أقوال المنصفين في أعظم إنسان عرفته البشرية
لايمكن لأحدٍ طالع بعضًا من الشمائل الكريمة للرسول r ،وعرف بعض أخلاقه العظيمة ،وخصاله الشريفة؛ ثم لايظهر إعجابه
وانبهاره بشخصيتهr ،فلا عجب إذن أن نجد مثل
هذا الثناء العطر وتلك الشهادات المنصفة من كثير من هؤلاء ممن لم يعتنقوا الإسلام
،والتي سطَّرها التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتراثهم؛لتكون دليلاً دامغاً وحجة
بالغة على عظم أخلاقه وشمائله r.
يدين له من لم يدن لخليقةٍ
|
ويقضي له بالفضل غاوٍ وراشد
|
ولقد
اعترف بذلك المنصفون من غير المسلمين:
v
فاعترف
بذلك المستشرقون؛ ومن هؤلاء:
Ø المستشرق الأمريكي (واشنجتون إيرفنج)([1])؛ حيث يقول: «كان محمد r خاتم النبيين، وأعظم الرسل الذين بعثهم الله تعالى؛ ليدعوا الناس
إلى عبادة الله»([2]).
Ø ويقول المستشرق الإسباني (جان ليك)([3]) في كتاب (العرب): «لا يمكن أن توصف حياة
محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ،كان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة
وشوق»([4]).
Ø وتقول المستشرقة الإيطالية (لورافيشيا فاغليري)([5]):
«كان محمد المتمسك دائمًا بالمبادئ الإلهية شديد التسامح، وبخاصة نحو أتباع
الأديان الموحدة، لقد عرف كيف يتذرع بالصبر مع الوثنيين، مصطنعًا الأناة
دائمًا...» ([6]).
Ø ويقول المستشرق الفرنسي (جوستاف لوبون)([7]): «كان محمد [r] يقابل ضروب الأذى
والتعذيب بالصبر وسعة الصدر... فعامل محمد [r] قريشًا -الذين ظلوا أعداءً له عشرين سنة- بلطف وحِلم»([8]).
v
كما
اعترف بذلك الفلاسفة؛ ومن هؤلاء:
Ø الفيلسوف الإنجليزي (جورج برناردشو)([9])؛ حيث يقول: «قرأت حياة رسول الإسلام جيدًا، مرات ومرات، فلم أجد
فيها إلا الخُلُق كما ينبغي أن يكون،
وكم ذا تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم» ([10]).
Ø
ويقول
الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل([11]): «لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير العظيم النفس المملوء رحمة
وخيرًا وحنانًا وبرًا وحكمة وحجىً ونُهىً، أفكار الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب
السلطة والجاه» ([12]).
v
كما
اعترف بذلك المؤرخون؛ ومن هؤلاء:
Ø المؤرخ الإنجليزي (وليام موير) ([13])؛
فيقول في كتابه (حياة محمد): «لقد امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه، ويسر دينه،
وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس، وأحيى
الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير، كما فعل نبيُّ الإسلام محمد»([14]).
Ø ويقول أيضًا، وهو يصف حياة النبيِّ r
وخلقه، قائلاً: «كانت السهولة صورة
من حياته كلِّها، وكان الذوقُ والأدبُ من أظهر صفاته في معاملته
لأقلِّ تابعيه؛ فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجود، صفت متلازمة لشخصه،
وجالبةٌ لمحبَّة جميع من حوله، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقلِّ الناس شأنًا، ولا
هديةً مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحدٌ عنده أنه لا يختصُّه
بإقبالٍ وإن كان حقيرًا.
وكان إذا لقي من يفرح بنجاحٍ أصابه أمسك يده وشاركه سروره، وكان مع
المصاب والحزين شريكًا شديد العطف، حسن المواساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قوته
مع النَّاس، وهو دائم الانشغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم»([15]).
v
كما
اعترف بذلك الشعراء؛ وأرباب اللغة؛ ومن هؤلاء:
Ø الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين)([16])؛
حيث يقول: «أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية،
وأدركت ما فيها من عظمة وخلود» ([17]).
Ø ويقول الشاعر الألماني (جوته)([18]): «بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا
الإنسان فوجدته في النبي
العربي محمد r» ([19]).
Ø ويقول (مونتيه)([20]) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف، في كتابه (محمد والقرآن): «كان
محمد r كريم الأخلاق حسن
العشرة، عذب الحديث، صحيح الحكم، صادق اللفظ، وقد كانت الصفات الغالبة عليه هي صحة
الحكم، وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يعمله ويقوله»([21]).
هذه مقتطفات من مواقف وأقوال مستشرقين وفلاسفة،
ومؤرخين، وشعراء؛ أوروبيين وغربيين في حق المصطفى محمد r النبي الخاتم، أردنا منها إثبات أن أبناء الحضارة الغربية يقرُّون
بنبوَّة محمد r وصفاته الحميدة وفضله
المتصل إلى يوم القيامة على البشرية في جميع أقطاره المعمورة.
ذلك أن التعصب الأوروبي
النصراني؛ على الرغم من كونه خطًا صاعدًا باستمرار، إلا أنه وجد هناك منصفون،
أكَّدوا الحقيقة بلا لف أو دوران.
ولكن الثقافة الغربية
السائدة، والمتشبعة بقيم التعصب والعناد والتمركز حول
الذات، سعت إلى حجب هذه
الحقائق، وإخفاء هذه الأصوات؛ حتى لا يتمكن الشخص الأوروبي العادي، من الاطلاع على
ما أثبته أبناء جلدته، من الكبار في حق الإسلام ونبيه ورسالته العالمية الخالدة، وذلك كله بهدف تحقيق غرضين:
Ø الأول: إبعاد الأوروبيين النصارى عن الإسلام؛ الذي دلل على قدرته على التغلغل في النفوس وملامسة صوت الفطرة في
الإنسان؛ فهو يخيف الغرب المتوجس من تراجع عدد معتنقي النصرانية في العالم برغم ما
ينفقه من الأموال ولوقت لتنصير الشعوب.
يقول المنصِّر المعروف
لورانس براون: «وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام وفي قدرته على
التوسع والإخضاع وفي حيويته المدهشة».
ويقول: «إن خطر المسلمين هو الخطر العالمي الوحيد في هذا العصر، الذي
يجب أن تجتمع له القوى، ويُجَيَّش له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار».
ويقول أيضًا: «إن القضية الإسلامية تختلف عن القضية اليهودية، إن
المسلمين يختلفون عن اليهود في دينهم، إنه دين دعوة، إن الإسلام ينتشر بين النصارى
أنفسهم، وبين غير النصارى، ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا -كما يراه
المبشرون- وهو أن المسلمين لم يكونوا يومًا أقلية موطوءة بالأقدام».
ثم يقول: «إننا من أجل ذلك
نرى المبشرين، ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين، لقد كنا نُخَوَّف من قبل
بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر (باليابان وتزعمها على الصين) وبالخطر البلشفي، إلا
أن هذا التخويف كله لم يتفق (لم نجده ولم يتحقق) كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود
أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء
لنا، أما الشعوب الصفر، فإن هناك دولاً
ديمقراطية كبيرة، تتكفل
بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام»([22]).
Ø والغرض الثاني: ضمان استمرار الصراع بين الغرب والإسلام والقطيعة
بينهما لمصلحة الصهيونية والماسونية،
التي تعتبر نفسها المتضرر الأول والرئيس من أي تقاربٍ أو حوارٍ جادٍ بين الإسلام
والغرب.
وفي
هذه الورقات اليسيرات نكشف جانبًا من جوانب عظمته r وأخلاقه الكريمة وخصاله الشريفة؛ حرصت فيها على الاقتصار على
الصحيح الثابت من قوله أو فعله r؛ ليتعرف أبناء الإسلام على جانبًا مهمًا من جوانب عظمة نبيهم r، وعظيم أخلاقه r، التي تجعل حبَّه r يتمكَّن في قلوبهم؛
فيقوموا بمقتضى هذا الحبِّ؛ من البلاغ والدعوة لدينه وسنته r والنصرة له ولشريعته.
ولعلَّها تبلغ أقوامًا عُلِم منهم الإنصاف؛ فتكون سببًا لهدايتهم،
وآخرين ممن تبع عن جهلٍ وتعصبٍ أعمى تلك الحملة الظالمة، والتشويه الكاذب لسيرة
أعظم إنسان عرفته البشرية r؛ فيرعووا.
وسوف نتناول في هذه
الورقات؛ الإشارة المجملة إلى اتصافه r بالأخلاق العظيمة، وشهادة الأمم السابقة له بذلك، ومعرفتها له
بها، ثم نتناول بيان هذه الصفات بشيء من التفصيل والبيان؛ نبدأ فيها بصفاته
الذاتية؛ من الصدق والأمانة والتواضع والحياء والزهد والصبر.
ثم نعرج إلى شيء من صفاته
المتعدية؛ من الرحمة، والحلم والعفو والصفح، والعدل، والوفاء، والكرم والجود
والسخاء، والشجاعة والقوة.
ثم نتعرف على هديه r على وجه الخصوص مع طائفة
من الذين عايشهم وكان له بهم مزيد اعتناء وحفاوة واهتمام؛ من الأهل، والأطفال
والصبيان، والخدم والضعفاء والمساكين.
ونختم بسؤال: كيف ننصر هذا
النبيَّ الكريم r، والإجابة عليه؛ من خلال
ذكر كيفية تحقيق محبته r، وبعض ما يجب على المحبِّ الصادق تجاه حبيبه r، وما يوجبه هذا الحبُّ
من أعمال لنصرة الحبيب r.
***
أخلاق أعظم إنسانr
Ø كان النبيُّ r أحسنَ الناس خُلقًا وأكرمهم وأتقاهم، وقد شهد له بذلك ربه جلَّ وعلا
وكفى بها فضلاً، قال تعالى مادحًا وواصفًا خُلق نبيِّه الكريم r: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
Ø يقول خادمه أنس بن مالك t: «كان النبي r أحسن الناس خلقًا»([23]).
Ø وتقول زوجه صفية بنت حيي رضي الله عنها: «ما رأيت أحسن خُلقًا من
رسول الله r»([24]).
Ø وقالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها، عن خلق النبي r، قالت: «كان خُلُقه
القرآن»([25]).
فهذه الكلمة العظيمة من
عائشة رضي الله عنها، ترشدنا إلى أن أخلاقه r هي إتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر
ونواهٍ، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم، وأثنى على أهلها، والبعد
عن كل خلق ذمَّه القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «ومعنى هذا أنه r صار امتثال القرآن أمرًا
ونهيًا سجيةً له وخلقًا.... فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع
ما
جَبَله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح
والحلم، وكل خُلقٍ جميل»([26]).
Ø وقد جاءت صفاته وخصاله الكريمة r في كتب أهل الكتاب نفسها قبل تحريفها؛ فعن عطاء t، قال: قلت لعبد الله بن
عمرو: أخبرني عن صفة رسول الله r في التوراة.
Ø قال: «أجل، والله إنَّه لموصوفٌ في التَّوراة ببعض صفته في القرآن؛ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا} وحرزًا للأمِّيِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكِّل، ليس بفظٍّ
ولا غليظٍ ولا سخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسَّيِّئة السَّيِّئة، ولكن يعفو
ويغفر، ولن يقبضه الله حتَّى يقيم به الملَّة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلَّا
الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا»([27]).
وصدق
الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
فإلى هذه الروضة الفيحاء،
والجنة الغنَّاء، نتنسم عبيرها، وننهل من معينها.
***
أدبه r مع ربه عز وجل
Ø وقد بلغ r في أدبه مع ربِّه ذروة سنامه، وحقَّق غاية كماله، بحسن صحبته مع
ربِّه عزَّ وجلَّ؛ بإيقاع جميع حركاته الظاهرة والباطنة على مقتضى تعظيمه وإجلاله
والحياء منه سبحانه؛ فصان معاملته ربِّه أن يشوبها بنقيصةٍ، وصان قلبه أن يلتفت
إلى غيره، وإرادته أن تتعلق بغير مراده.
Ø ولم يجاوز r ببصره ولا ببصيرته شيئًا لم يأذن ربُّه به؛ قال تعالى في وصف
حاله؛ عند ارتقائه الدرجات العلى، في رحلة المعراج: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَىٰ}. [النجم: 17].
وزيغ البصر: التفاته
جانبًا، وطغيانه: مدُّه أمامه إلى حيث ينتهي.
وفي هذه الآية أسرار
عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر r.
فنفى ربُّه عز وجل عنه r ما يعرض للرائي الذي لا
أدب له، بين يدي الملوك والعظماء؛ من التفاته يمينًا وشمالاً، ومجاوزة بصره لما
بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبًا، ولم يمدَّ
بصره إلى غير ما أري من الآيات، وما هناك من العجائب؛ بل قام مقام العبد الذي أوجب
أدبه إطراقه وإقباله على ما رأى، دون التفاته إلى غيره، ودون تطلُّعه إلى ما لم
يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته([28]).
وهذا غاية الكمال والأدب
مع الله، الذي لا يلحقه فيه سواه؛ فإنَّ عادة النُّفوس
إذا أقيمت في مقامٍ عال
رفيعٍ؛ أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه([29]).
Ø وبلغ من أدبه r مع ربه عزَّ وجلَّ؛ وشدة حيائه منه وإجلاله له؛ أنه ربما ترك سؤال
ربِّه الشيء مع حاجته إليه، وحرصه عليه؛ ومن ذلك ما كان منه r في ليلة المعراج، في قصة مراجعته ربَّه عزَّ وجلَّ؛ ليسأله
التخفيف على أمته، من الصلاة المفروضة؛ فلما أكثر التردد على الله يسأله التخفيف،
قال لموسى u -
عندما ألحَّ عليه ليراجع ربَّه-: «استحييت من ربِّي»([30]).
وما حمله على الاستحياء
إلا بالغ أدبه وحيائه r من ربِّه عزَّ وجلَّ، وإجلاله له.
Ø
ومن
تمام وكمال أدبه r مع ربه عز وجل؛ قيامه
بمقتضى العبودية، أكمل قيام وأتمه؛ فكان r أعبد الناس لربه عزَّ وجلَّ، وأكثرهم خشية ًمنه، وأشدَّهم ذكرًا
له؛ لا يدع وقتًا يمر بدون ذكر الله عزَّ وجلَّ وحمده وشكره والاستغفار والإنابة([31])،
وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
Ø
ودفعه هذا الأدب وذلك الحياء؛ لأن يقوم الليل حتى تفطَّرت قدماه،
ويسجد فيدعو، ويسبِّح ويدعو، ويثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله عزَّ وجلَّ؛
حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل؛ من البكاء([32]).
فلما قالت له عائشة رضي
الله عنها: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟!
فقال: «يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟»([33]).
إنَّ كمال الأدب يجعل
الحييَّ الشكور r يستحي أن ينام عن شكر
مولاه عزَّ وجلَّ، مع عظيم فضله وإحسانه!!
وهذا كلُّه من كريم أخلاقه
r؛ فإن من تمام كريم
الأخلاق؛ أن يتأدب العبد مع ربِّه المنعم الوهَّاب.
وصدق
الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}
***
صدقه r
Ø وهو الذي جاء بالصدق من عند ربِّه، فكلامه صدقٌ، وسنَّته صدقٌ، ورضاه
صدقٌ، وغضبه صدقٌ، ومدخله صدقٌ، ومخرجه صدقٌ، وضحكه صدقٌ، وبكاؤه صدقٌ، ويقظته صدقٌ،
ومنامه صدقٌ، وكلامه r كلُّه حقٌ وصدقٌ وعدلٌ.
Ø لم يعرف الكذب في حياته جادًّا أو مازحًا، بل حرَّم الكذب، وذمَّ
أهله، ونهى عنه.
Ø وكلُّ قوله وعمله وحاله r مبنيٌ على الصدق، فهو صادقٌ في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدِّه
وهزله، وبيانه وحكمه.
Ø صادقٌ مع القريب والبعيد، والصَّديق والعدو، والرجل والمرأة.
Ø صادقٌ في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلِّه وإقامته، ومحاربته
ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله.
Ø فهو الصادق المصدوق، الذي لم يُحفظ له حرفٌ واحدٌ غيرُ صادقٍ فيه،
ولا كلمةٌ واحدةٌ خلاف الحقِّ، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقًا في
لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول -لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا
بعينك في قتل الأسير؟!.: «إنَّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنة أعينٍ»([34]).
Ø فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله
بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه السلام، ونبوَّته، وإكرام الله له
بالاصطفاء
والاجتباء والاختيار؟!
Ø شهد له أعدى أعدائه بالصدق والأمانة؛ فهذا النَّضر بن الحارث، شيطانٌ
من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله r وينصب له العداء؛ يقول لقومه: يا معشر قريشٍ، إنّه والله قد نزل
بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد؛ قد كان محمّدٌ فيكم غلامًا حدثًا؛ أرضاكم فيكم،
وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً؛ حتّى إذا رأيتم في صدغيه الشّيب، وجاءكم بما
جاءكم به؛ قلتم ساحرٌ!! لا والله، ما هو بساحرٍ... ([35]).
ومثل هذا قاله الوليد بن المغيرة
وعتبة بن ربيعة، وغيرهما من ألدِّ أعدائه وأشدِّهم كرهًا وبغضًا له([36]).
Ø ولقد كانت هيئته r تدل أبلغ دلالة على مبلغ مكانته من الصدق ورسوخ قدمه فيه؛ يدرك
ذلك كل من صفت فكرته وتجرَّد عن هواه؛ فهذا الحَبر عبد الله ابن سلامٍ t يقول: لمَّا قدم رسول
الله r المدينة انجفل النَّاس
إليه، وقيل: قدم رسول الله r ... فجئت في النَّاس لأنظر إليه؛ فلمَّا استثبتُّ وجه رسول الله r عرفت أنَّ وجهه ليس بوجه
كذَّابٍ... ([37]). فلم يسعه t بعد ذلك إلا أن يعلن إسلامه ويتبرأ من كيد يهود.
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ
|
|
كانت بديهته تُنبِيك بالخبر([38])
|
فلقد كان صدقه r تنبئ عنه جوارحه r قبل أن تنبئ عنه أقواله
وأحواله؛ فاستقر في قلوب أصحابه رضي الله عنهم، وقد رأوا وجهه الشريف، وخبروا
أقواله وأحواله كلَّها؛ فوجدوها كلَّها صدقًا وعدلاً؛ فاستيقنوا أنه الصادق في
نفسه، المصدوق فيما يجيء به عن ربِّه عزَّ وجلَّ.
وصدق الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
***
أمانته r
Ø وهو بحقٍّ أمين أمناء الأرض، وإذا عددنا مواقفه r في خلق الأمانة فقط لسطَّرنا
صحائف.
Ø وصفه الأمانة كانت من الصفات الملازمة لأخلاق الحبيب المصطفى r قبل بعثته ومنذ نعومة
أظافره، فكان يلقَّب بين قومه وعشيرته الأمين، وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين؛
فيقولون: جاء الأمين وذهب الأمين([39]).
Ø وفي قصة بناء الكعبة؛ عندما تحاكم رجال قريش فيمن يضع الحجر الأسود
فقالوا: «اجعلوا بينكم حكمًا. قالوا: أول رجل يطلع من الفجِّ، فجاء النبي r فقالوا: أتاكم الأمين»([40]).
Ø وقد التصقت به r هذه الصفة الحميدة؛ لأنه كان مثالاً كاملاً ورائعًا وفذًا لأداء
الأمانة وأداء الحقوق لأربابها، في زمن ووقت عزَّ من تجد فيه مثل هذا الخلق
الرفيع؛ لانتشار جميع أنواع الموبقات وسط هذا التجمع الجاهلي.
بل
لقد دفعتهم تلك الثقة المطلقة بأمانته r إلى حفظ أموالهم ونفائس مدَّخراتهم لتكون وديعة عنده؛ فلم يكن
بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لثقته بصدقه وأمانته.
Ø والعجيب أن هذه الثقة ظلَّت على حالها؛ ولم يختلجهم أدنى شك في
أمانته r حتى بعد معاداتهم له
بسبب دعوته لهم ليؤمنوا بالله وحده!!
ويالها من أمانة ما أروعها وخلق ما أعظمه!!
يجتهدون لقتله، ويجتهد هو r لرد ودائعهم وأماناتهم
التي عنده في نفس اللحظة!! فيترك علي بن أبي طالب t في مكة بعد هجرته ليرد ودائع الناس التي كانت عنده([41]).
Ø ولا عجب إذن أن يشهد له r بالأمانة أعداؤه قبل أصحابه!!
فهذا أبو سفيان زعيم مكة
لما وقف قبل إسلامه أمام هرقل -وهو الحريص على أن يغمطه حقَّه، ويطعن فيه، بدافع
العداء له حينذاك- لم يستطع أن يخفي هذا الخلق العظيم، لما سأله هرقل عما يأمر به
النبيr ؛ فأجابه أبو سفيان بأنه يأمر بالصَّلاة والصِّدق والعفاف والوفاء
بالعهد وأداء الأمانة([42]).
Ø ويقول جعفر بن أبي طالب t، في قصته مع النجاشي ملك الحبشة، وذلك حين سأله عن الدين الذي
اعتنقوه؛ فكان من إجابته له قوله t: «...حتَّى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته
وعفافه...» ([43]).
هكذا كان النبيُّ r معروفًا بالأمانة لدى
الناس كافَّة، ممن عرفه أو سمع عنه؛ عدوًا كان أم صديقًا.
ولا غرو أن يكون r بتلك المثابة من خلق
الأمانة؛ فهو أمين الله على وحيه؛ فأداه كأكمل ما يكون الأداء r.
Ø ولا غرو أيضًا أن نجد الاهتمام البالغ منه r والحث على الأمانة، والتأكيد عليها بجميع صورها وأشكالها، بل
ويربطها بالإيمان.
Ø فيقول r: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»([44]).
Ø ولم يكتف r بعموم ترغيبه في الأمانة وحثه عليها؛ بل لقد نص على الأمانة في
مواضع أخرى متفرقة، تدعو إلى الحاجة إلى الاعتناء بها، والتأكيد عليها.
Ø
فيؤكد
على الأمانة في تولية أمور المسلمين تأكيدًا عظيمًا؛ ويؤكد خطورة التهاون فيها
وعظيم إثمه.
Ø فيقول r: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيَّةً، يموت يوم يموت، وهو غاشٌّ
لرعيَّته، إلا حرَّم الله عليه الجنَّة»([45]).
Ø ويقول r محذرًا من يتشوف إليها، ولا يؤدي حق هذه
الأمانة: «إنَّها أمانةٌ، وإنَّها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلَّا من أخذها
بحقِّها، وأدَّى الَّذي عليه فيها»([46]).
Ø ويقول أيضًا r: «من استعملناه منكم على عملٍ، فكتمنا مخيطًا فما فوقه، كان
غلولاً يأتي به يوم القيامة»([47]).
Ø فالأمانة عند الأمين r في ولايات المسلمين العامة والخاصة؛ لها شأن عظيم.
Ø وللأمانة عنده r في الأموال شأن عجيب أيضًا، لا تعرف له البشرية نظيرًا؛ فيقول r: «أدِّ الأمانة إلى
من ائتمنك ولا تخن من خانك»([48]).
يا له من خلقٍ لا يكون إلا
من الأمين r!! إن الأمانة عنده ليست
معاوضة؛ تُعطَى لمن يلتزم بمثلها؛ كلا إنها خلق ذاتي لا يقبل المساومة!!
Ø وللأمانة عند الأمين r مجالات رحبة وصور عديدة، لا يفطن لها الكثيرون، الذين يظنونها
قاصرة على الأمانة في الأموال وحسب.
Ø ومن ذلك الأمانة مع الزوج والزوجة؛
فيقول الأمين r: «إنَّ من أعظم الأمانة
عند الله يوم القيامة: الرَّجل يُفْضِي إلى امرأته وتُفْضِي إليه؛ ثمَّ ينشر سرَّها»([49]).
Ø ومن ذلك أمانة المجالس والحديث فيها؛
فيقول الأمين r: «إذا حدَّث الرَّجل الحديث
ثمَّ التفت فهي أمانةٌ»([50]).
Ø ومن ذلك أمانة النصح والاستشارة؛
فيقول الأمين r: «المستشار مؤتمنٌ»([51])؛ أي يجب عليه إبداء المشورة الصحيحة
حسب ما يرى، وإلا كان مفرطًا في الأمانة
خائنًا!!.
Ø وكل ذلك وغيره كثير يدل على كمال أمانته r، وأنه بحق أمين الله على وحيه؛ فإنه لا يعرف الخيانة أبدًا؛ ليس
فقط في لفظاته؛ بل وحتى في لحظاته وإشاراته!!
وهو الذي يقول -لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا
بعينك في قتل الأسير؟!-: «إنَّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنة أعينٍ»([52]).
Ø فليت شعري!! أين محبوه الصادقون من مثل هذا الخلق العظيم، الذي يكاد
يكون قد اندثر في واقع المسلمين اليوم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الأمين r، وهو يحدث عن رفع
الأمانة؟!!
فيقول
r: «ينام الرَّجل النَّومة
فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل ُّأثرها من أثر الوكت، ثمَّ ينام النَّومة فتقبض
فيبقى أثرها مثل المجل؛ كجمرٍ دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيءٌ،
فيصبح النَّاس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة؛ فيقال: إنَّ في بني فلانٍ
رجلًا أمينًا!!...»([53]).
وصدق الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}
تحميل كتاب أعظم إنسان عرفته البشرية صلى الله عليه وسلم PDF من هنا