ملخص البحث
هذه الدراسة بعنوان "حقيقة المثل الأعلى"، ومقصودها شرح معنى
المثل الأعلى، وبيان مدلولاته العقديَّة، وذلك من خلال النقاط الآتية:
أ- لفظ (المثل) يستعمل لغة بمعنى النظير، والمثل المضروب، والصفة، والمراد به
اصطلاحا: التفرد بالكمال المطلق الذي يستحيل معه وجود المثل، وهو المعنى الذي تدور
حوله عبارات السلف في تفسير المثل الأعلى.
ب- التفرد بالمثل الأعلى يقتضي ضرورة إمكان وجود الصفة،
ويدل على التفرد بالكمال المطلق وتنزيه الرب عن جميع صفات النقص النسبية والمطلقة،
والصفات السلبية المحضة.
ج- تنزيه الرب عن المثل والكفء داخل في حقيقة المثل الأعلى،
لأن التفرد بصفات الكمال المطلق يستحيل معها وجود المثل، ولهذا فسره ابن عباس
بالتنزيه عن المثل في رواية، وفسره بالصفة العليا في رواية أخرى.
د- تفرد الرب بالمثل الأعلى من أعظم الأدلة على صحة مذهب
السلف وبطلان مذهب المعطلة والممثلة، إذ اجتمع في مدلوله التنزيه والإثبات، وهو ما
آمن به أهل السنة والجماعة، وضل عنه مخالفوهم. فآمن المعطلة بالتنزيه دون الإثبات،
وآمن الممثلة بالإثبات دون التنزيه.
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد تمدح الرب - تبارك وتعالى - بتفرده بالمثل الأعلى في السماوات والأرض،
وجعله أساسا لما يجب له من الإثبات والتنزيه، قال تعالى: }لِلَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى{ [النحل:
60]، وقال: }وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ
مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ ......{ الآيتان
[الروم: 27 - 28]، والمثل الأعلى ينتظم جميع معاني الكمال المطلق التي يستحيل معها
الاتصاف بالنقص أو وجود المثل، ويستلزم إفراد الرب وحده بجميع العبادات الظاهرة
والباطنة، ولهذا فسره علماء السلف بالصفة العليا، أو بانتفاء المثل، وفسروه أيضا
بكلمة التوحيد، أو بما يدل عليها من البراهين، أو بما تدل عليه من الإخلاص ومعاني
الإيمان!.
وللتفرد بالمثل الأعلى أهمية بالغة في معرفة الرب وعبادته، فهو الأساس في
معرفة ما ينفى عن الرب ويجب له من الصفات، وهو البرهان الجامع لصور الأدلة على
استحقاق الله وحده للعبادة!.
وقد انحرف بعض المتأثرين بالمناهج الكلامية عن هذه الحقيقة، واستشكلوا ما
أثر عن السلف في تفسير المثل الأعلى، وخرَّجوا عباراتهم على ما يوافق مذهب الخلف
في التعطيل، واعتبار وحدانية الأفعال مناط النجاة! وتبعا لذلك فقد أعرضوا عن مناط
التنزيه الذي جاءت به النصوص، وجعلوا القاعدة في ذلك دليل الأجسام فكانت العاقبة
تناقض التطبيق، ومخالفة العقل والنقل جزاء فساد التأصيل ومخالفة الوحي. ومن هنا
تبرز أهمية تحرير معنى المثل الأعلى وفق المأثور عن علماء السلف ووفق قواعدهم
المعروفة، ومن ثم بيان مدلولاته وآثاره في الإثبات والتنزيه وفق المنهج السلفي
المحكم في أصله وفرعه، لأنه مستمد من القرآن المنزه عن الاختلاف، كما قال الله
تعالى: }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا{ [النساء: 82].
وهذه الدراسة عبارة عن خطوة في سبيل تحقيق هذه الغاية، أردت منها بيان
مضامين عبارات السلف في معنى المثل الأعلى، وبخاصة في جانب التنزيه، لكثرة تلبيس
المتكلمين في هذا الجانب حتى راجت أباطيلهم على كثير من المسلمين تحت شعار التنزيه
عن النقص والمثل!.
وقد راعيت فيها قواعد البحث العلمي المتعارف عليها في مجال الدراسات
الإسلامية، فوثقت القضايا العلمية من مصادرها الأصلية، وأوضحت ما تدعو حاجة البحث
إلى إيضاحه، وعرضت قضاياه بأسلوب واضح ومحدد قدر المستطاع إلى غير ذلك مما هو
معروف لدى الباحثين.
وقد جاءت الدراسة في مبحثين وخاتمة:
* المبحث الأول: في معنى المثل الأعلى، ويشتمل على أمرين:
أحدهما: في بيان معنى المثل لغة واستعمالاته.
والثاني: في ذكر أقوال علماء السلف في بيان المراد بالمثل الأعلى، وكيفية
الجمع بينها، والرد على من حاول الخروج بعباراتهم عن أصول عقيدتهم.
* المبحث الثاني: في بيان مدلولات المثل الأعلى، ويشتمل على الأمور
التالية:
الأول: في دوران الكمال مع الإمكان.
الثاني: في دلالة المثل الأعلى على الكمال المطلق.
الثالث: في دلالته على التنزيه عن النقص النسبي.
الرابع: في دلالته على التنزيه عن السلب المحض.
الخامس: في دلالته على التنزيه عن النقائص المطلقة.
السادس: في دلالته على التنزيه عن المثل.
* أما الخاتمة فإجمال لأهم نتائج الدراسة.
* * * * *
المبحث الأول
معنى المثل الأعلى
معنى المثل لغة:
المَثَل، والِمثْل،
يستعمل حقيقة في ثلاثة معان:
الأول:
الشبيه والنظير، يقال: هذا مثل هذا، أي نظيره، قال تعالى: }وَقَالَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ{ [البقرة: 118]. أي أن قول مشركي العرب نظير
وشبيه قول من قبلهم من اليهود والنصارى في العتو والمكابرة ([1]).
الثاني: المثل
المضروب، وهو القول السائر الممثل مضربه بمورده غالبا، أي أن ما ضرب فيه ثانيا جعل
مثلا لما ورد فيه أولا ([2]).
الثالث: الصفة، كقوله
تعالى: }مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ{ [الرعد:
35]، أي صفة الجنة التي وعد المتقون، وقوله: }ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ{ [الفتح:
29]، أي صفتهم في التوراة والإنجيل ([3]).
وقد رأى الزمخشري ومن وافقه أن لفظ المثل استعمل في هذه المعاني تدريجيا،
ووفق مراحل زمنية محددة، فكان أولا بمعنى الشبيه، ثم أطلق على المثل المضروب، ثم
استعير لكل صفة فيها غرابة المثل من غير اعتبار تشبيه، ولهذا اعتبروا المعنى الأول
أصل اللفظ لغة، والثاني معناه في عرف اللغة، والثالث معناه في مجاز اللغة ([4]).
وهذا الرأي مبني على وجود مواضعة متقدمة على استعمال اللفظ، وهو أمر يعسر
إثباته، ويستلزم أن تكون اللغات اصطلاحية، والحق أنها إلهامية، بمعنى أن الله
تعالى ألهم الإنسان أن يعبر عما يتصوره ويريده من غير مواضعة متقدمة ([5]).
المراد بالمثل الأعلى:
اختلف العلماء في تفسير المثل الأعلى على أربعة أقوال:
الأول: أن المثل
الأعلى بمعنى الصفة العليا، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكثير من أئمة
التفسير ([6]). والمراد بالصفة الجنس فتعم جميع صفات الكمال ([7]). والتفرد بصفات الكمال يستلزم بطلان التمثيل، ولهذا قال ابن القيم:
"المثل الأعلى .... هو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني
الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره، ولما كان الرب
تعالى هو الأعلى، ووجهه الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته
عليا كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في
المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ
فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو
نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه" ([8]).
الثاني: أن المثل
الأعلى بمعنى: شهادة أن لا إله إلا الله، أو التوحيد، أو الإخلاص والتوحيد أو ما
يكون في قلوب أولياء الله من معاني الإيمان، أو ما ضربه الله للتوحيد والشرك من
الأمثال، وتؤثر هذه الأقوال ونحوها عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ومجاهد
ومحمد بن المنكدر وغيرهم ([9])، ويجمعها تفسير المثل الأعلى بكلمة التوحيد، أو بما دلت عليه من معاني
الإيمان، أو بما يدل على التوحيد من الأمثال، ومؤداها شيء واحد، لأن مقصود المثل
الدعوة للتوحيد، والتوحيد على قواعد أهل السنة والجماعة قول وعمل، لا يقبل أحدهما
دون الآخر.
وقد رأى القرطبي ومن وافقه أن المراد من تفسير المثل الأعلى بالشهادة الوصف
بالوحدانية، أي وحدانية الذات والصفات ([10]). وهذا غير مسلم، لأن الشهادة إنما تدل مطابقة على إفراد الرب بالعبادة،
لأن الإله بمعنى المعبود، كما نص على ذلك علماء السلف وعلماء اللغة ([11]). والظاهر أن تفسير المثل الأعلى بكلمة التوحيد، أو بمعناها وما يدل عليها
من باب تفسير اللفظ بمقتضاه، لأن التفرد بالكمال المطلق يستلزم إفراد الموصوف به
بجميع أنواع العبادة، وعلى ذلك يكون مرادهم أنه المعبود في السماوات والأرض، لما
تفرد به من الكمال المطلق الذي يستحيل معه المثل، والله أعلم.
الثالث: أن المثل
الأعلى بمعنى النزاهة عن المثل إما مطلقا، كما يؤثر عن ابن عباس ([12])، أو مقيدا بصفة الولد، كما ذهب إليه ابن الجوزي ومن وافقه ([13])، اعتمادا على سباق المثل الأعلى في قوله تعالى: }وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى
مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ
يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [النحل: 57 - 60].
ونفي المثل محقق لإثبات الكمال المطلق، كما أن إثبات الكمال المطلق محقق
لنفي المثل، ولذلك أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير المثل الأعلى بالصفة
العليا، كما تقدم في القول الأول وأثر عنه أيضا تفسيره بانتفاء المثل كما في هذا
القول، وذلك لأن نفي المثل وما في معناه، كالكفء والند، إذا ورد في سياق المدح
والثناء دل على التفرد بصفات الكمال المطلق. يقول الإمام الدرامي ـ رحمه الله ـ :
"قولنا: ليس كمثله شيء، أنه أعظم الأشياء، وخالق الأشياء، وأحسن الأشياء، نور
السماوات والأرض. وقول الجهمية: ليس كمثله شيء يعنون: أنه لا شيء" ([14]). وفي هذه القاعدة رد على من فسر المثل الأعلى بالنزاهة عن صفات المخلوقين
من المعتزلة والأشاعرة ومن وافقهم ([15])، لأن مرادهم نفي الصفات كليا أو جزئيا، لأن إثباتها في نظرهم يستلزم
التمثيل الممنوع ([16]).
الرابع: أن المثل
الأعلى بمعنى الصفة العليا وما تستلزمه من معاني الإيمان قولا وعملا. يقول ابن
القيم رحمه الله: "المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها،
ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة
القائمة بقلوب عابديه وذاكريه" ([17]).
وهذا القول يعم جميع الأقوال المتقدمة في تفسير المثل الأعلى، ولا محذور في
ذلك، لأن اختلاف عبارات السلف في هذا المقام اختلاف تنوع، فمن نظر منهم لحقيقة
المثل الأعلى فسره بالصفة العليا التي يستحيل معها وجود المثل، أو بانتفاء المثل
المستلزم للتفرد بصفات الكمال المطلق، ومن نظر لأثر المثل الأعلى ومقتضاه فسره
بالتوحيد، وما يكون في قلوب المؤمنين من حقائق الإيمان ومعاني التوحيد.
* * * * *
المبحث الثاني
مدلولات المثل
الأعلى
توطئة
ثبوت المثل الأعلى لله وحده يقتضي بالضرورة إمكان وجود الصفة، ويدل على
ثبوت الكمال المطلق، والتنزيه عن ثلاثة أنواع من الصفات:
الأول: صفات النقص
النسبي، كالصاحبة والولد، وذلك لدلالتها على ما يضاد الكمال، من الحدوث والعدم
والافتقار، وعلى وجود النظير المساوي في الكمال.
الثاني: الصفات
السلبية المحضة، لأنها لا تدل على كمال ولا تستلزمه، إذ الكمال منوط بالمعاني
الوجودية.
الثالث: صفات النقص
المطلق، لأن ثبوت الكمال يستلزم انتفاء ضده وكل ما يستلزم ضده.
وكذلك فإن ثبوت المثل الأعلى يدل على انتفاء المثل والكفء والند، لأن
التفرد بمعاني الكمال المطلق يستحيل معه وجود المثل، كما أن نفي المثل ونظائره إذا
ورد في سياق المدح اقتضى التفرد بكثرة أوصاف الكمال.
* * * * *
أولا: إمكان وجود الصفة:
ثبوت الصفة العليا يقتضي ضرورة إمكان وجودها، لأن الكمال دائر مع الإمكان
وجودا وعدما، فالصفة المضافة للرب لابد أن تكون ممكنة الوجود لكي تكون كمالا، وإذا
دلت على صفات متعدية فلابد أن يكون متعلقها ومقتضاها ممكن الوجود، لأن الممتنع
لذاته لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء، فلا يجوز أن
يفترض أن فعله من الكمال، وذلك كافتراض أن يخلق البارئ مثل نفسه، أو يجعل الواحد
بالعين متحركا ساكنا في لحظة واحدة. وبناء على ذلك فإن وجود الصفات الاختيارية على
سبيل التعاقب لا ينافي كونها من الكمال كما توهمت الأشاعرة، لأنه إنما يمكن وجودها
على هذه الصفة، لاستحالة مقارنتها للرب في الأزل! ([18]).
* * * * *
ثانيا: ثبوت الكمال المطلق:
ثبوت المثل الأعلى يعني ثبوت الكمال المطلق لله تعالى، وهو عبارة عن جميع
صفات الكمال الوجودية المحضة التي لا تستلزم نقصا ولا تشعر به بوجه من الوجوه.
وثبوت هذه الصفات لله تعالى هو مقتضى الفطرة والعقل والنقل:
فالفطرة مجبولة على الإقرار بوجود الله وتوحيده، واعتقاد أنه أكمل الأشياء،
لما تفرد به من صفات الكمال المطلق، وهي فطرة عامة يجدها كل إنسان في قرارة نفسه،
ولا يتخلف مقتضاها إلا لمانع، كفساد التربية، واجتيال الشياطين، واتباع الهوى،
ومكابرة الحق ([19]).
وكذلك العقل فإنه يقتضي الإيمان بوجود الله وتوحيده والإقرار بصفات كماله
من وجوه متعددة، وطرق متنوعة بحسب متعلقاتها، وما يتعلق منها بالدلالة على صفات
الكمال أربعة أدلة:
1-
دليل الأفعال: فإن أفعال
الله تعالى آيات بينات على صفات كماله، فالخلق يدل على العلم والقدرة والحكمة
والحياة، وإتقان المخلوقات يدل كذلك على علم الرب وحكمته ووضع الأشياء في مواضعها
اللائقة، والإحسان إلى العباد يدل على صفة الرحمة، وإكرام الطائعين يدل على صفة
المحبة، وهكذا. وقد نبه الله لهذا الدليل بقوله: }أَلَا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ [الملك:
14]. يقول عبد الرحمن السعدي: "كثيرا ما يقرن بين خلقه وإثبات علمه.... لأن
خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته" ([20]).
2-
دليل الترجيح والتفضيل: فإن صفات
الكمال ثابتة لكثير من المخلوقات فيكون ثبوتها للخالق من باب أولى، لأنه أفضل من
خلقه مطلقا، قال تعالى: }أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ{ [النحل:
17]، وقال: }اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{ [العلق: 3]،
أي أنه أفضل وأحق من غيره في الكرم الجامع للمحاسن والمحامد، وهي صفات الكمال، فهو
الأحق بالإحسان والرحمة والحكمة والعلم والحياة وسائر أوصاف الكمال المطلق ([21]).
3-
الاستدلال بالأثر على المؤثر، فإن الله تعالى هو الخالق لذوات المخلوقات
وصفاتها وأفعالها، وكل ما فيها من صفات الكمال دليل على صفات الخالق من باب أولى،
فقوة المخلوق دليل على أن الله أقوى وأشد، وعلم المخلوق ورحمته وسائر صفات كماله
دليل على أن الله أعلم وأحكم وأكمل، لأن من فعل الكامل فهو أحق بالكمال، قال
تعالى: }وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً{ [فصلت: 15]،
فما في المخلوقات من قوة وشدة يدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم وحياة
يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة([22]).
4-
الاستدلال بانتفاء الوصف على ثبوت نقيضه: فلو لم يتصف الرب بصفات الكمال للزم اتصافه بأضدادها، لأن القابل للضدين
لا يخلو من أحدهما، وكل ما يضاد الكمال فهو نقص يناقض الألوهية، ولهذا أبطل الله
الشرك بوجود صفات النقص فيما يعبد من دونه ([23]). قال تعالى عن الخليل: }يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا{ [مريم: 42]، وقال: }وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا
جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلًا{ [الأعراف: 148].
وأما دلاله النقل على صفات الكمال فمن ثلاثة أوجه:
1- ذكر
الاسم المشتمل على الصفة: فإن كل واحد من الأسماء الحسنى يدل على صفة أو أكثر
من صفات الكمال، وذلك لأن الأسماء الحسنى باعتبار ما تدل عليه من الصفات نوعان:
أ- ما يدل على صفة معنوية أو فعلية واحدة، كالعليم والقدير والسميع والخالق
والرازق والباعث. وقد يدل هذا النوع على أكثر من صفة بدليل الالتزام، أو حال
الاقتران، فاسم الخالق يدل على الخلق مطابقة، وعلى العلم والقدرة التزاما، لأن
الخلق لا يكون إلا بالعلم بأسباب الخلق والقدرة عليها. واسم الحي يدل على جميع
صفات الكمال التزاما، لأن الحياة الكاملة لا تكون إلا باجتماعها، وأسماء التنزيه
كذلك تستلزم ثبوت جميع أوصاف الكمال، لأن التنزيه لا يكون كمالا إلا إذا دل على
معاني ثبوته، فالسلام مثلا يدل مطابقة على تنزيه الرب من كل نقص وعيب ويستلزم ثبوت
جميع أوصاف الكمال، وهكذا اسم القدوس.
وكذلك حال الاقتران، فإن اجتماع العزيز والحكيم يدل على الكمال الخاص بكل
اسم منهما، ويدل على كمال آخر، وهو أن عزة الله لا يقارنها ظلم، وحكمته لا يقارنها
ذل كما يكون في المخلوقات غالبا.
ب- ما يدل على عدة صفات ولا يختص بصفة معينة، كالمجيد والعظيم فإن كل واحد
منهما يعني الاتصاف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك اسم القيوم فإنه يدل على
كثير من صفات الكمال، لأنه يدل على قيام الرب بنفسه، وإقامته لغيره وقيامه عليه،
وذلك يتضمن وجوب الوجود وكمال الغنى وتمام القدرة ومعاني الخلق والتدبير!.
ومن هذا النوع ما يدل على جميع صفات الكمال، كاسم الله، واسم الصمد، فإن
لفظ الجلالة يدل على الذات الجامعة لصفات الإلهية كافة، واسم الصمد يدل على جميع
صفات الكمال أيضا، لأن معناه السيد الذي كملت جميع صفات كماله، ولهذا يصمد إليه في
جميع المطالب، ويقصد في جميع الحوائج ([24]).
2- التصريح بأعيان الصفات ومصادر الأسماء: كقوله تعالى: }أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ{ [النساء: 166]، وقوله: }إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{ [الذاريات:
58]، وقوله: }وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ{ [الكهف:
58]، وقوله: }إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي{ [الأعراف:
144]، وقوله: }قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{ [ص: 82].
3- التصريح بفعل أو وصف دال على الصفة: ويدخل في ذلك ذكر الحكم
المترتب على الصفة، كقوله تعالى: }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{ [طه: 5]،
وقوله: }إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ{ [السجدة:
22]، وقوله: }عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ{ [البقرة: 187]، وهو باب واسع ينتظم ما لا يكاد يحصى من الصفات ([25]).
والغريب أن ابن حزم ـ رغم عنايته بالنقل وظاهريته المشهورة ـ لم ير في كل
ما ذكر من الأدلة حجة على إثبات الصفات، ولهذا أنكرها، وزعم أنها بدعة كلامية لم
ترد في نصوص الشرع أو كلام السلف، وادعى أن ما ورد من الأسماء الحسنى مجرد أعلام
جامدة، وليست مشتقة من أوصاف الرب وأفعاله القائمة به، وأنكر تغاير الصفات
ومغايرتها للذات، وانتهى به الأمر إلى موافقة المعتزلة في التعطيل وإن خالفهم في
مدركه، لأنهم أنكروا الصفات فرارا من التعدد على أصل أوائلهم، أو من التركيب على
أصل أبي الهذيل العلاف ومن وافقه ([26]).
وهذا القول من أخطاء ابن حزم المشهورة، وهو باطل من وجوه كثيرة، منها:
1- أن النصوص صرحت بالصفات لفظا ومعنى فتكون دعوى الابتداع مجازفة ومخالفة
ظاهرة، قال تعالى: }وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى{ [النحل:
60]، أي الصفة العليا، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من أئمة
التفسير ([27]). وروى الإمام البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي r
بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ }قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ{ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي r
فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن»([28]). يقول ابن حجر: "فيه حجة لمن أثبت أن لله صفة، وهو قول الجمهور، وقد
طعن فيه ابن حزم بأنه من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، وكلامه مردود، لأن
سعيدا متفق على الاحتجاج به" ([29]).
وقد صرحت نصوص كثيرة بأعيان الصفات، كقوله تعالى: }أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ{ [النساء: 166]، وقوله: }ذُو
الْقُوَّةِ{ [الذاريات: 58]، وقوله: }وَرَبُّكَ
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ{ [الكهف: 58]، وهو دليل قاطع على ثبوت الصفات، وتغايرها، ومغايرتها
للذات!.
2- أن أسماء الرب أعلام وأوصاف لا مجرد أعلام كما زعم ابن حزم، بدليل قوله
تعالى: }وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى{ [الأعراف:
180]، ولا يصح كونها حسنى إلا إذا دلت على أكمل الصفات، واستغرقت جميع الصفة التي
اشتقت منها. وفي مقابل رأى ابن حزم رأى ابن حجر وغيره أن المراد بأسماء الرب
صفاته، لأن الاسم يراد به بلغة العرب الصفة، ولهذا يقال: طار اسمه في البلاد، أي
صيته ووصفه! ([30]).
وهذا ليس بمسلم أيضا، لأن أسماء الرب أعلام وأوصاف لا مجرد أعلام كما قال
ابن حزم، ولا مجرد أوصاف كما رأى ابن حجر ومن وافقه.
وقد صرحت النصوص بمصادر كثير من الأسماء، كالعلم والقوة والرحمة، قال
تعالى: }أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ{ [النساء: 166]، وقال: }ذُو الْقُوَّةِ{ [الذاريات: 58]، وقال: }ذُو
الرَّحْمَةِ{ [الكهف: 58]، وفي ذلك دلالة على أن أسماء الرب مشتقة من صفاته ـ
بمعنى أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من
أصله، بحيث يسوغ إثبات ما لم يرد من الأسماء اشتقاقا من صفات الرب وأفعاله ـ
فالعليم مشتق من العلم، والقوي من القوة، والرحيم من الرحمة، ولولا ثبوت مصادر ما
ورد من الأسماء الحسنى لانتفت حقيقتها، بل لانتفت حقيقة الذات، لأنه لا يمكن في
الوجود الخارجي وجود ذات بلا صفات، إذ قيام الصفات بالذات مقتضى الذاتية لا يختلف
شاهدا ولا غائبا! ([31]).
وقد اعتبر علماء السلف إنكار حقائق الأسماء الحسنى ومعانيها من أعظم أنواع
الإلحاد فيها، ورأوا فيه مخالفة ظاهرة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، إذ لو كانت
أعلاما جامدة لكفى أحدها في الدلالة على الذات، واعتبر سائرها لغوًا لا فائدة منه،
ولما شرع في التوسل مراعاة الأسماء المناسبة للأدعية، ولجاز أن يسمى الله بما اتفق
من الأسماء حتى لو تضمن نقصا! ([32]).
* * * * *
ثالثا: التنـزيه عن النقص النسبي:
ثبوت المثل الأعلى والكمال المطلق يعني تنزيه الرب عن جميع صفات النقص
النسبي، وهي ما كانت نقصا في الخالق كمالا في المخلوق، كالأكل والشرب والصاحبة
والولد وأدوات ذلك كله، وذلك لأن هذه الصفات وإن كانت كمالا في حق المخلوق إلا
أنها نقص في الخالق، لدلالتها على الحدوث والعدم والافتقار وعلى وجود النظير
المشارك في الكمالات والحقوق، وكل هذه المعاني تنافي ما تفرد به الرب في السماوات
والأرض من المثل الأعلى والكمال المطلق المنزه عن جميع النقائص وعن وجود الأمثال
والنظراء ([33]).
وقد نزه الله نفسه عن صفات النقص النسبي بأعيانها في نصوص كثيرة، كقوله
تعالى: }وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ{ [الأنعام:
14]، وهي قراءة سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش، أي لا يأكل، لأنه لا يحتاج إلى ما
يحتاجه المخلوق من الغذاء ([34])، وقوله: }اللَّهُ الصَّمَدُ{ [الإخلاص: 2]، وهو الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب ([35])، وقوله: }مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ{ [المائدة:
75]، فأبطل دعوى ألوهيته بصفة الأكل، لأن الإله الحق منزه عن الأكل والشرب وآلاته
وأسبابه ([36])، وقوله: }بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ{ [الأنعام:
101]، وقوله: }وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا
وَلَدًا{ [الجن: 3]، فنزه نفسه عن الصاحبة والولد، لأنهما ينافيان مثله
الأعلى (كماله المطلق)، ويدلان على وجود النظير، إذ الفرع يماثل أصله، ولا يكون
إلا بين أصلين متماثلين ([37]).
وقد كان أكثر ضلال الأمم في صفة الولد، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت
النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله، وأمهاتهن سروات
الجن، وقال بها من قبل: الهنادك والبوذيون وغيرهم من يطول المقام بذكرهم ([38]). ولهذا كثر في النصوص تنزيه الله عن صفة الولد، والرد على من افتراها بطرق
متعددة، منها:
1- التشنيع بأهل هذه الفرية، وتقبيح مقالتهم، ووعيدهم بأعظم العقوبات، قال
تعالى: }وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا
إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا{ [مريم: 88 -
91]، وقال: }وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ
بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا{ [الكهف: 4 ،
5]، وقال: }قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا
ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا
كَانُوا يَكْفُرُونَ{ [يونس: 68 - 70]، فأوعد من كذب عليه بدعوى الولد بعدم الفلاح في
الدارين، وذلك باستدراجهم في الدنيا، وتقليل مدة متاعهم فيها، حتى يضطرهم إلى أعظم
العقوبات في الآخرة ([39]).
2- تكذيب مقالتهم، لأنها دعوى بلا برهان، وقول على الله بلا علم، اعتقدوها
مضاهاة لمن سبقهم من كفرة الهنادك وغيرهم. قال تعالى: }وَيُنْذِرَ
الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا
لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِبًا{ [الكهف: 4 ، 5]، وقال: }أَلَا
إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ{ [الصافات: 151 ، 152]، وقال: }وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ{ [التوبة: 30
، 31]، أي أن وصفهم لله بالولد قول مجرد عن الحجة قالوه تقليدا لفعل الهنادك
بكرشنا، والبوذيين ببوذا، وذلك بتزيين رؤسائهم الذين أطاعوهم فيما ينافي الإخلاص
الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم([40]).
3- بيان ما ترتب على فريتهم من مشاركة الرب في خالص حقه على عباده، وذلك
بعبادة الأولاد المزعومين من دون الله، قال تعالى: }لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ
الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ
مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ{ [المائدة:
72]، وقال: }وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ
بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ{ [الأنعام:
100]، أي أنهم عبدوا الملائكة من دون الله بناء على أنهم بنات الله وأمهاتهن سروات
الجن، وأطلق على الملائكة اسم الجن لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين. يقول ابن كثير:
"ذكر الله عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب: فأولا جعلوهم
بنات الله، فجعلوا لله ولدا تعالى وتقدس، وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون
الله تعالى وتقدس، وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم" ([41]).
4- نفي الولد والحكم باستحالته، قال تعالى: }وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا{ [الإسراء:
111]، وقال: }مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ{ [مريم: 35]،
وقال: }وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا{ [مريم: 92].
وبراهين الاستحالة مبنية على منافاة الولد لما تفرد به الرب من المثل
الأعلى، وهي على ثلاثة أنواع:
أ- ما بني على منافاة المثل الأعلى عموما، أي بما يشمل الكمال المطلق
والنزاهة عن المثل، قال تعالى: }وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا
يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ
أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [النحل: 57
- 60]، فالتفرد بالمثل الأعلى يقتضي نزاهة الرب عن النقائص والنظراء، بما في ذلك
الأولاد عامة، والأنثى خاصة، وهي التي تناقض المفترون في أمرها، فنزهوا عنها
أنفسهم الجديرة بكل نقص، وأضافوها إلى ربهم المستحق لكل كمال!.
ب- ما بني على منافاة الكمال خاصة، قال تعالى: }قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{ [الإخلاص: 1
- 3]، وقال: }إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ{ [النساء: 171]، وقال: }لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ{ [الزمر: 4]،
وقال: }قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ{ [يونس: 68]،
وقال ـ حكاية عن الجن ـ : }وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا
وَلَدًا{ [الجن: 3]، أي تعالت عظمته، فبني التنزيه عن الولد على منافاته
لكمالات الرب التي تجمعها صمديته وعظمته، كالوحدانية والغنى والقهر، إذ الولد يبطل
الوحدانية، وينافي الغنى لدلالته على القصور والاحتياج، ويبطل عموم القهر لما في
العالم العلوي والسفلي، لأن الولد سيكون إلها قاهرا لا مقهورا! ([42]).
ج- ما بني على منافاة النزاهة عن المثل، قال تعالى: }وَقَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ [البقرة:
116 - 117]، وقال: }وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ{ [الأنبياء: 26]، وقال: }بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [الأنعام:
101]، فبني التنزيه عن الولد على استحالة أن يكون لرب العالم وخالقه مماثل من
عباده المخلوقين المملوكين المحتاجين، لأن الولد يماثل أصله، ولا يكون إلا بين
أصلين متماثلين، ولهذا أبطل أهل العلم بهذه النصوص حتى نظرية الفيض عند الفلاسفة.
يقول ابن تيمية: "هؤلاء الآيات تضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب، وما
يقوله أهل الكتاب، وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم، الذين يقولون بتولد العقول
والنفوس عنه، فقد بَيَّن سبحانه أنه مبدع السماوات والأرض، والإبداع خلق الشيء على
غير مثال، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما. والإبداع خلق الشيء
بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق به، وعدم وجود شريك له، والتولد لا يكون
إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته، ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه، قال
تعالى: }أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ{ [الأنعام:
101]، فبَيَّن بطلان كون الولد له من غير صاحبة، لأن التولد لا يكون إلا من أصلين،
وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء، بل قد خلق الله من كل شيء زوجين، وهو
سبحانه الفرد الذي لا زوج له" ([43]).
* * * * *
رابعا: التنـزيه عن السلب المحض:
ثبوت المثل الأعلى أو الكمال المطلق يعني اتصاف الرب بالصفات الوجودية دون
الصفات السلبية المحضة، لأنها عدم محض، والعدم ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا،
ولأنها تكون صفة لما لا كمال فيه، كالمعدوم والممتنع، ولهذا كانت صفات الكمال
الثابتة بنصوص القرآن والسنة تدل صراحة أو تضمنا على معان وجودية سواء كانت صفات
ثبوتية أو سلبية ([44]).
فالصفات الوجودية تعم كل ما دل صراحة على ثبوت كمال وجودي، فيدخل في ذلك
الصفات الذاتية، كالوجه واليدين، والصفات الاختيارية سواء كانت فعلا أو قولا أو
حالا أو إدراكا، كالاستواء والنداء والرضا والبصر ([45]). قال تعالى: }وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ [الرحمن:
27]، وقال: }مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ{ [ص: 75]،
وقال: }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{ [طه: 5]،
وقال: }وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ{ [مريم: 52]،
وقال: }رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ{ [المائدة:
119]، وقال: }إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى{ [طه: 46].
والصفات السلبية تعم كل ما دل صراحة على نفي نقص متصل أو منفصل، ودل تضمنا
على ثبوت كمال وجودي، كقوله تعالى: }لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ{ [البقرة: 255]،
فصرح بانتفاء السنة والنوم، وذلك يتضمن إثبات كمال الحياة والقيام، وقوله: }لَا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ{ [سبأ: 3]، فنفى العزوب لكمال العلم، وقوله: }وَمَا
مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ{ [ق: 38]، نفي التعب لكمال القدرة ونهاية القوة، وقوله: }لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ{ [الأنعام: 103]، نفى الإدراك ـ أي الإحاطة ـ لكمال العظمة، بحيث
لا يحاط به إذا رئي، وقوله: }وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا{ [الكهف:
49]، نفى الظلم لاتصافه بكمال العدل، وقوله: }وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا{ [فاطر: 44]، نفى العجز لما ذَيَّل به الآية من كمال العلم
والقدرة.
وكذلك النقائص المنفصلة فإن نفيها دليل على كمالات وجودية، كقوله تعالى: }وَمَا
لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ{ [سبأ: 22]،
وقوله: }أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ{ [الأنعام:
101]، نفى الشريك والظهير والولد والصاحبة لكمال غناه وقهره وملكه، وكقوله: }وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص: 4]، وقوله: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى:
11]، نفى الكفء والمثل لتفرده بصفات الكمال المطلق ([46]).
أما الصفات السلبية المحضة التي درج المتكلمون على ذكرها مفصلة في كتبهم
الكلامية ([47]) فإنها لا تدل على الكمال أصلا, فضلا أن تحقق ما يفيده المثل الأعلى من
الكمال المطلق، ولهذا قال القاضي علي بن علي بن أبي العز الحنفي: "النفي
المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال
ولا كساح ولا حجام ولا حائك لأدَّبك على هذا الوصف وإن كنت صادقا، وإنما تكون
مادحا إذا أجملت في النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم، وأشرف،
وأجل، فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب" ([48]).
ثم إن الاعتماد في التنزيه على تفصيل الصفات السلبية المحضة يتضمن مع ذلك
ثلاثة أمور باطلة:
1- مخالفة القرآن الكريم في إثباته ونفيه، فإن القرآن الكريم فصل في إثبات
صفات الكمال وأجمل في النفي غالبا، وذلك بخلاف هذه الطريقة التي عمادها تفصيل
النفي وإجمال الإثبات. يقول ابن تيمية رحمه الله: "الله تعالى بعث رسله
بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح
له من التشبيه والتمثيل..... وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين
والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة
والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه
التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى
وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان" ([49]).
2- أن طريقتهم في التنزيه مشتملة على ألفاظ مجملة ظاهرها التنزيه ومقصودها
التعطيل، فنفي الأعراض أو التعدد أو التكثر يقصد به نفي الصفات، ونفي الأبعاض
مقصوده نفي الصفات الذاتية، كاليد والوجه والأصبع، ونفي حلول الحوادث أو التجدد أو
التغير، يعني نفي الصفات الاختيارية، كالكلام والنزول، ونفي الأغراض، يعني نفي
الحكم والغايات المحمودة في خلق الله وأمره، ونفي الجهة أو الحد أو التحدد، يعني
نفي العلو والاستواء على العرش...... وهكذا معظم ألفاظهم ظاهرها يوهم التنزيه عن
النقائص والعيوب والحاجة وباطنها يعني تعطيل ما ورد في النصوص من صفات الكمال،
ولهذا توقف أهل السنة في هذه الألفاظ إثباتا ونفيا، وكشفوا ما في معانيها من إجمال
يشمل الحق المقبول والباطل المردود، فالجهة مثلا وقفوا في لفظها إثباتا ونفيا،
وقالوا في معناها: إن كان المراد بها شيء من المخلوقات فإن الله منزه عن هذا المعنى،
لأن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وإن كان المراد بها ما فوق العالم فلا ريب
أن الله عال على خلقه مستو على عرشه ([50]).
3- أن طريقتهم في التنزيه تؤول إلى إنكار حقيقة الرب، واعتبار وجوده إما
أمرا ذهنيا، أو وجودا حالا أو متحدا بالمخلوقات. يقول ابن تيمية رحمه الله:
"مخالفو الرسل يصفونه بالأمور السلبية، ليس كذا، ليس كذا، فإذا قيل لهم:
فأثبتوه، قالوا: هو وجود مطلق، أو ذات بلا صفات، وقد علم بصريح المعقول أن المطلق
بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، وأن المطلق لا بشرط لا يوجد
في الخارج مطلقا، لا يوجد إلا معينا، ولا يكون للرب عندهم حقيقة مغايرة للمخلوقات
بل إما أن يعطلوه، أو يجعلوه وجود المخلوقات، أو جزءها، أو وصفها" ([51]).
* * * * *
خامسا: التنزيه عن النقائص المطلقة:
ثبوت المثل الأعلى أو الكمال المطلق لله ـ تعالى ـ يدل سمعًا على تنزيهه عن
جميع صفات النقص المطلق ـ وهي ما كانت نقصًا في حق الخالق والمخلوق ـ ، لأن إثبات
الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده. يقول ابن تيمية رحمه الله: "السمع قد أثبت
له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما
ينفي عنه المثل والكفء، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده. والعقل يعرف
نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر وما يستلزمه" ([52]).
وعلى هذا الأصل المحكم بنى علماء السلف تنزيه الرب عن النقائص المطلقة التي
لم يصرح السمع بنفيها عن الله تعالى بأعيانها، كتلك التي افتراها اليهود ـ لعنهم
الله ـ من وصف الرب بالحزن والندم، والبكاء والمرض، والكذب والغفلة والجهل!! وغير
ذلك مما تطفح به أسفارهم المحرَّفة وخاصة أسفار التلمود! ([53])، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أما المتكلمون فقد بنوا تنزيه الرب عن هذه النقائص على نفي الجسم، فقالوا:
لو اتصف الرب بها لكان جسما، والجسم على الله محال، لتماثل الأجسام فيما يجب ويجوز
ويمتنع، ولأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة، وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث،
ولأن الجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر لغيره، ولأن الجسم محدود متناه لابد له
من مخصص يخصه ببعض الأشكال، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلها! ([54]).
وهذا الأصل لا يصلح اعتباره مناطا للتنزيه لعدة أسباب، منها:
1- أنه دليل مبتدع: فلم يرد نفي الجسم في الكتاب ولا السنة، لا في
سياق الرد على اليهود، ولا على غيرهم من الكفار، ولم ينطق أحد من علماء السلف بلفظ
الجسم لا نفيا ولا إثباتا، ولهذا لا يجوز اعتباره مناطا لما ينزه عنه الرب من
الصفات ([55]).
2- أنه مخالف للفطرة: فقد فطر الله عباده على العلم بأن طرق المطالب
الإلهية الكلية يقينية وغير مركبة، وعلى أن طريقة الاستدلال في الأمور الحسية
والعقلية إنما تكون بالأجلى على الأخفى، لأن الدليل معرف للمدلول ومبين له. ودليل
المتكلمين في التنزيه مخالف لهذه الفطرة العامة، لأن انتفاء الحزن والبكاء والمرض
وسائر النقائص أظهر من انتفاء الجسم، لكثرة ما يتوقف عليه نفي الجسم من مقدمات،
وكثرة ما تشتمل عليه مقدماته من شكوك تعتاص على المهرة بعلم الكلام فضلا عن عامة
الخلق! ([56]).
3- أنه مخالف للعقل: لأن كل من نفى صفة فرارا من التجسيم فلابد أن
يلزمه التجسيم فيما يثبته حتى تكون الغاية صفة الوجود، فإن طرد دليله قاده إلى
التعطيل الأكبر المعلوم بطلانه بضرورة العقل، وإن نقض دليله تناقض، ولزمه التفريق
بين المتماثلات، فمخالفة العقل لازمة له على كلا التقديرين، تقدير الطرد أو النقض!
([57]).
4- أنه مخالف للغة: فالجسم عند المتكلمين بمعنى المركب من الجواهر
الفريدة، وهي في نظرهم متماثلة في صفات نفس الجوهر، وهي التحيز وقبول الأعراض
والقيام بالنفس، ولهذا قالوا بتماثل الأجسام!.
والتعبير عن هذا المعنى بلفظ الجسم بدعة لغوية، لأن الجسم في اللغة بمعنى
البدن. وليس هذا مجرد وضع اصطلاحي لا تنبغي المشاحة فيه، وذلك لأنه مشتمل على
إيهام وتلبيس، فإذا نُفِيَ الجسم انصرف ذهن السامع لما ينزه الله عنه من الاتصاف
بالبدن فيسلم بعموم النفي، فإذا سلم ألزموه نفي صفات الكمال، لأنها أعراض لو قامت
بالرب لكان جسما، والأجسام متماثلة! ([58]).
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان ما اشتمل عليه أصل
التجسيم من دعاوى باطلة، كإثبات الجوهر الفريد، والزعم بأن الأجسام مركبة منها،
ودعوى تماثل الأجسام في الصفات النفسية، وأوضح أنها جميعا دعاوى باطلة يخالفهم
فيها وفيما بنوه عليها جمهور العقلاء ([59]).
وليس المقصود هنا استيفاء الكلام في نقد أصل المتكلمين في التنزيه، وإنما
المقصود بيان أن أصلهم لم يحقق تنزيه الرب عن تلك النقائص التي افتراها اليهود
وغيرهم، لا بل إنه أفضى بهم إلى نفي صفات الكمال الواردة في القرآن والسنة
الثابتة، واعتبارها نقائص يجب أن ينزه الله عنها، لأن الرب لو اتصف بها لكان جسما،
والجسم على الله محال، لما يدل عليه الجسم من الحدوث والافتقار والتشبيه!.
وهذا من أعظم الأدلة على فساد أصلهم في التنزيه، لأنه ينافي ما دل السمع
والعقل على ثبوته، ولأنه أدى بأهله إلى النظر إلى أهل الحق وأهل الباطل بنظرة
واحدة، والحكم عليهم بمقتضى أصل واحد، فصفات النقص التي افتراها اليهود، وصفات
الحق التي أثبتها أهل السنة والجماعة كلها غير مقبولة عندهم، لما تؤدي إليه من
التجسيم!!([60]).
* * * * *
سادسا: التنزيه عن المثل:
ثبوت المثل الأعلى يدل على تنزيه الرب ـ تبارك وتعالى ـ عن وجود المثل،
ولهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: ليس كمثله شيء ([61]). وقد تضافرت النصوص في الدلالة على بطلان التمثيل وإنكاره وتحريمه قولا
وعملا، قال تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى:
11]، وقال: }وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص:
4]، وقال: }فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ{ [النحل:
74]، وقال: }فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ [البقرة:
22]، وقال: }هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا{ [مريم: 65]،
أي مثلا وشبيها، كما أثر عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج
وغيرهم ([62]).
وكذلك العقل فإنه يدل على بطلان التمثيل واستحالته لأن الخالق والمخلوق لو
تماثلا للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، فيكون كل منهما واجبا ممكنا، قديما
محدثا، غنيا فقيرا، وهو محال عقلا، لما يتضمنه من جمع بين النقيضين ([63]).
والتنزيه عن المثل محقق لصفات الكمال مستلزم لثبوتها على أكمل وجه، لأن نفي
المثل إذا ورد في سياق المدح والثناء اقتضى التفرد بكثرة أوصاف الكمال، يقال: فلان
عديم المثل، أو لا مثل له، إذا كان له من صفات الكمال ما لم يشاركه غيره، فما ورد
في النصوص من مدح الرب والثناء عليه بنفي المثل أو الكفء أو الند أو السمي فإنه
دليل على كثرة صفات كماله، ونعوت جلاله، حتى تفرد بالكمال المطلق الذي يستحيل معه
وجود المثل!. ولهذا أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير المثل الأعلى بنفي
المثل، وتفسيره بالصفة العليا ([64])، لأن النفي محقق لإثبات الكمال كما ذكر آنفا، وكذلك الإثبات فإنه محقق
لنفي المثل ومستلزم له، إذ ثبوت الصفة العليا يستحيل معه وجود المثل، لأنهما إن
تماثلا لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتماثلا فالصفة العليا لأحدهما وحده،
ولهذا ورد في النصوص الجمع بين نفي المثل وإثبات الكمال في موضع واحد، إذ كل واحد
منهما مستلزم للآخر ومحقق له، قال تعالى: }لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ [الشورى:
11]، وقال: }قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ{ [الإخلاص: 1
، 2]، فاسم الأحد يتضمن نفي المثل، واسم الصمد يتضمن إثبات جميع صفات الكمال. وهذا
مدرك أهل السنة والجماعة في باب الصفات، فإنهم يثبتون صفات الكمال المطلق على وجه
الاختصاص بما للرب من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات فيما هو من خصائصه
وكمالاته التي تفرد بها في السماوات والأرض، فكل صفة من صفات الكمال فإن الله
متفرد بها من كل وجه أو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد، وهذا من أعظم ما يدخل
في حقيقة التوحيد، وهو ألا يشركه شيء فيما هو من خصائصه ([65]).
وما تفرد به الرب من صفات الكمال نوعان:
1- صفات مختصة بالرب من كل وجه: كالخلق والعظمة والكبرياء، فمن ادعى
هذا النوع، أو اعتقد أن غيره من الخلق مستحق له كان ممثلا مستحقا لوعيد المفترين.
روى الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال
رسول الله r : «قال الله تعالى: العز
إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئًا عذبته»([66])، وروى الإمام البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين
يضاهئون بخلق الله»([67]).
2- صفات يوصف بها العبد في الجملة ويختص الرب بكمالها: كالحياة والعلم
والسمع والبصر، قال تعالى: }اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ{ [البقرة:
255]، وقال: }أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ{ [النساء: 166]، وقال: }إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا{ [النساء:
58]، وقال في حق المخلوق: }وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ{ [آل عمران:
27]، وقال: }وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ{ [يوسف: 76]،
وقال: }إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا{ [الإنسان: 2]، فمن ادعى ما اختص به الرب من هذا النوع، أو اعتقده
في غيره من الخلق، أو أثبته للرب على نحو يماثل ما عليه الخلق كان ممثلا ضالا،
مخالفا لما يستحقه الرب من التنزيه. ويدخل في هذه الجملة مقالات المشبهة التي
مضمونها تشبيه الخالق بالمخلوق أو العكس، إما مطلقا أو من بعض الوجوه، كقول هشام
بن الحكم الرافضي، وهشام بن سالم الجواليقي، وداود الجواربي ومن وافقهم من أوائل
الشيعة وغيرهم بأن الله تعالى على صورة الإنسان في ذاته وصفاته، وكقول السبئية ومن
وافقهم بالبداء، لأن البداء من خصائص علم المخلوق، وكقول غلاة الشيعة من الخطابية
وغيرهم بألوهية الأئمة أو علي خاصة، وككثير من مقالات الرافضة والصوفية التي تتضمن
وصف أئمتهم وأوليائهم بصفات لا تليق إلا بالله وحده، كالعلم المحيط والقدرة
التامة، والغنى المطلق ([68]).
وكذلك فإن من أنكر شيئا مما اختص به الرب من صفات الكمال ظنا أن إثبات
القدر المشترك بين الخالق والمخلوق يستلزم التمثيل فإنه ضال معطل لما يستحقه الرب
من الكمال، ويدخل في هذه الجملة مقالات النفاة من الباطنية والجهمية محضة ومعتزلة
وأشعرية وماتريدية ([69]).
وأصل الضلال في هذا الباب مشترك بين الممثلة والمعطلة، فقد اعتقدوا أن ظاهر
نصوص الصفات التي تطلق على الرب والعبد إنما يدل على ما يليق بالمخلوق ويختص به،
ومن ثم أبقاه الممثلة على ما توهموه، واعتقدوا التشبيه دينا لهم، وفي المقابل أوجب
المعطلة تأويل الظاهر أو تفويضه، لاستحالة الأخذ بظاهر النص، لأنه إنما يدل ـ في
نظرهم ـ على التمثيل الباطل بنصوص التنزيه! ([70]).
والغريب أن هذا الأصل مبني على قول الجهم بن صفوان في الأسماء التي تقال
على الرب والعبد، فقد زعم أنها مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق، فنقله هؤلاء بوعي
أو بغير وعي لباب الصفات فزعموا أنها حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق، ولهذا لم
يظهر لهم من دلالاتها إلا ما يتعلق بالمخلوق ويختص به! ([71]).
وهذا من أفسد الأصول وأخطرها، لأنه يعني صحة نفي أسماء الله وصفاته، إذ
خاصة المجاز صحة نفيه!، ويستلزم أيضا أن يكون في العبد أكمل وأتم منها في الرب، إذ
إطلاقها على الرب مجرد تمثيل لما هو حقيقة في العبد!.
والصواب أن الألفاظ التي تطلق على الرب والعبد حقيقة فيهما، واختلاف
الحقيقتين لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما، لأنها من الألفاظ المتواطئة أو
المشككة، وهي موضوعة للقدر المشترك، والخصائص لا تدخل في مسماها عند الإطلاق
والتجريد عن الإضافة، فإذا أضيفت لأحدهما دخلت الخصائص، وكان ظاهر ما أضيف للرب
إنما يدل على ما يليق ويختص به، وظاهر ما أضيف للمخلوق إنما يدل على ما يليق ويختص
به! ([72]).
وقد ترتب على ما اعتقده الممثلة والمعطلة من أن ظاهر نصوص الصفات التمثيل
ثلاثة محاذير:
1- الجناية على نصوص الصفات: وسوء الظن بكلام الله ورسوله، واعتقاد
أن القرآن والحديث كله تشبيه وتمثيل، ومن ثم أبقاه الممثلة على ما توهموه، ونشأت
الحاجة للتأويل أو تفويض المعاني عند المعطلة. يقول إبراهيم اللقاني:
وكل
نص أوهم التشبيها
|
||||
فأوله
أو فوض ورم تنزيها ([73])
|
||||
2- تعطيل نصوص الإثبات: عما دلت عليه
من الصفات اللائقة بجلال الله، وذلك بصرف دلالتها إلى ما يماثل صفات المخلوق، أو
نفيها توهما أنها معارضة بنصوص التنزيه عن المثل!.
3- تعطيل الخالق
عما يستحقه من صفات الكمال: ووصفه بدلا عنها بصفات المخلوقات عند الممثلة، أو
بالصفات السلبية المحضة عند المعطلة، حتى آل أمر المعطلة إلى الوقوع في أعظم مما
فروا منه، وذلك بتمثيل الرب بالمنقوصات أو المعدومات. يقول الإمام البخاري:
"قال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم
والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق" ([74]).
وفي إبطال أساس التعطيل والتمثيل، وتصور محاذيره دلالة واضحة على بطلان
المقالتين معا، وكذلك فإن فيما تمدح به الرب من المثل الأعلى دلالة برهانية على
بطلان مقالتي التمثيل والتعطيل، إذ حقيقته وصف الرب بما لا مثل له من صفات الكمال.
ولدلالة المثل الأعلى نظائر كثيرة تماثله أو تمثل بعض جوانبه، منها:
1- قوله تعالى: }قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ{ [الإخلاص: 1
، 2]، فإن اسم الأحد يتضمن نفي المثل، وهو رد على الممثلة، واسم الصمد يتضمن إثبات
صفات الكمال، وهو رد على المعطلة ([75]).
2- قوله تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ [الشورى:
11]، فإن أولها رد على الممثلة وآخرها رد على المعطلة، ولهذا قال الشوكاني رحمه
الله: "من فهم هذه الآية حق فهمها، وتدبرها حق تدبرها مشى عند اختلاف
المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله: وهو
السميع البصير، فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمماثل قد اشتمل على برد اليقين،
وشفاء الصدور، وانثلاج القلوب، فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة، والبرهان
القوي، فإنك تحطم بها كثيرا من البدع، وتهشم بها رؤوسا من الضلالة، وترغم بها أنوف
طوائف من المتكلمين" ([76]).
3- قوله تعالى: }وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص:
4]، وقوله: }فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا{ [البقرة:
22]، وقوله: }هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا{ [مريم: 65]،
فإن نفي الكفء والند والسمي وما في معناها يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال المطلق
على وجه التفرد، وفي هذا رد لمقالة التعطيل والتمثيل. يقول ابن القيم: "نفي
الكفء والسمي والمثل عنه كمال، لأنه يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال له على أكمل
الوجوه، واستحالة وجود مشارك له فيها" ([77]).
والنصوص الدالة على بطلان مقالة التعطيل بخصوصها أكثر، فكل ما صرحت به
النصوص من أعيان الصفات، أو أحكامها، أو الأسماء والأفعال الدالة عليها فإنها أدلة
برهانية على بطلان مقالة التعطيل ـ تقدم ذكرها ضمن أدلة الكمال ـ !، وذلك لأن مرض
التعطيل أعظم فكانت العناية بالرد على أهله أكثر، ولهذا بعثت الرسل بإثبات صفات
الكمال على وجه التفصيل، ونفي مماثلة المخلوقات على سبيل الإجمال ([78]).
ومما يدل على تغلظ مقالات المعطلة ثلاثة أوجه:
1- أن النصوص المخالفة لأقوال النفاة مستفيضة وإنما يردونها بتأويلات
المريسي وابن فورك والرازي وما يجري مجراها.
2- أن حقيقة مقالاتهم تؤول إلى تعطيل الخالق وجحده بالكلية، حتى قيل:
المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما، ولهذا أطلق السلف عليهم لقب المعطلة، لأن
مقالاتهم تستلزم تعطيل الذات!.
3- أن مقالاتهم تخالف ما اتفقت عليه الملل والفطر السليمة، وإنما تخفى
وتروج مقالاتهم لكثرة ما يوردونه من الشبهات ([79])، حتى رأينا رجلا كالمقريزي يستعرض مقالاتهم، ثم يقف أمام نصوص الصفات،
وإجماع السلف على روايتها، وإثباتها بلا تمثيل، ثم لا يرى فائدة لذلك كله إلا
تمكين إثبات مطلق الوجود، والرد على طوائف الملاحدة من أهل الطبائع، وعباد العلل! ([80]).
* * * * *
الخاتمة
أحمد الله في الختام كما حمدته في البدء فهو أهل للحمد في كل موطن، وبعد:
فقد انتهيت من دراستي لحقيقة المثل الأعلى إلى جملة من النتائج، منها:
1- لفظ (المثل) يستعمل لغة بمعنى النظير، والمثل المضروب، والصفة،
واستعماله في هذه المعاني الثلاثة حقيقي، ولا يصح ادعاء أنه حقيقة في معنى النظير
مجاز في الباقي، لأن هذه الدعوى مبنية على وجود مواضعة متقدمة، وعلى أن اللغات
اصطلاحية، وكلاهما أمران غير مُسَلَّمَيْن.
2- وردت عن السلف الصالح عبارات متعددة في تفسير المثل الأعلى، فمن نظر
لحقيقة المثل الأعلى فسره بالصفة العليا، أو بالنزاهة عن المثل، وهما معنيان
متكاملان ومترابطان، لأن الصفات العليا يستحيل معها وجود المثل وإلا لم تكن عليا،
وانتفاء المثل يعني التفرد بأعلى صفات الكمال، ومن نظر لآثار المثل الأعلى فسره
بتوحيد العبادة قولا وعملا، أو ببعض أدلته ومعانيه، وذلك لأن التفرد بصفات الكمال
يستلزم إفراد الموصوف بها بجميع أنواع العبادة.
3- دقة كلمات السلف، وعمق مضامينها، وضرورة فهمها وفق أصولهم ومداركهم،
والحذر مما يسلكه بعض العلماء من تخريج عباراتهم على ما يوافق مذهب الخلف، كما فعل
بعض المفسرين بما نقل عنهم من تفسير المثل الأعلى بالشهادة بأن مرادهم الوصف
بوحدانية الذات والصفات، أي توحيد الربوبية، وكما حمل آخرون تفسيرهم للمثل الأعلى
بنفي المثل على نفي الصفات! وهذا ونظائره خروج بعباراتهم عن أصولهم وقواعدهم
المعروفة، ومن هنا تبرز ضرورة تأمل عباراتهم حتى يصل الباحث لمرادهم الحقيقي، وحتى
يتمكن من فهم حقيقة اختلاف عباراتهم في كل مسألة: هل هو خلاف حقيقي، أو مجرد
اختلاف في المدارك والعبارات وتفسير للفظ ببعض أفراد معناه؟.
4- ثبوت المثل الأعلى لله وحده يقتضي بالضرورة إمكان وجود الصفة، وإمكان
متعلقها إذا دلت على صفة متعدية، لأن الكمال لا يكون إلا بالحقائق الممكنة، ولهذا
لا يجوز أن يفترض أن فعل الممتنع لذاته من الكمال، كما لا يجوز إخراج الصفات
الاختيارية من نطاق الكمال، لأن وجودها الممكن إنما يكون على سبيل التعاقب!.
5- ثبوت المثل الأعلى يعني تفرد الرب بالكمال المطلق، وهو اسم جامع لصفات
الكمال الوجودية المحضة التي لا تستلزم نقصا، ولا تشعر به بوجه من الوجوه، وهذا
المعنى يتضمن تنزيه الرب عن ثلاثة أنواع من الصفات:
أ- صفات النقص النسبي: وهي ما كانت كمالا في المخلوق دون الخالق،
وذلك لدلالتها على الحدوث والعدم والافتقار، وعلى وجود نظير يشارك الرب فيما تفرد
به من الكمال، وما يجب له وحده من الحقوق. وهذا يبطل مسلك الضلال من اليهود
والنصارى ومشركي العرب وغيرهم الذين وصفوا الرب بهذا النوع من الصفات، كالصاحبة
والولد!.
ب- الصفات السلبية المحضة: لأن الكمال إنما يتحقق بصفات وجودية،
ولهذا كانت الصفات الثابتة بنصوص القرآن والسنة تدل صراحة أو تضمنا على معان
وجودية. وهذا يبطل مسلك المتكلمين الذين وصفوا الرب بصفات سلبية محضة مفصلة، فضلوا
عن تحقيق الكمال، وأساءوا الأدب مع الله، وخالفوا القرآن في إثباته ونفيه، وضمنوا
ما ذكروه من صفات سلبية تعطيل كثير مما ورد من صفات الإثبات حتى ألزموا تعطيل
الذات أو القول بالحلول!.
ج- صفات النقص المطلق: لأن إثبات الكمال يستلزم نقلا وعقلا انتفاء
ضده وكل ما يستلزم ضده، وعلى هذا الأصل المحكم بنى علماء السلف تنزيه الرب عن
النقائص التي لم ينفها السمع بأعيانها، كالحزن والندم والبكاء والمرض. وقد بنى
المتكلمون التنزيه عن هذه الصفات على نفي الجسم، وهو دليل مبتدع لم يرد اعتباره
مناطا للتنزيه، وهو كذلك مخالف للغة والعقل والطرق الفطرية في الاستدلال، ولهذا لم
يحقق التنزيه وإنما أفضى بأهله إلى نفي صفات الكمال، واعتبارها نقائص تستلزم
التجسيم!.
6- التنزيه عن المثل والكفء داخل في حقيقة المثل الأعلى كما نص على ذلك ابن
عباس رضي الله عنهما، وذلك لأنه محقق لصفات الكمال ومستلزم لثبوتها على أكمل وجه،
لأن نفي المثل والكفء إذا ورد في سياق المدح اقتضى التفرد بكثرة أوصاف الكمال.
ولهذا أثبت أهل السنة والجماعة صفات الكمال المطلق على وجه الاختصاص، فكل صفة من
صفات الكمال فإن الله متصف بها على وجه لا يماثله فيها أحد سواء كان مما اختص به
من كل وجه، كالخلق، أو كان مما اختص بكماله، كالعلم. وقد خالفهم في هذا الأصل
طائفتان مشهورتان:
الأولى: الممثلة: فقد أثبتوا
الصفات على وجه المماثلة بين الخالق والمخلوق إما مطلقا أو من بعض الوجوه!.
الثانية: المعطلة: فقد نفوا صفات
الكمال أو كثيرا منها ظنا أن إثبات القدر المشترك يستلزم التمثيل!.
وأصل الخطأ مشترك بين الطائفتين، فقد اعتقدوا أن ظاهر نصوص الصفات إنما يدل
على ما يختص بالمخلوق، ولهذا أبقاه الممثلة على ما توهموه، وأوجب المعطلة تأويله
أو تفويضه فرارا مما تخيلوه من التمثيل!.
والصواب أن هذه الألفاظ موضوعة للقدر المشترك، والخصائص لا تدخل في مسماها
عند الإطلاق، فإذا أضيفت لأحدهما دخلت الخصائص، وكان لكل منهما ما يختص به. والله
أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * * *