بن سلم يقول: عبد
الله بن أحمد بن حنبل لم يكن عنده عن رجل عن شعبة إلا عن يحيى بن عبدويه، عن شعبة،
ولم يسمع من علي بن الجعد، منعه أبوه عنه إذ أجاب في الفتنة، وحثَّه أبوه على
السماع من يحيى بن عبدويه وأثنى عليه»([35]).
وقال ابن حجر: «كان عبد الله بن أحمد لا يكتب إلا عمن أذن له أبوه في
الكتابة عنه، وكان لا يأذن له أن يكتب إلا عن أهل السنة، حتى كان يمنعه أن يكتب
عمن أجاب في المحنة؛ ولذلك فاته علي بن الجعد ونظراؤه من المسند»([36]).
على أن هذا الامتناع من عبد الله كان مؤقتًا؛ لأن المتقرر أن عبد الله إنما
سمع من أبيه وبقية شيوخه بعد المحنة كما قال الذهبي([37])؛ إذ كان في زمن المحنة
صغيرًا، فقد ولد قبل ابتدائها بخمس سنين في سنة ثلاث عشرة ومائتين، وعبد الله بقي
بعد أبيه قرابة الخمسين عامًا، وقد وجد في كتبه بما فيها زوائد المسند تحديثه عن
جملة ممن أجاب في المحنة؛ كيحيى بن معين، وأبي معمر، وأبي كريب وغيرهم.
ولعل طول مدة بقاء عبد الله بعد المحنة وجلالة هؤلاء الأئمة وطلب العلو في
الإسناد من الأسباب التي دعته إلى عدم ترك التحديث عنهم، وأنه ربما حمل نهي أبيه
له على زمن المحنة وما قاربه، أو لعله ترخص في ذلك كغيره من الرواة، وأن موقف أبيه
رحمه الله عزيمة يصعب تطبيقها، وإلا لفاته الكثير من الشيوخ والأحاديث والأسانيد
العالية.
وفيه
ما يلي:
وقد كان هذا من الإمام رحمه الله في الثناء على من ثبتوا في المحنة وأعطوا
الجهد من نفوسهم ولم يجيبوا، فقد اشتهر ثناؤه على محمد بن نوح وأحمد بن نصر
الخزاعي، وسيأتي الكلام تفصيلاً عن ذلك في تراجمهم في المبحث الثالث.
لا شك أن موقف الإمام رحمه الله تجاه هذه الطائفة كان صريحًا وواضحًا، وقد
تجلى ذلك فيما يلي:
كلامه الصريح في بعض الرواة من أجل ذلك.
ترك الرواية عن بعضهم أثناء المحنة وبعدها.
الضرب على حديث رواةٍ آخرين مطلقًا، بما في ذلك ما سمع منهم قبل المحنة.
هجر من أجاب إلى ذلك، حتى ربما في ردَّ السلام وبدء الكلام، مع أن منهم من
بينه وبينهم مودة تامة، وصحبة صادقة؛ كابن معين رحمه الله.
عدم شهوده لجنائز بعضهم.
نهيه لابنه عبد الله أن يحدث عن هؤلاء.
وهذا الأثر تجليته واضحًا وتحريره كشفًا وبيانه وصفًا هو لب المراد وخلاصة
القصد، فقد تباينت الأفهام تفسيرًا واختلفت الأقلام تسطيرًا وازدوجت المقاصد
تأويلاً في وصف موقف الإمام رحمه الله من هذه الطائفة من الأئمة في هذه المحنة
المدلهمة، فطائفة حرَّفت، وأخرى انتقصت، وثالثة غلت وأسرفت.
وأستمد مولاي مدده وعونه في بيان ذلك وإيضاحه من خلال النقاط التالية:
1- أن المسألة جليلة، والقول بها خطير، والزلل فيها كبير، وليست مسألة هينة
سهلة، من فضول العلم ومكملاته، وذلك بالنظر إلى مقاصدها، وما تفضي إليها من
التعطيل، وجحد الشريعة، وتكذيب الربّ – عياذًا بالله تعالى -.
2- أن مَنِ امتحن في هذا الشأن كانوا أئمة كبارًا، مقتديً بهم، أسوةً
لغيرهم، لهم تمام الأثر في عامة الناس، إيجابًا أو سلبًا، خيرًا أو شرًا، فبهم –
بعد قدرة الله وإرادته وحكمته – نجاة الناس أو هلاكهم في هذا الأمر الكبار، وهذا
مقصد الإلحاح في امتحانهم من أحمد البدعة والاعتزال ابن أبي دؤاد – عليه من الله
ما يستحق.
3- أن عامة الناس قد اشرأبت أعناقهم، وشخصت أبصارهم، وأصغت أسماعهم ينتظرون
جواب هؤلاء الأئمة وقولهم في ذلك.
4- أن الإمام رحمه الله كان قد أمل في بعضهم تمام الثبات، والتعاون على
الحق، والتواصي بالصبر.
5- أن الإمام قارن موقف بعض كبار أهل العلم وأئمة الدين بموقف أفراد ليسوا
بمنزلتهم؛ كموقف ابن المديني أو ابن معين بموقف محمد بن نوح – رحمهم الله تعالى –
فأثر ذلك في نفسه.
6- أن موقفه رحمه الله من الابتداع وأهله عمومًا فيه حزم وعزيمة، لا رخصة
عنده في هذا الأمر، وإذا كان قد أقل الرواية عن رواة عدلهم وأثنى عليهم بسبب شيء
من التشيع أو القدر أو نحو ذلك ففي هذه النازلة أشد، بل قد ذهب الإمام إلى ما هو
أبعد من ذلك في موقفه من رواةٍ تتلمذوا في مدرسة أهل الرأي وعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله.
7- أن الأئمة الذين أجابوا إلى القول بذلك كانوا مكرهين بلا شك.
8- أن الإكراه لم يكن قد وصل – لا سيما مع بعضهم – إلى حدَّ الإلجاء الذي
يحصل به تمام المعذرة، ورفع الحرج، وسرعة الإجابة.
9- أن بيان مدرك الإكراه وتحقيق حكم المعذرة فيه يختلف باختلاف الأمر
الممتحن فيه، والشخص الممتحن، والعقوبة المتوعد عليها، وأثر الإجابة والموافقة
حالاً ومآلاً.
10- أن منهم من ندم على ذلك وكره ما حصل من سرعة الإجابة.
11- أن منهم من عذره الإمام لما كان
إكراهه ملجئًا، كما ذكر حنبل من عذره لعباس العنبري، وسجادة، والقواريري([38]).
12- أن موقف الإمام رحمه الله كان لخاصة نفسه واجتهاده، فلم يلزم به أحدًا
من الناس – سوى نهيه لابنه أن يحدث عمن أجاب – ولم يشع الكلام في هؤلاء الأئمة بين
الناس والدهماء.
13- أنه لم يجرحهم جرحًا عامًا، أو يسقط الرواية عنهم جملةً وتفصيلاً،
وإنما ترك حديث بعضهم، أو كلام فئة منهم، أو الانبساط إلى طائفة ثالثة، أو تشييع
جنازة لآخرين.
14- أنه قد وجد من وقف مثل موقف الإمام أو أشد منه، وحزن لإجابة من أجاب
حزنًا عظيمًا، فقد قال بشر بن الحارث الحافي: «وددت أن رؤوسهم خضبت بدمائهم
وأنهم لم يجيبوا»، وترك أبو زرعة الرواية عن بعض من أجاب، وترك أبو حاتم
الرواية عن قوم توقفوا، وهم بذلك عثمان بن سعيد الدارمي، ووجدت مواقف مماثلة لبعض
علماء الأندلس([39]).
15- أن إطلاق تفسير جرح الإمام لبعض الرواة بسبب المحنة جرى فيه شيء من
التوسع؛ بدليل أنه وجد جملة ممن أجاب أو له أثر سلبي واضح في المحنة لم يوقف على
كلام له فيه (كما سيأتي إيضاحه).
16- أنه لم يترتب على ذلك – فيما وقفت عليه – رد أحاديث الثقات أو قبول
رواية غيرهم، فليست المسألة إسقاطًا للعدالة أو كلامًا في ضبط الراوي من حيث
الصناعة الحديثية، وإنما هو موقف تدين واحتساب، وانتصار وغيرة على السنة ([40]).
17- أن معرفة بساط حال المحنة، وإدراك تأثيرها على نفس الإمام، وكشف
أغوارها، وتصور أبعادها يتوقف على معايشتها وحضور مشاهدها، وهي تلك الفتنة العظيمة
التي تجاوزت خمسة عشر عامًا، فليس من السهل أن يصادر موقف الإمام، أو يتعقبه، أو
يهون منه، بله أن يصفه بالتشدد والغلو والإفراط من يعيش رغدًا ويأتي خلفًا ([41])،
ولكن كما قالت العرب: «ويل للشجيَّ من الخليَّ».
18- أن من عرف وتأمل مسألة اللفظ وأثرها على الأئمة وعلم الجرح والتعديل
(كما في قصة الإمامين الذهلي والبخاري، أو الإمامين ابن منده وأبي نعيم – رحمه
الله الجميع رحمةً واسعة) تبين له شيء من التفسير والفهم لموقف الإمام أحمد في أصل
المحنة وأساسها.
19- أن من أئمة الجرح والتعديل من توقف في بعض الرواة، أو جرحهم بأدنى مغمز
وأهون سبب، بل ربما كان الحامل على ذلك مواقف شخصية، أو منافرة أقران؛ فكيف بمثل
هذه الفتنة العمياء؟!
20- حَسْبُ الإمام أنه مجتهدٌ، وهو من أئمة الاجتهاد المطلق، فليس بخارج عن
الأجرين والأجر، قدس الله روحه، وأعلى منزلته، وجزاه عنا خير الجزاء وأوفاه.
كلامه فيمن قال: القرآن مخلوق اعتقادًا:
كلامه رحمه الله في هذا الأمر كالشمس وضوحًا وكالقمر نورًا؛ سبيل غيره من
الأئمة، نصحاء الملة، وأمناء الأمة في أن من اعتقد ذلك فهو كافر.
وقد نقل ذلك عنه ما يزيد على خمسة وعشرين من أصحابه.
بل إن الإمام رحمه الله في عدد من النصوص عنه رتَّب جملة من الأحكام على
هذا الوصف.
فقال: «لا يصلي خلف من قال: القرآن مخلوق، فإن صلى رجلٌ أعاد»([42]).
وقال: «إذا كان القاضي جهميًا فلا تشهد عنده»([43]).
ونهى عن كلامهم، ومجالستهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم، وأمر بالتفرقة
بينهم وبين زوجاتهم ([44]).
المقصود بالواقفة الذين لم يفصحوا في المسألة نفيًا أو إثباتًا، فلم
يقولوا: القرآن غير مخلوق، ولا: مخلوق، وهؤلاء منهم من وقف مطلقًا ولم يصرحوا بشيء
مدعين أن الأمر لم يتبين لهم، وهذا الصنف يسمون عند السلف: الشاكة، وقد عدَّهم
الإمام رحمه الله جهمية، وصرح بكفرهم في بعض الروايات عنه، ولم يعذرهم بهذه الحجة
الواهية؛ لأن الأمر أوضح من أن يشك فيه، وبعضهم ربما اتخذ ذلك ذريعة إلى التستر
بالقول بخلق القرآن.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: «سمعت أبي رحمه الله يقول: من كان من أصحاب
الحديث أومن أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول: القرآن ليس بمخلوق فهو جهميٌّ»([46]).
وقال مرةً عن الواقفة: «من كان يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي، ومن لم يعرف
بالكلام يجانب حتى يرجع، ومن لم يكن له علم يسأل يتعلم»([47]).
وفي رواية ثالثة قال: «من وقف فهو كافر»، وقال: «من شك فهو كافر»([48]).
وفي رابعة ذكر أنهم أشد من الجهمية مبينًا العلة في ذلك فقال: «هم أشد على
الناس تزيينًا من الجهمية؛ هم يشككون الناس، وذلك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء
إذا قالوا: إنا لا نتكلم، استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية»([49]).
وقال في رواية الحسن بن ثواب: «هم شرٌّ من الجهمية، استتروا بالوقف»([50]).
وطائفة أخرى من الواقفة وقفوا عند قول: القرآن كلام الله فقط، معتقدين أن
هذا أسلم لهم، وأبعد عن الخوض في أصل المسألة، وقد سئل الإمام عنهم فقيل: «هل لهم
رخصة أن يقول الرجل: كلام الله. ثم يسكت؟ فقال: ولم يسكت؟! لولا ما وقع فيه الناس
كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا لأي شيء لا يتكلمون؟!»([51]).
وقال في رواية سلمة بن شبيب: «من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو
كافر. ثم قال: لا تشكن في كفرهم، فإن لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو
يقول: مخلوق، ومن قال: هو مخلوق، فهو كافر»([52]).
وفي رواية أبي بكر المروذي قال: «لا نرضى أن يقول: كلام الله. ويسكت، حتى
يقول: إنه غير مخلوق»([53]).
وقد نهى الإمام أبو عبد الله رحمه الله عن كلامهم، وأمر بهجرهم والبعد
عنهم، بل وأفتى بالتفريق بين الزوجين من أجل ذلك.
قال أبو بكر المروذي: «قدم رجل من ناحية الثغر فأدخلته عليه، فقال: ابن عم
لي يقف، وقد زوجته ابنتي، وقد أخذتها وحولتها إلي، علي أن أفرق بينهما؟ فقال: لا
ترضى منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما»([54]).
وفي رواية الـجُرْجَرائي قال: «سألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة،
ولها زوج واقفي، قال: يلتقي بها ويسلم عليها، قلت: فإن كانت الدار له؟ قال: يقف
على الباب ولا يدخل»([55]).
وفيه
مطلبان:
1- أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي
نزيل طرابلس:
هو: الإمام الحافظ الأوحد الزاهد أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح بن
مسلم، العجلي الكوفي، نزيل طرابلس، من أئمة الجرح والتعديل، له كتاب «معرفة الثقات»،
ولد بالكوفة سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين رحمه الله ([56]).
موقفه في المحنة:
قال الذهبي: «ومن كلام أحمد بن عبد الله قال: من آمن برجعة علي رضي الله
عنه فهو كافر، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وقيل: إنه فرَّ إلى المغرب لما ظهر
الامتحان بخلق القرآن، فاستوطنها وولد له بها»([57]).
وقد قيل: إنه ارتحل إلى المغرب في السنة التي ابتدأت فيها المحنة، سنة ثمان
عشرة ومائتين، وأنه لقي الإمام أحمد ودخل عليه ببغداد قبل رحلته.
موقف الإمام منه:
لم أقف على كلام للإمام أحمد في أبي الحسن العجلي، ولعل السبب تقدم رحلته
إلى بلاد المغرب وبقاؤه هناك حتى توفي رحمه الله.
2- أحمد بن نصر الخزاعي:
هو: الإمام الكبير الشهيد أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم،
الخزاعي المروزي ثم البغدادي، كان رحمه الله أمَّارًا بالمعروف قوالاً بالحق،
استشهد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، قتله الواثق في قصة المحنة([58]).
موقفه في المحنة:
قال الذهبي: «قال الصولي: كان هو وسهل بن سلامة حين كان المأمون بخراسان
بايعا الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قدم المأمون فبايعه سهل،
ولزم ابن نصر بيته، ثم تحرك في آخر أيام الواثق، واجتمع إليه خلق يأمرون بالمعروف.
قال: إلى أن ملكوا بغداد، وتعدى رجلان موسران من أصحابه، فبذلا مالاً،
وعزما على الوثوب في سنة إحدى وثلاثين، فنمَّ الخبر إلى نائب بغداد إسحاق بن
إبراهيم، فأخذ أحمد وصاحبيه وجماعة، ووجد في منزل أحدهما أعلامًا، وضرب خادمًا
لأحمد، فأقر بأن هؤلاء كانوا يأتون أحمد ليلاً، ويخبرونه بما عملوا، فحملوا إلى
سامراء مقيدين، فجلس الواثق لهم، وقال لأحمد: دع ما أخذت له، ما تقول في القرآن؟
قال: كلام الله.
قال: أفمخلوق هو؟ قال: كلام الله.
قال: فترى ربك في القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية.
قال: ويحك يرى كما يرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان ويحصره ناظر؟! أنا
كفرت بمن هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فقال قاضي الجانب الغربي: هو حلال الدم، ووافقه
فقهاء، فأظهر أحمد بن أبي دؤاد أنه كاره لقتله، وقال: شيخ مختل، تغير عقله، يؤخر.
قال الواثق: ما أراه إلا مؤديًا لكفره، قائمًا بما يعتقده، ودعا بالصمصامة
وقام، وقال: احتسب خطاي إلى هذا الكافر، فضرب عنقه، بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو
مقيد، ونصب رأسه بالجانب الشرقي، وتتبع أصحابه فسجنوا...، وعلق في أذن أحمد بن نصر
ورقة فيها: هذا رأس أحمد بن نصر، دعاه الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي
التشبيه فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك.
ونقل عن الموكل بالرأس أنه سمعه في الليل يقرأ: (يس) وصح أنهم أقعدوا رجلاً
بقصبة، فكانت الريح تدير الرأس إلى القبلة، فيديره الرجل.
وقيل: رئي في النوم، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: ما كانت إلا غفوة حتى لقيت
الله، فضحك إلي([59]).
موقف الإمام منه:
قال المروذي: «سمعت أحمد وذكر أحمد بن نصر، فقال: رحمه الله، ما كان أسخاه،
لقد جاد بنفسه»([60]).
3- إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس.
هو: الإمام الحافظ الصدوق إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك
بن أبي عامر، أبو عبد الله، الأصبحي المدني، ولد سنة تسع وثلاثين ومائة، وتوفي سنة
ست وعشرين، وقيل: سبع وعشرين ومائتين، روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود،
والترمذي، وابن ماجه ([61]).
قال الذهبي: «وكان عالم أهل المدينة ومحدثهم في زمانه، على نقص في حفظه
وإتقانه، ولولا أن الشيخين احتجا به لزحزح حديثه عن درجة الصحيح إلى درجة الحسن،
هذا الذي عندي فيه ... الرجل قد وثب إلى ذاك البر، واعتمده صاحبا الصحيحين، ولا
ريب أنه صاحب أفراد ومناكير تنغمر في سعة ما روى، فإنه من أوعية العلم، وهو أقوى
من عبد الله كاتب الليث»([62]).
وقال ابن حجر: «صدوق، أخطأ في أحاديث من حفظه»([63]).
موقفه في المحنة:
لقد ثبت الله أبا عبد الله الأصبحي في هذه المحنة فلم يجب إلى القول بخلق
القرآن.
قال ابن الجوزي: «قال أبو الحسين بن المنادي: وممن لم يجب: أبو نعيم الفضل
بن دكين، وعفان، والبويطي، وإسماعيل بن أبي أويس وأبو مصعب المدنيان، ويحيى
الحماني»([64]).
موقف الإمام منه:
قال الفضل بن زياد: «سمعت أحمد بن حنبل وقيل له: من بالمدينة اليوم؟ فقال:
إسماعيل بن أبي أويس هو عالم كثير العلم. أو نحو هذا».
وقال مرة: «هو ثقة، قام في أمر المحنة مقامًا محمودًا».
وسأله أبو طالب عنه؟ فقال: «لا بأس به»([65]).
4- أصبغ بن الفرج المصري
هو: الشيخ الإمام الكبير الثقة، مفتي الديار المصرية وعالمها، أصبغ بن الفرج
بن سعيد بن نافع، أبو عبد الله الأموي مولاهم، المصري المالكي.
ولد بعد الخمسين ومائة، وتوفي مستترًا أيام المحنة سنة خمس وعشرين ومائتين،
روى له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي ([66]).
موقفه في المحنة:
قال القاضي عياض: «قال أبو العرب: قال يحيى بن عمر: اختفى أصبغ بن الفرج
أيام المعتصم وأخذه الناس بالمحنة في القرآن، فطلبه الأصم ([67])
فاختفى في داره، وكان إخوانه يأتونه فيها الواحد بعد الواحد حتى مات».
وقال أبو عمر الكندي: إن المعتصم كتب في أصبغ ليحمل في المحنة، فهرب إلى
حلوان، فاستتر بها ([68]).
قال الذهبي: «ومن مناقب أصبغ: قال ابن قديد: كتب المعتصم في أصبغ ليحمل
إليه في المحنة، فهرب واختفى بحلوان، رحمه الله»([69]).
موقف الإمام منه:
لم أقف على كلام للإمام فيه رحمهما الله تعالى.
5- الحارث بن مسكين الأموي.
هو: الإمام العلامة الفقيه الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف، أبو عمرو
الأموي المصري، أقضى القضاة بمصر، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وتوفي سنة خمسين
ومائتين، روى له: أبو داود، والنسائي ([70]).
قال الذهبي: «الحافظ الفقيه عالم الديار المصرية وقاضيها ...، وكان – مع
إمامته في العلم وزهده وعبادته – قوالاً بالحق، من قضاة العدل»([71]).
موقفه في المحنة:
قال الخطيب: «وكان فقيهًا على مذهب مالك بن أنس، وكان ثقة في الحديث ثبتًا،
حمله المأمون إلى بغداد في أيام المحنة وسجنه؛ لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن،
فلم يزل ببغداد محبوسًا إلى أن ولي جعفر المتوكل فأطلقه، وأطلق جميع من كان في السجن،
وحدث الحارث ببغداد ...، ورجع إلى مصر، وكتب إليه المتوكل بعهده على قضاء مصر، فلم
يزل يتولاه من سنة سبع وثلاثين ومائتين إلى أن صرف عنه في سنة خمس وأربعين ومائتين»([72]).
موقف الإمام منه:
قال أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: «قال لي عمي أبو علي
عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان بن مسكين قاضي مصر، فقال فيه قولاً جميلاً، وقال: ما
بلغني عنه إلا خير»([73]).
6- عاصم بن علي بن عاصم الواسطي.
هو: عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، أبو الحسين القرشي التيمي
مولاهم، توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين، روى له: البخاري، والترمذي، وابن ماجه ([74]).
قال الذهبي: «ثقة مكثر، لكن ضعفه ابن معين، وأورد له ابن عدي أحاديث منكرة»([75]).
وقال مرةً بعد تضعيف ابن معين له: «والصواب أنه صدوق؛ كما قال أبو حاتم»([76]).
وقال ابن حجر: «صدوق، ربما وهم»([77]).
موقفه في المحنة:
قال الذهبي: «قلت: كان عاصم رحمه الله ممن ذبّ عن الدين في المحنة، فروى
الهيثم بن خلف الدوري: أن محمد بن سويد الطحان حدثه قال: كنا عند عاصم بن علي
ومعنا أبو عبيد وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم
يقول: ألا رجلٌ يقوم معي، فنأتي هذا الرجل فنكلمه، قال: فما يجيبه أحدٌ، ثم قال
ابن أبي الليث: أنا أقوم معك يا أبا الحسين، فقال: يا غلام؛ خُفي، فقال ابن أبي
الليث: يا أبا الحسين أبلغ إلى بناتي فأوصيهم، فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط، ثم
جاء، فقال: إني ذهبت إليهن فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا
إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل، فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق
الله ولا تجبه، فوالله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت»([78]).
موقف الإمام منه:
قال في رواية أبي داود: «حديثه مقارب، حديث أهل الصدق، ما أقل الخطأ فيه،
ولكن أبوه كان يتهم في الشيء، قام من الإسلام بموضع أرجو أن يثيبه الله به الجنة»([79]).
وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: «ما أقل خطأه، قد عرض علي بعض حديثه»([80]).
وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: «قد عرض علي حديثه، وهو أصح حديثًا من
أبيه»([81]).
وقال الميموني، عن أحمد: «صحيح الحديث، قليل الغلط، ما كان أصح حديثه، وكان
– إن شاء الله - صدوقًا»([82]).
وقال المروذي: «قلت لأحمد: إن ابن معين قال: كل عاصم في الدنيا ضعيف؟ قال:
ما أعلم في عاصم بن علي إلا خيرًا، كان حديثه صحيحًا، حديث شعبة والمسعودي ما كان
أصحها»([83]).
7- عبد الأعلى بن مُسْهر أبو مُسْهر الدمشقي.
هو: الإمام شيخ الشام الفقيه عبد الأعلى بن مُسْهر بن عبد الأعلى بن
مُسْهر، أبو مُسْهر الغساني الدمشقي، ولد سنة أربعين ومائة، وتوفي سنة ثمان عشرة
ومائتين، روى له: الجماعة([84]).
موقفه في المحنة:
قال الخطيب: «أبو مسهر الغساني كان أُشْخِصَ من دمشق إلى عبد الله بن هارون
وهو بالرقة، فسأله عن القرآن؟ فقال: هو كلام الله، وأبى أن يقول: مخلوق، فدعا له
بالسيف والنطع ليضرب عنقه، فلما رأى ذلك قال: مخلوق، فتركه من القتل، وقال: أما
إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف لقبلت منك، ورددتك إلى بلادك وأهلك، ولكنك
تخرج الآن فتقول: قلت ذلك فرقًا من القتل، أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت،
فأشخص من الرقة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة ومائتين، فحبس قبل
إسحاق إبراهيم، فلم يلبث في الحبس إلا يسيرًا حتى مات فيه، في غرة رجب سنة ثمان
عشرة ومائتين، فأخرج ليدفن فشهده قوم كثير من أهل بغداد»([85]).
وقال الذهبي: «قلت: وكان أبو مُسهر ممن امتحنه المأمون وأكرهه على أن يقول:
القرآن مخلوق، فأصر وصمم، فوضعه في النطع ليضرب عنقه، فأجاب وقال: القرآن مخلوق.
فأقيم من النطع فرجع في الحال، فسجنه المأمون نحوًا من مائة يوم، وجاءه الأجل فمات
في سنة ثمان عشرة ومائتين، رحمه الله»([86]).
موقف الإمام منه:
قال في رواية أبي داود: «رحم الله أبا مسهر ما كان أثبته، وجعل يطريه»([87]).
وقال أبو الحسن الميموني: «وذكر يومًا – يعني: أحمد بن حنبل – أبا مسهر
الشامي فقال: كيس، عالم بالشاميين. قلت: وبالنسب؟ قال: نعم، زعموا»([88]).
8- عفان بن مسلم الصفار.
هو: الإمام الحافظ محدث العراق عفان بن مسلم بن عبد الله، أبو عثمان الصفار
البصري، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة، وتوفي سنة عشرين ومائتين، روى له: الجماعة ([89]).
قال ابن حجر: «ثقة ثبت، قال ابن المديني: كان إذا شك في حرف من الحديث
تركه. وربما وهم، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة. ومات بعدها بيسير»([90]).
موقفه في المحنة:
قال حنبل: «حضرت أبا عبد الله وابن معين عند عفان بعدما دعاه إسحاق بن
إبراهيم للمحنة، وكان أول من امتحن من الناس عفان، فسأله يحيى من الغد بعدما
امتحن، وأبو عبد الله حاضر ونحن معه، فقال: أخبرنا بما قال لك إسحاق؟ قال: يا أبا
زكريا لم أسود وجهك ولا وجوه أصحابك، إني لم أجب. فقال له: فكيف كان؟ قال: دعاني
وقرأ علي الكتاب الذي كتب به المأمون من الجزيرة([91])، فإذا فيه: امتحن عفان
وادعه إلى أن يقول: القرآن كذا وكذا، فإن قال ذلك فأقره على أمره، وإن لم يجبك إلى
ما كتبت به إليك فاقطع عنه الذي يجرى عليه – وكان المأمون يجري على عفان كل شهر
خمس مئة درهم – فلما قرأ علي الكتاب قال لي إسحاق: ما تقول؟ فقرأت عليه: }قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{ [الإخلاص: 1] حتى ختمتها، فقلت: أمخلوق هذا؟
فقال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يقول: إنك إن لم تجبه إلى الذي يدعوك إليه يقطع عنك
ما يجري عليك. فقلت: }وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ{ [الذاريات: 22]، فسكت عني وانصرفت، فسر بذلك
أبو عبد الله ويحيى ومن حضر من أصحابنا»([92]).
موقف الإمام منه:
قال أبو بكر المروذي، عن أحمد بن حنبل قال: «إنما رفع الله عفان وأبا نعيم
بالصدق حتى نوّه بذكرهما»([93]).
وقال الإمام أيضًا: «لزمنا عفان عشر سنين، وعفان أثبت من عبد الرحمن بن
مهدي»([94]).
وقال حنبل بن إسحاق: «سألت أبا عبد الله عن عفان؟ فقال: عفان؟ وحبان([95])،
وبهز([96])
هؤلاء المتثبتون، قال: قال عفان: كنت أوقف شعبة على الأخبار. قلت له: فإذا اختلفوا
في الحديث يرجع إلى من منهم؟ قال: إلى قول عفان، هو في نفسي أكبر، وبهز أيضًا، إلا
أن عفان أضبط للأسامي، ثم حبان»([97]).
وقال حنبل أيضًا: «سمعت أبا عبد الله يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما
ويذكرونهما، وكنا نلقي من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم
به كبير أحدٍ، عفان، وأبو نعيم»([98]).
وقال أبو طالب: «سمعت أبا عبد الله قال: كان عفان يسمع بالغداة، ويعرض
بالعشي»([99]).
وقال الحسن بن محمد الزعفراني: «قلت لأحمد بن حنبل: من تابع عفانًا على
حديث كذا وكذا؟ قال: وعفان يحتاج أن يتابعه أحدٌ، أو كما قال»([100]).
وقال مهنا: «سألت أحمد عن عفان وأبي نعيم؟ فقال: ذهبا محمودين»([101]).
9- الفضل بن دكين أبو نعيم.
هو: الحافظ الكبير، شيخ الإسلام، الحجة الثبت الفضل بن دكين بن حماد بن
زهير بن درهم، أبو نعيم التيمي الطلحي القرشي مولاهم، الكوفي الملائي، الأحول، ولد
سنة ثلاثين ومائة، وتوفي سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين، روى له:
الجماعة، من كبار شيوخ أحمد، والبخاري ([102]).
موقفه في المحنة:
قال أحمد بن الحسن الترمذي، عن أبي نعيم قال: «القرآن كلام الله ليس بمخلوق»([103]).
وقال الطبراني: «سمعت طليحة بنت أبي نعيم تقول: سمعت أبي يقول: القرآن كلام
الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق. فهو كافر»([104]).
قال أبو العباس السراج، عن الكديمي قال: «لما دخل أبو نعيم على الوالي
ليمتحنه، وثم يونس وأبو غسان وغيرهما، فأول من امتحن فلان فأجاب، ثم عطف على أبي
نعيم، فقال: قد أجاب هذا، فما تقول؟ فقال: والله ما زلت أتهم جده بالزندقة، ولقد
أخبرني يونس بن بكير أنه سمع جده يقول: لا بأس أن يرمي الجمرة بالقوارير. أدركت
الكوفة وبها أكثر من سبع مئة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله،
وعنقي أهون من زري هذا، فقام إليه أحمد بن يونس، فقبل رأسه – وكان بينهما شحناء –
وقال: جزاك الله من شيخ خيرًا»([105]).
موقف الإمام منه:
سبق شيءٌ في ذلك في ترجمة عفان، ومن ذلك أيضًا:
قال في رواية الميموني: «ثقة، وكان يقظًا عارفًا بالحديث، ثم قام في أمر الفتنة
بما لم يقم غيره، عافاه الله»([106]).
وقال مهنا: «سألت أحمد عن عفان وأبي نعيم؟ فقال: هما العقدة»([107]).
10- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري الفقيه.
هو: الإمام شيخ الإسلام الفقيه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن
ليث، أبو عبد الله المصري، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتوفي سنة ثمان وستين
ومائتين، روى له: النسائي ([108]).
قال الذهبي: «وكان عالم الديار المصرية في عصره مع المزني ...، وقال إمام
الأئمة ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين من
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وقال: كان أعلم من رأيتُ على أديم الأرض بمذهب
مالك وأحفظهم له»([109]).
موقفه في المحنة:
قال أبو إسحاق الشيرازي: «حُمِلَ محمد في محنة القرآن إلى ابن أبي دؤاد،
ولم يجب إلى ما طلب منه، ورد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة بمصر. يعني: في العلم،
وذكر غيره أن ابن عبد الحكم ضُرِبَ، فهرب واختفى»([110]).
موقف الإمام منه:
لم أقف على كلام للإمام رحمه الله فيه.
11- محمد بن نوح العجلي.
هو: محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد بن أبي الرجال العجلي المعروف
والده بالمضروب، توفي سنة ثماني عشرة ومائتين([111]).
قال الخطيب: «كان أحد المشهورين بالسنة، وحدث شيئًا يسيرًا»([112]).
وقال الصفدي: «كان محمد عالمًا، زاهدًا، ورعًا، مشهورًا بالسنة والدين
والثقة، امتحن بالقول بخلق القرآن فثبت على السنة»([113]).
موقفه في المحنة:
قال الخطيب: «وكان المأمون كتب وهو بالرقة إلى إسحاق بن إبراهيم صاحب
الشرطة ببغداد بحمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إليه بسبب المحنة، فأخرجا من بغداد
على بعير متزاملين، ثم إن محمد بن نوح أدركه المرض في طريقه.
قال أبو عبد الله: انظر بما ختم له، فلم يزل ابن نوح كذلك، ومرض حتى صار
إلى بعض الطريق فمات، فصليت عليه ودفنته، أظنه قال: بعانة. قلت: وكانت وفاته في
سنة ثماني عشرة ومائتين»([114]).
موقف الإمام منه:
قال البرقاني: «بلغني أن محمد بن نوح هذا جار أحمد بن حنبل، وأن أحمد بن
حنبل قال لمن سأله عنه: اكتب عنه؛ فإنه ثقة»([115]).
وقال أبو بكر المروذي: «حدثنا محمد بن نوح، وسألت عنه أحمد بن حنبل، فقال:
ثقة»([116]).
وقال حنبل بن إسحاق بن حنبل: «سمعت أبا عبد الله يقول: ما رأيت أحدًا على
حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد
ختم له بخير. قال لي ذات يوم وأنا معه خلوين: يا أبا عبد الله! الله الله إنك لست
مثلي أنت رجل يقتدى بك، وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله
واثبت لأمر الله، أو نحو هذا من الكلام. قال أبو عبد الله: فعجبت من تقويته لي
وموعظته إياي»([117]).
12- محمود بن غيلان العدوي مولاهم المروزي.
هو: الإمام الحافظ الحجة محمود بن غيلان، أبو أحمد العدوي مولاهم المروزي،
توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، روى له: البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن
ماجه ([118]).
موقفه في المحنة، وموقف الإمام منه:
قال محمود: «قلت لأبي عبد الله: ما تقول فيمن أجاب في المحنة؟ فقال: أما
أنا فما أحب أن آخذ عن أحد منهم فقلت له: فإن يحيى بن يحيى قال: من قال: القرآن
مخلوق فهو كافر، لا يكلم، ولا يجالس، ولا يناكح. فقال أحمد: ثبت الله قوله»([119]).
وقال أبو بكر المروذي، عن أحمد بن حنبل: «أعرفه بالحديث، صاحب سنة، قد حبس
بسبب القرآن»([120]).
13- نعيم بن حماد الخزاعي، أبو عبد الله المروزي.
هو: الإمام العلامة الحافظ نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام بن
سلمة بن مالك، أبو عبد الله الخزاعي المروزي، الفرضي الأعور، صاحب التصانيف، روى
له: البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه ([121]).
قال ابن حجر: «صدوق، يخطئ كثيرًا، فقيه، عارف بالفرائض،... مات سنة ثمان
وعشرين على الصحيح، وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه، وقال: باقي حديثه مستقيم»([122]).
موقفه في المحنة:
قال محمد بن سعد: «طلب الحديث طلبًا كثيرًا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر
فلم يزل بها حتى أشخص منها في خلافة أبي إسحاق بن هارون، فسئل عن القرآن، فأبى أن
يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه، فحبس بسامراء، فلم يزل محبوسًا بها حتى مات في
السجن في سنة ثمان وعشرين»([123]).
وقال أبو القاسم البغوي، وإبراهيم بن عرفة نفطويه، وابن عدي: «مات سنة تسع
وعشرين. زاد نفطويه: وكان مقيدًا محبوسًا؛ لا متناعه من القول بخلق القرآن، فجر
بأقياده، فألقي في حفرة، ولم يكفن، ولم يصل عليه، فعل به ذلك صاحب ابن أبي دؤاد،
يعني: المعتصم»([124]).
وقال أبو بكر الطرسوسي: «أخذ نعيم بن حماد في أيام المحنة سنة ثلاث أو أربع
وعشرين ومائتين، وألقوه في السجن، ومات في سنة تسع وعشرين ومائتين، وأوصى أن يدفن
في قيوده، وقال: إني مخاصم»([125]).
موقف الإمام منه:
قال أبو بكر المروذي: «سمعت أبا عبد الله يقول: جاءنا نعيم بن حماد، ونحن
على باب هشيم نتذاكر المقطعات فقال: جمعتم حديث رسول الله r؟ قال: فعنينا بها منذ يومئذ»([126]).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل – وذكر حديثًا لشعبة، عن أبي عصمة – قال أبو
عبد الرحمن: سألت أبي: من أبو عصمة هذا؟ قال: رجل روى عنه شعبة، وليس هو أبو عصمة
صاحب نعيم بن حماد، وكان أبو عصمة صاحب نعيم خراسانيًا، وكان نعيم كاتبًا لأبي
عصمة، وكان أبو عصمة شديد الرد على الجهمية وأهل الأهواء، ومنه تعلم نعيم بن حماد.
قال أبي: وكنا نسميه: نعيمًا الفارض، كان من أعلم الناس بالفرائض ([127]).
وقال يوسف بن عبد الله الخوارزمي: «سألت أحمد بن حنبل عن نعيم بن حماد،
فقال: لقد كان من الثقات»([128]).
14- يوسف بن يحيى القرشي مولاهم البويطي.
هو: الإمام العلامة الفقيه يوسف بن يحيى القرشي مولاهم، أبو يعقوب البويطي
المصري، صاحب الشافعي، توفي ببغداد سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائتين في المحنة،
روى له: الترمذي ([129]).
قال الذهبي: «وكان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا،
متهجدًا، دائم الذكر والعكوف على الفقه، بلغنا أن الشافعي قال: ليس في أصحابي أحدٌ
أعلم من البويطي»([130]).
وقال ابن حجر: «ثقة فقيه، من أهل السنة»([131]).
موقفه في المحنة:
قال الربيع بن سليمان: «كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت
أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، ولقد رأيته على بغل في عنقه غل، وفي
رجليه قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما
خلق الله الخلق بـ:«كن»، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت
عليه لأصدقنه – يعني: الواثق – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد
مات في هذا الشأن قوم في حديدهم»([132]).
وقال أبو سعيد بن يونس: «كان من أصحاب الشافعي، وكان متقشفًا، حمل من مصر
أيام المحنة والفتنة بالقرآن إلى العراق، فأرادوه على الفتنة فامتنع، فسجن ببغداد
وقيد، وأقام مسجونًا إلى أن توفي في السجن والقيد ببغداد سنة اثنتين وثلاثين»([133]).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: «قال الساجي في كتابه: كان أبو يعقوب البويطي إذا
سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب السجن،
فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول: أجيب داعي الله، فيقول: ارجع عافاك الله، فيقول
أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني»([134]).
موقف الإمام منه:
لم أقف على كلام للإمام فيه، رحمهما الله تعالى.
([1]) ينظر في خبر المحنة: سيرة الإمام
أحمد لابنه صالح ص(48-65، 83-95)، وذكر محنة الإمام أحمد لابن عمه حنبل بن إسحاق،
وحلية الأولياء لأبي نعيم (9/196)، ومحنة الإمام أحمد للمقدسي، ومنازل الأئمة
الأربعة ص(253)، ومناقب الإمام أحمد ص(385-462)، والسير (11/232)، وتاريخ الإسلام
(18/97)، والبداية والنهاية (14/393)، والجوهر المحصل ص(62)، والمنهج الأحمد
(1/100).
([4]) هو: أحمد بن أبي دؤاد بن جرير
أبو عبد الله الإيادي القاضي، قال الخطيب في تاريخ بغداد (4/141): «كان موصوفًا
بالجود والسخاء، وحسن الخلق، ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل
السلطان على الامتحان بخلق القرآن»، وقال الذهبي في العبر (1/431): «كان فصيحًا
مفوهًا، شاعرًا، جوادًا، ممدحًا، رأسًا في التجهم، وهو الذي شغب على الإمام أحمد
بن حنبل، وأفتى بقتله، وقد مرض بالفالج قبل موته بنحو أربع سنين، ونكب وصودر» وقال
في ميزان الاعتدال (1/97): «جهمي بغيض»، توفي سنة 240هـ.
([41]) ممن تكلم في هذا فما أنصف تصورًا
وتصويرًا، وتفسيرًا وحكمًا، وزعم أن المسألة ليست من أصول الدين، وإنما هي من فضول
العلم المقبلي في العلم الشامخ ص(370)، والشوكاني في الإرشاد (1/95-96)، وعبد
الفتاح أبو غدة في رسالته «مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب
الجرح والتعديل»، وقد ردَّ عليه وفنَّد ما في رسالته الشيخ العلامة حمود بن عبد
الله التويجري في رسالته «تنبيه الإخوان على الأخطاء في مسألة خلق القرآن».
([44]) ينظر في ذلك: خلق أفعال العباد
للبخاري (2/115-116)، وسيرة الإمام لابنه صالح ص(67)، وذكر المحنة لحنبل بن إسحاق
ص(69-70)، والسنة لابنه عبد الله (1/102-105)، والسنة لأبي بكر الخلال (6/9-12،
29-36) (7/61-62)، والشريعة للآجري (!/505-506)، والإبانة لابن بطة (5/157)، وشرح
السنة للالكائي (2/263)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص(201-203)، وهداية
الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن لابن عبد الهادي بن المبرد ص(77-86، 185، 229،
234-235)، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (1/223-224).
([45]) تركت الكلام في مسألة اللفظ،
وبيان حكم اللفظية؛ لأن حكمها العام مدرك من أصل المسألة؛ ولأن فيها من الاشتباه
والاحتمال لمن أطلقها ما جعلها من أشكل مسائل الباب، وفيها تفاصيل عقدية ليس هذا
مقام تحريرها، ولكن ينظر تحرير رأي الإمام فيها في كتاب: المسائل والرسائل المروية
عن الإمام أحمد في العقيدة (1/232-252).
([55]) السنة لأبي بكر الخلال (5/143)،
وينظر للفائدة: الشريعة للآجري (1/209)، والإبانة لابن بطة (5/128 – 141،
160-176)، وشرح السنة للالكائي (2/323-329)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي
ص(205-208)، وهداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن لابن عبد الهادي بن المبرد
ص(93-102)، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (1/252-257).
([61]) ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير
(1/364)، والجرح والتعديل (2/180)، والكامل (1/323)، وترتيب المدارك (1/369)،
وتهذيب الكمال (3/124-129)، وتذكرة الحفاظ (1/409)، والسير (10/391)، وتاريخ
الإسلام (حوادث ووفيات 221-230هـ)، والميزان (1/222)، والوافي بالوفيات (9/149)،
وتهذيب التهذيب (1/310)، والتقريب (464).
([67]) هو: أبو بكر الأصم محمد بن أبي
الليث بن شداد الإيادي الخوارزمي الجهمي قاضي مصر، ولي قضائها سنة ست وعشرين، ولم
تحمد سيرته، فكان ظلومًا غشومًا، امتحن العلماء بخلق القرآن، وقد عزل وحبس وعذب،
وطيف به على حمار سنة خمس وثلاثين، توفي ببغداد سنة خمسين ومائتين. ينظر: تاريخ
الإسلام (حوادث ووفيات (241-250هـ)، ورفع الإصر (1/180)، والنجوم الزاهرة
(1/228-245)، وحسن المحاضرة (261).
([84]) ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير
(6/73)، والجرح والتعديل (6/29)، والثقات (8/408)، وتاريخ بغداد (11/72)، ومناقب
الإمام أحمد ص(486)، وتهذيب الكمال (16/369)، وتذكرة الحفاظ (1/381)، والعبر
(1/374)، والسير (10/228)، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات سنة 231-240هـ)، وتهذيب
التهذيب (6/98)، والتقريب (3762).
([89]) ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير
(7/72)، والجرح والتعديل (7/30)، والثقات (8/522)، وتاريخ بغداد (12/269)، ومناقب
الإمام أحمد ص(479)، وتهذيب الكمال (20/160)، وتذكرة الحفاظ (1/397)، والسير
(10/242)، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات سنة 211-220هـ)، والميزان (3/81)، وتهذيب
التهذيب (7/230)، والتقريب (4659).
([102]) ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير
(7/118)، والجرح والتعديل (7/61)، والثقات (7/319)، وتاريخ بغداد (12/346)، ومناقب
الإمام أحمد ص(281-282)، وتهذيب الكمال (23/197)، والتذكرة (1/372)، والسير
(10/142)، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات سنة 211-220هـ)، والعبر (1/377)، وميزان
الاعتدال (3/350)، وتهذيب التهذيب (8/270)، والتقريب (5436).
([118]) ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير
(7/404)، والجرح والتعديل (8/291)، والثقات (9/202)، وطبقات الحنابلة (2/420)،
وتاريخ بغداد (13/89)، وتهذيب الكمال (27/305)، وتذكرة الحفاظ (2/475)، والسير
(12/223)، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 231-240هـ)، والعبر (1/431)، والميزان
(3/611)، وتهذيب التهذيب (10/64)، والتقريب (6559).