مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله r، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل
بدعة ضلالة.
وبعد.. فإن رسالة ثلاثة الأصول ألفها الإمام المجدد لما اندرس من معالم
التوحيد والسنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن علي بن سليمان الوهبي التميمي رحمه
الله تعالى وغفر له وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، «قد جدّ الناس في حفظها لعظم
نفعها، وتشوقت النفوس لبيان معانيها لرصانة مبانيها»([1]).
وقد كتبها في أوائل دعوته السلفية قبل انتقاله إلى الدرعية؛ نصحًا للناس
وإصلاحًا لأحوالهم ورحمة بهم، فلم يشدد في العبارة ولم يقعر في الكلام؛ بل ساق
المراد بما يناسب أحوال المخاطبين على اختلاف مداركهم، ولذلك فَهٍمَ هذه الرسالة
العظيمة كل من قرأها أو سمعها أو دُرّست له؛ فإن كان مريدًا للحق مقدمًا له اعتقد
ما فيها من التوحيد والإسلام.
وكان المؤلف رحمه الله حريصًا على تبليغ ما في هذه الرسالة إلى الناس؛ ولذلك
لما تمكن بمساندة الإمام محمد بن سعود - رحمهما الله تعالى - وأقاما دولة التوحيد
والإسلام صار يبعث الدعاة وطلبة العلم إلى القرى والهجر؛ ليُعلّموا الناس هذه
الأصول الثلاثة، وسار أئمة الدعوة بعده على هذا؛ فكان من أوائل ما يُعلَّمُ الطالب
والعامي ثلاثة الأصول.
ومما يبين ذلك أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله كتب إلى أحد الأمراء
أن يُلزم أئمة المساجد سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها([2])، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يقول بأنه يتعين
على كل إمام مسجد تعليم جماعة مسجده هذه الأصول([3])؛ وذلك لأن المساجد هي طريق تعليم العامة ودعوتهم.
ولما جاءت المدارس النظامية في دولة آل سعود المباركة جُعل تدريس هذه
الأصول الثلاثة منهجًا مقررًا لطلاب المرحلة الابتدائية؛ لأن مراد الجميع – وعلى
رأسهم المصنف – نجاة الناس من فتنة القبر وعذابه.
ولا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة أجوبة أسئلة القبر الثلاثة: من ربّك؟ وما
دينك؟ ومن نبيك؟ بالأدلة.
وهذا هو مدار رسالة «ثلاثة الأصول».
* ويتعلق بهذه المقدمة مسائل:
- المسألة الأولى:
ينبغي لطالب العلم أن يفهم الرسالة فهمًا دقيقًا؛ لأنها تمثل مرحلة سابقة
ومهمة لفهم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ومعرفة ضدّه وكشف الشبهات حول ذلك.
وقد اجتهدت في بيان كل عبارة من هذه الرسالة لثلاثة أسباب:
الأول: قول المؤلف
رحمه الله عن هذه الرسالة: «قف عند هذه الألفاظ واطلب ما تضمنته من العلم والعمل، ولا
يمكن العلم إلا أنك تقف عند كل مسمى منها»([4])اهـ
الثاني: ليستفيد عامة
طلبة العلم من معانيها العظام، ويتهيئوا إلى فهم أكبر لمسائل التوحيد وكشف شبهات
المخالفين في ذلك.
الثالث: لترتيب
المعلومات لدى طلاب العلم المبتدئين؛ لأن مراعاة الترتيب ضرورية لتحصيل العلم؛ فينبغي
لطالب العلم أن يسلك أقرب طريق يوصل إلى المقصود الذي يطلبه، ويرتب معلوماته
وفوائده؛ لينبني الجديد منها على ما سبق؛ فيكمل بناء العلم شيئًا فشيئًا.
وبعض طلاب العلم يجتهد ويحفظ المتن ويقرأ الشروح والحواشي ويحضر عند معلم
في ذلك؛ لكنه غير مرتب الذهب فيعطيك من المعلومة بعضها، ومن الفائدة شطرها، أو
كلّها؛ على تخوف واضطراب وقد يتخلف عنه الدليل أو وجه الاستدلال.
وكل ذلك لا ينبغي أن يغيب لحظة واحدة؛ لا سيما في زمان قد اختلط فيه كثير
من الأصول ببعضها، وامتزجت القاعدة بأختها؛ فخرجت لأكثر الناس صورة العلم دون
حقيقته ودعواه دون تحقيقه.
ولذلك جمعت الشروح والحواشي ورتبت شرحًا يناسب كثيرًا من طلبة العلم – في
ظني؛ ليفهموا المراد من هذه الرسالة العظيمة التي اعتنى بها علماؤنا رحمهم الله
تعالى.
- المسألة الثانية:
المؤلف رحمه الله لم يكتب هذه الأصول الثلاثة مرة واحدة؛ بل كتبها أكثر من
مرة، فتجد في الدرر السنية (1/125-136) الرسالة كاملة وهي المعتمدة والمتداولة، وتجد
بعدها (1/137-143) رسالة في معناها مع شيء من الزيادة والنقص، وثم رسالة أخرى
(1/147-151)، وأخرى (1/158)، وتلاحظ في الرسائل عدا الأولى خلوَّها من المقدمات
الثلاث؛ التي تتحدث الأولى عن العلم والعمل والدعوة والصبر، وتتحدث الثانية
والثالثة عن أصول مهمة تتعلق بالتوحيد.
- المسألة الثالثة:
ينبغي لمعلم ثلاثة الأصول أن لا يكون همُّه الوحيد أن يُلقي على المتعلم كل
ما تعلمه من شروح هذه الأصول، أو يقرأ عليه شرحًا من الشروح.
بل الواجب عليه أن يتذكر أنه يحمل فحوى رسالة الأنبياء عليهم السلام، وأن
يبلغها لغيره؛ فيعتني بأسلوبه وألفاظه وسياقاته بحيث تخدم الهدف الدعوي الصحيح ولا
تخدم هدفًا آخر.
وإذا كان كذلك فعليه أن يعتني بالمتعلم ومقدار فهمه واستيعابه ويعطيه ما
يتعلق بهذه الأصول على قدر ذلك.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان
على قدر فهمه؛ فإن كان ممن يقرأ القرآن أو عرف أنه ذكي فيعلم أصل الدين وأدلته
والشرك وأدلته ويقرأ عليه القرآن ويجتهد أنه يفهم القرآن فهم قلب.
وإن كان رجلًا متوسطًا ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم
فيصرح له بحق الله على العبيد؛ مثل ما ذكر النبي r لمعاذ ويصف له حقوق الخلق مثل حق المسلم على المسلم وحق
الأرحام وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي r»([5]).اهـ
- المسألة الرابعة:
المتأمل لهذه الرسالة يجد أنها اشتملت على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ثلاث مقدمات: إحداها
في الحث على العمل والعمل والدعوة والصبر، والثانية والثالثة حول أصول عظيمة تتعلق
بالتوحيد.
القسم الثاني: مهمات في
التوحيد مثل الإيمان بالبعث والرسل والكفر بالطاغوت، وتجدها في آخر الرسالة.
القسم الثالث: صلب الرسالة
ولبها وهو أجوبة القبر الثلاثة بأدلتها. وهنا تنبيهان متعلقان بهذا القسم:
الأول: قال الشيخ عبد
الرحمن بن قاسم رحمه الله تحت قول المؤلف: «فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي
يجب على الإنسان معرفتها؟ هذا القسم هو المقصود من الرسالة، وما تقدم من المسائل
فلعل بعض تلاميذ المصنف قرنها بها»([6])اهـ
ويدل على ذلك أنه في عام 1218هـ رأى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله - حاجة أهل مكة لبعض رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب، فاختصرت رسالة
للعوام تبدأ من قوله: اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية... إلى آخر ثلاثة الأصول
([7]).
ولأجل هذا لما أراد الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري رحمه الله المتوفى عام
1387هـ التعليق على الرسالة لم يذكر المقدمات؛ فقال: «أما بعد فهذا مختصر من كلام
إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب في «الأصول
الثلاثة» التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها والعمل بها؛ وهي معرفة العبد ربه
ودينه ونبيه r.
إذا قيل لك: من ربك... »([8])اهـ
الثاني: سأسير سيرة
الشرّاح الذين سمعت منهم ونقلت عنهم في مجالسهم أو مؤلفاتهم فأشرح رسالة «ثلاثة
الأصول» والمقدمات التي ألحقت بها.
وطريقتي في هذا الشرح كما يلي:
أولًا: أجعل ما أريد شرحه من كلام المؤلف رحمه الله بخط متميز، وفي أعلى
الصفحة، وبينه وبين الشرح خط فاصل.
ثانيًا: أبدأ الشرح بذكر المعنى العام والإجمالي، وأشير إلى مراد المؤلف
ومناسبة الكلام لما قبله، وإن كان ثم استدلال من المؤلف فإنني أذكر وجهه.
ثالثًا: أذكر المسائل والمباحث المتعلقة بكل فقرة.
هذا ما أحاول التزامه في هذا الشرح، وقد يتخلف شيءٌ من ذلك أحيانًا؛ إما
لوضوح بعضه كمناسبة الكلام لما قبله أو المعنى العام أو غير ذلك.
هذا وإني أحمد الله الكريم المنان على تيسيره وتوفيقه، وأسأله جل وعلا كما
يسر لي شرح هذا المتن المبارك أن ييسر لي طريقًا إلى الجنة ووالدي ومشايخي وإخواني
وأقاربي.
وليتك أيها القارئ الكريم إذا وقعت على خلل أو زلل – ولا بد – أن تنصح لي
وتوجه؛ فمثلي لا يكتب كتابًا أو يشرح متنًا، ولكن الوقوف عند رغبات الأحباب لما
رأوا شرح الكتاب وراء إخراجه مع جملة من الأسباب.
ولا يفوتني في مقدمة هذا الشرح أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من: الشيخ
الفاضل والداعية الأديب: محمد حبيب شريف السيراليوني، والشيخ: فواز عثمان صالح، والشيخ:
بدر بن محمد الوهيبي، والشيخ: عبد الله بن محمد الصامل، الذين اقتطعوا شيئًا من
أوقاتهم وجهدهم وصرفوه لهذا الكتاب؛ فصححوا ونقحوا وعدلوا واستدركوا حتى ارتقى هذا
الشرح إلى ما سرّ الكثير من طلبة العلم.
وأتقدم أيضًا بالشكر والعرفان لصاحب فضل وإحسان: الشيخ محمد بن حمد بن نمي
الذي ما فتئ يتصل بي متابعًا لهذا الشرح باذلاً ما يستطيع توفيره من مراجع، فأسأل
الله العظيم أن يرزقه الولد الصالح ويعمر قلبه بالهدى والإيمان ويسكنه فسيح الجنان
ووالديه وأحبابه.
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة
|
|
ولكن إخوان الثقات الذخائر ([9])
|
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
كتبه
الفقير إلى عفو ربه
القدير:
عبد الله بن سعد أبا حسين
1/9/1424هـ
أهمية رسالة
ثلاثة الأصول
1- القبر أول منازل الآخرة فمن سعُد فيه فيما بعده أسعد، ومن شقي فيه فما
بعده أشقى؛ قال رسول الله r: «القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر
منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه»([10]).
قال هانئ: سمعت عثمان رضي الله عنه يُنشد على قبر:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة
|
|
|
|
وإلا فإني لا أخالك ناجيًا ([11])
|
|
2- قرّرَتْ
هذه الرسالة حقيقة التوحيد ودين الإسلام؛ كما قال المؤلف رحمه الله: «قررت ثلاثة
الأصول: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين
الإسلام»([12]).اهـ
3- من عادة أهل العلم أنهم يبدؤون في التعليم بالمختصرات قبل المطولات
وبالأهم قبل المهم، وهذه الرسالة جمعت بين كونها تتحدث عن أهم العلوم وأشرفها
وكونها مختصرًا فيه.
وهذا أوان الشروع في المقصود، ومن الله تعالى وحده أستمدّ العون والسداد.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
ـــــــــــــــــــــــــ
المعنى العـام:
المعنى العـام:
ابتدأ المؤلف رحمه الله رسالته بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز؛ حيث بُدئ
بالبسملة، وتأسيًا بالنبي r في مكاتباته ومراسلاته؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن
النبي r بعث بكتاب يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من
محمد بن عبد الله... » الحديث([13]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد جمعت كتب النبي r إلى الملوك وغيرهم فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد
بل بالبسملة»([14]).اهـ
وهكذا صنع البخاري رحمه الله؛ حيث ابتدأ صحيحه بقوله: «بسم الله الرحمن
الرحيم كتاب بدء الوحي... »، قال ابن حجر رحمه الله: «طريق التأسي بالقرآن
الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها»([15]).اهـ
والمصنف رحمه الله يرى ذلك؛ حيث قال: «يُسن كتابتها [أي التسمية] أوائل
الكتب كما كتبها سليمان عليه السلام، وكما كان النبي r يفعل»([16])اهـ
قال ابن كثير رحمه الله: و «بسم الله» لها بركة، ولهذا تستحب في أول كل عمل
وقول؛ فتستحب في أول الخطبة لما جاء: «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله
الرحمن الرحيم فهو أجذم». وتستحب البسملة عند دخول الخلال.. ([17])اهـ وذكر رحمه الله ما نَصَّ الدليل على البداءة فيه
بالبسملة من الأقوال والأعمال؛ كالذبيحة والوضوء وغيرها.
ومراد المؤلف رحمه الله: بسم الله أكتب هذه الرسالة، وهذا يفيده فائدة؛ وهي:
التبرك والتيمن بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى، وأنت أيها القارئ إذا بسملت
فمرادك: بسم الله أقرأ، ومن بسمل وهو يريد الأكل فمراده: بسم الله آكل وهكذا؛ وذلك
لأن الباء في «بسم الله» حرف جر مبني لا محل له من الإعراب و«اسم» مجرور وعلامة
جره الكسرة الظاهرة على آخره. والجار والمجرور في «بسم الله» يتعلق بفعل محذوف خاص
مؤخر.
وقدرناه فعلاً؛ لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا فإن الأفعال
تعمل بلا شرط بينما الأسماء لا تعمل إلا بشرط.
وقدّرنا فعلاً خاصًا؛ لأن الخاصَّ أدلَّ على المقصود من العام؛ إذ من
الممكن أن تقول: التقدير: «بسم الله أبتدئ». فهذا عامٌّ لا يدل على المقصود بوضوح؛
أما إذا قلت: بسم الله أقرأ. فهو أدلُّ على المقصود.
وقدَّرنا هذا الفعل الخاص مؤخرًا ليفيد الحصر؛ لأن تقديم المتعلق يفيد
الحصر عند علماء المعاني؛ فإن قولك: بسم الله أقرأ. بمنزلة قولك: لا أقرأ إلا باسم
الله.
و«الله» علم على الباري جل في علاه، و«الرحمن الرحيم» اسمان له سبحانه
وتعالى مشتقان من الرحمة، و«الرحمن» أشد مبالغة من «الرحيم»، ومختص بالله تعالى
فلا يتسمّى به غيره؛ أما «الرحيم» فيتسمى به المخلوق؛ قال ابن القيم رحمه الله: إن
«الرحمن» دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، و«الرحيم» دالٌّ على تعلقهما
بالمرحوم؛ فكان الأول للوصف والثاني للفعل.
فالأول دالٌّ على أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته.
وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: }وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا{ [الأحزاب: 43]،
}إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{ [التوبة: 117]،
ولم يجيء قط «رحمن بهم»؛ فعلم أن «رحمن» هو الموصوف بالرحمة، و «رحيم» هو الراحم
برحمته. وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك
صورتها ([18])اهـ
اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلُّمُ أربع مسائل:
الأولى: العلم؛ وهو معرفة الله ومعرفة رسوله ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
المعنى العام:
بدأ المؤلف رحمه الله بمقدمة حول أهمية أربعة أمور، وهي معرفة أجوبة مسائل
القبر الثلاثة بأدلتها والعمل بذلك والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، وفي هذا
تنبيه على أهمية الرسالة وضرورة تعلمها وتعليمها للناس، وفيه أيضًا تأصيل لأمور
عظيمة وهي:
العلم ومكانته وعظم شأنه والذي جِماعه معرفة الله ومعرفة رسوله ومعرفة دين
الإسلام بالأدلة، والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، وهذه الأمور
الأربعة تحققت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتختلف مقامات أتباعهم عند الله
بقدر تحقيق تلك الأمور المهمة؛ بل إن هذا الدين لا يقوم إلا بتحقيق أهله لهذه
المهمات الأربع.
قال ابن القيم - رحمه الله: «المراتب أربع، وباستكمالها
يحصل للشخص غاية كماله: إحداها معرفة الحق. الثانية: عمله به. الثالثة: تعليمه من
لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه، فذكر تعالى المراتب الأربع
في هذه السورة»([19]).اهـ يعني سورة العصر.
ويتعلق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: «اعلم»: كلمة يؤتى بها للاهتمام والحث على تدبر ما بعدها، و«رحمك
الله»: تلطف ودعاء، ومعناه: غفر الله لك ما مضى ووفقك وعصمك فيما تستقبل ([20])، وفي هذا إشارة إلى أن مبنى هذا العلم على التراحم بين
العالم والمتعلم، كما أن نتيجته الرحمة في الدنيا والآخرة.
وكان العلماء رحمهم الله يروون لمن طلب الإجازة حديث: «الراحمون يرحمهم
الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»([21])، وهو الحديث المعروف عند أهل العلم بالمسلسل بالأولية ([22])؛ لأن التسلسل وقع في معظم الإسناد فيقول الراوي لمن
بعده: وهو أول حديث سمعته منه ([23]).
قال الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله - في ترجمة الإمام محمد بن عبد
الوهاب: «أجازه الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف بالحديث المشهور المسلسل
بالأولية: «الراحمون يرحمهم الرحمن». من طريقين: أحدهما عن ابن مفلح، والثاني
عن ابن رجب، وكلاهما عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وينتهي إلى الإمام أحمد»([24]).اهـ
المسألة الثانية:
الوجوب لغة: هو الثبوت والاستقرار، ومعنى وجبت الشمس: ثبت غروبها أو أنها
استقرت في سفل الفلك، وقوله تعالى: }فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا{ [الحج: 36]:
أي ثبتت واستقرت بالأرض([25]).
وشرعًا: ما توعد
بالعقاب على تركه ([26]).
قوله: «أنه يجب علينا»: الوجوب العيني والوجوب الكفائي، ومعنى الوجوب
العيني أن يجب على كل أحد بعينه، ومعنى الوجوب الكفائي: أن يسقط الإثم عن الباقين
إذا فعله من يكفي.
أما معرفة أجوبة القبر الثلاثة بأدلتها فواجب على كل أحد، وأما بقية ما
ذكره في هذه الرسالة فمنه ما هو واجب عيني يجب على كل أحد معرفته، ومنه ما هو واجب
كفائي؛ كمعرفة مُكث الرسول r في مكة ونحو ذلك.
المسألة الثالثة:
العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به.
واختيار هذا التعريف للعلم راجع إلى المفهوم من ظاهر
كلام المؤلف رحمه الله؛ حيث قال: العلم هو معرفة الله ومعرفة رسوله ومعرفة دين
الإسلام بالأدلة، وبعضهم عرّف العلم بأنه إدراك الشيء.
وحكم تعلم العلم يختلف باختلاف المعلوم؛ فمنه ما هو واجب؛ كمعرفة الصلاة
وبقية أركان الإسلام، ومنه ما هو مستحب كمعرفة المستحبات، ومنه ما هو محرم كتعلم
السحر.
وتستطيع أن تقسم حكم تعلم العلم المشروع إلى قسمين:
الأول: فرض عين يجب على كل مكلف كتعلم أركان الإسلام الخمسة.
الثاني: فرض كفاية؛ بمعنى أنه واجب على جميع المسلمين فإذا قام به بعضهم
سقط الإثم عن الباقين، كتعلم علم الفرائض والأصول والنحو ([27]).
المسألة الرابعة:
العمل بالعلم يختلف حكم تركه باختلاف العمل، فهناك من العمل ما تركه كفر
كمن علم أن الله هو المستحق للعبادة ثم أشرك معه غيره، ومنه ما تركه كبيرة كمن علم
حكم شرب الخمر ثم شربها، ومنه ما تركه صغيرة كمن علم حكم النظر إلى الأجنبية ثم
نظر إليها، ومنه ما تركه مكروه كمن علم سنة من سنن الصلاة وتركها، ومنه ما تركه
مباح كمن علم أن النبي r أكل القثاء ونحوه فترك ذلك مباح وفعله مباح إلا من فعله
ناويًا الاقتداء([28]).
المسألة الخامسة:
الدعوة إلى العلم والعمل يختلف حكمها باختلاف العلم والعمل، وما ذكره
المؤلف من معرفة الله ومعرفة رسوله ومعرفة دين الإسلام بالأدلة لا بد من العمل به
والدعوة إليه؛ لأنه بمعرفة هذه المسائل الثلاث والإيمان بها ينجو الناس في قبورهم.
والدعوة إلى الله جل وعلا على علم وبصيرة هي مهمة الأنبياء عليهم السلام، ومهمة
أتباعهم وورثتهم.
وقد تكون بالقول وقد تكون بالفعل؛ لأن من امتثل أمرًا أمام الناس فإنه
يدعوهم بذلك إلى أن يمتثلوه.
وأول ما يبدأ به المسلم في دعوته من الأوامر, التوحيد الذي هو أعظمها ثم
يتدرج بعد ذلك بالأهم فالمهم كما دل على ذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه
أن النبي r بعث معاذًا إلى اليمن فقال: «إنك تأتي قومًا أهل
كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك, فأعلمهم
أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك, فأعلمهم أن
الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.. » الحديث ([29]).
وعلى المسلم أن يبدأ في دعوته القولية والفعلية بأهله وأحق الناس به من
والدين وأبناء وزوجة وأخوة وأقارب، ويكون ذلك بالحكمة واللين والكلام الحسن.
المسألة السادسة:
المسلم محتاج في هذه المسائل الثلاث إلى صبر فيصبر على تعلم العلم، ويصبر
على العمل به ويصبر على الدعوة إليه.
والصبر على الأذى إنما يكون إذا وُجد الأذى، وقد واجه المؤلف في زمانه
أنواعًا من الأذى لما دعا الناس إلى هذه الأصول العظيمة وهي معرفة العبد ربه ودينه
ونبيه r فاتُّهِم في عرضه, ورُمي بالعظائم وكيد به وطُرد؛ فصبر
على ذلك ونشر الله على يديه خيرًا عظيمًا حتى أصبح من عرف أجوبة القبر الثلاثة
وعمل بها ودعا إليها لا يؤذي كما كان السابقون في نجد وما حولها.
وسنة الله جل وعلا في خلقه أن من تعلم العلم وعمل به ودعا إليه فإنه يؤذى، والأذى
عام فمنه التعب والنصب ومنه المعارضة والمخالفة ومنه ما هو أشد من ذلك كالسب
والشتم وافتراء الكذب على الداعي والضرب والقتل.
وقد أمر الله جل وعلا خير الرسل عليه السلام بالصبر كما صبر من صبر قبله من
الرسل فقال: }فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ{ [الأحقاف: 35]،
وقال: }فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ{ [الروم: 60].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «جاء عن بعض السلف ورووه مرفوعًا ذكره القاضي
أبو يعلى في المعتمد: لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقهيًا فيما
يأمر به, فقيهًا فيما ينهي عنه, رفيقًا فيما يأمر به, رفيقًا فيما ينهى عنه,
حليمًا فيما يأمر به, حليمًا فيما ينهي عنه»([30])اهـ
«فالفقه قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة
لا بد أن يكون مستصحبًا في هذه الأحوال»([31]).
والدليل: قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ
* إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر: 1-3].
قال الشافعي
رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
وقال البخاري
رحمه الله تعالى: (باب العلم قبل القول والعمل).
والدليل قوله
تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ{ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم
قبل القول والعمل.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
المعنى العام:
هنا يدلل المؤلف رحمه الله على ما سبق بيانه بدليلين أحدهما قوله تعالى: }وَالْعَصْرِ
* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر: 1-3]،
وذكر بعد هذا الدليل قول الشافعي رحمه الله لبيان عظم هذه السورة: «لو ما أنزل
الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم».
ونقل ابن كثير رحمه الله عنه «لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم»([32]).
ونقل ابن القيم رحمه الله عنه: «لو فكر الناس»([33])، أي إذا تفكر المسلم في هذه السورة وتدبرها توصل إلى
وجه الاستدلال منها.
ووجه الاستدلال هو أن الله جل وعلا أقسم على أن كل الناس في خسارة إلا من
امتثل المسائل الأربع التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
فهي سورة عظيمة؛ ولذا جاء عن أبي مدينة عبد الله بن حصن الداريني، أنه قال:
«كان الرجلان من أصحاب رسول الله r إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على
الآخرة سورة العصر إلى آخرها، ثم يُسلم أحدهما على الآخر»([34]).
والدليل الآخر قوله تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ{ [محمد: 19]، ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه بدأ بالعلم قبل القول
والعمل وهذا ما فهمه البخاري حيث بوّب في صحيحه بباب العلم قبل القول والعمل، واستدل
بهذه الآية، فلا عمل ولا دعوة إلا بعلم.
ويتعلق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
أقسم الله جل وعلا بالزمان والوقت لشرفه ومكانته، فهو المحل الذي يعمل فيه
العبد فيدخل الجنة أو النار.
والواو واو القسم، و}العصر{ هو المُقسم
به، وخسارة الإنسان هي المقسم عليه، واستثنى من الخسارة من أتى بأمور أربعة وهي
العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، وجماع العلم وأصله هو أجوبة
مسائل القبر الثلاثة.
وجاء هذا القسم مؤكدًا بثلاث مؤكدات أولها: القسم، وثانيها: مجيء «إن» في
قوله }إن الإنسان لفي خسر{ وثالثها: مجيء
اللام التي تسمى المزحلقة في خبر «إن» حيث قال }لفي خسر{.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: }إلا الذين آمنوا{ [العصر: 3]،
دليل على العلم والعمل؛ لأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومن لازم الإيمان بالشيء
العلم به.
قال ابن القيم رحمه الله: «والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى
الله بالتعليم والصبر عليه»([35])اهـ
وقوله }وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{ [العصر: 3]،
دليل آخر على العمل، وليس فيه أن العمل غير الإيمان لأن العطف هنا من باب عطف
الخاص على العام.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: }وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر: 3]
دليل على المسألتين وهما: الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
وجه ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله «وتواصوا بالحق، وصّى به بعضهم بعضًا
تعليمًا وإرشادًا»([36]) اهـ. وقال ابن كثير رحمه الله: «وتواصوا بالحق أي أداء
الطاعات وترك الحرمات، وتواصوا بالصبر على المصائب والأقدار وأذى من يؤذي ممن
يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر»([37])اهـ
المسألة الرابعة:
قول الشافعي رحمه الله يبين عظم هذه السورة وأهمية التفكر فيها لأنها
اشتملت على كل ما يدل الخلق إلى ربهم وخالقهم جل وعلا، وليس معنى كلامه رحمه الله
أن هذه السورة تكفي عن القرآن كله من جميع الوجوه وإنما هي حجة تدل على أصول الخير
والعلم وتحصيله.
ولهذا لما كتب رجل لأخيه يكفيك لطلب العلم سورة العصر فإنها كما قال
الشافعي: «لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم» فوقع في يد الشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله - كتب: اعلم أن قول الشافعي رحمه الله
فيه دلالة ظاهرة على وجوب العلم مع القدرة ومن استدل به على ترك الرحلة والاكتفاء
بمجرد التفكر في هذه السورة فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة إن كان في قلبه
أدنى حياة ونهمة للخير لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر الذي هو زمن تحصيل
الأرباح للمؤمنين وزمن الشقاء بالخسران للمعرضين الضالين، وطلب العلم ومعرفة ما
قصد به العبد من الخطاب الشرعي أفضل الأرباح وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة
الإفلاس والإبلاس.([38])اهـ
المسألة الخامسة:
قوله }وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ{[محمد: 19]
خطاب للنبي r وللمؤمنين؛ لأن الخطابات الموجهة إلى النبي r في القرآن تشمل الأمة إلا لدليل فهو قدوة عليه الصلاة
والسلام وتوجيه الخطاب إلى القدوة لا يعني تخصيصه بالحكم بل هو خطاب لأتباعه
والمقتدين به من حيث الأصل ([39]).
فائــدة:
المؤلف رحمه الله بسمل قبل ذكر الآيات التي استدل بها مع أن من عادته أن لا
يُبسمل عند ذكر الدليل.
وقد يُقال بأن السبب أن هذا الدليل فيه بداية سورة، ولكنه يُعارض باستدلاله
بـ }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ [الفاتحة: 2]
ولم يُبسمل([40]).
ولعلّ التوجيه هو أن الدليل هنا استغرق سورة كاملة، فبسمل قبل ذكره، ويُستأنس
لذلك بما رواه مسلم في صحيحه أن النبي r قال: «أنزلت عليَّ آنفًا سورة، فقرأ: بسم
الله الرحمن الرحيم }إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ{...» الحديث([41]).
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن البسملة آية من كل سورة كابن المبارك([42]) رحمه الله، والله أعلم.
* * *
اعلم رحمك الله
أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلّم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن.
الأولى: أن
الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً, بل أرسل إلينا رسولاً؛ فمن أطاعه دخل الجنة،
ومن عصاه دخل النار.
والدليل قوله
تعالى: }إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا
أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا{ [المزمل: 15-16].
ـــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
المعنى العام:
يبين المؤلف رحمه الله أن العبد مخلوق لغاية عظيمة وهي عبادة ربه الذي خلقه
ورزقه، ويدل على هذا أن الله جلا وعلا لم يترك العباد مهملين معطلين كالبهائم بلا
أمر ولا نهي بل أرسل إليهم رسولاً يبين لهم طريق تحقيق الغاية من خلقهم وهي عبادته
سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
ويدل على هذا الأصل قوله تعالى: }أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى{ [القيامة: 75]، وقوله: }أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{ [المؤمنون: 115]،
وورد في بعض الكتب الإلهية: «ابن آدم خلقتك لأجلي، وخلقت كل شيء لأجلك فلا تلعب»([43]).
ودليل خلق الله تعالى لنا قوله جل وعلا: }وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ{ [الأعراف: 11]،
وقوله: }وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{ [الصافات: 96]،
وقوله: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ [الذاريات: 56].
ودليل رزق الله تعالى لنا قوله جل وعلا }إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{ [الذاريات: 58]،
وقوله: }قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ{ [سبأ: 24],
وقوله: }قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ
فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ{ [يونس: 31].
واستدل المؤلف بقوله تعالى: }إِنَّا
أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا
وَبِيلًا{ [المزمل: 15-16] على أن الله جل وعلا لم يتركنا هملاً بل أرشدنا
لتحقيق الغاية ومن خلقنا ورزقنا، وضرب لنا مثلاً في هذه الآية لنعتبر منه وهو حال
من أرسل إليهم موسى عليه السلام وهم فرعون وقومه وكيف أخذهم لما عصوه أخذًا وبيلاً
وأغرقهم في اليم.
وهذه الأمة من أطاع منهم محمدًا r نجا ومن عصاه فإنه متوعد بالعذاب من عند الله عز وجل، قال
تعالى مخبرًا عن حال فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه الصلاة والسلام }النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{ [غافر: 46].
ووجه الاستشهاد من الآية أن الله جل وعلا بين نتيجة من عصى الرسول الذي
يبين للناس الغاية من خلقهم ورزقهم وكيف يحققون تلك الغاية وهي عبادة الله جل وعلا
وحده لا شريك له.
وإنما خص موسى وفرعون بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدًا r آذاه أهل مكة واستخفوا به بسبب أنه وُلد فيهم كما أن
فرعون ازدرى موسى عليه السلام وآذاه؛ بسبب أنه رباه، ولأن خبر موسى وفرعون كانت
منتشرًا بين أهل مكة لكونهم جيران اليهود([44]).
ويتعلق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
المسلم هو من أتى بالشهادتين ومقتضاهما ولم يأت بناقض.
وليس في كلام المؤلف أن تلك المسائل الثلاث لا تجب على الكافر بل هي واجبة
عليه وسيعاقب عليه لقوله تعالى: }مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ{ [المدثر: 42-45].
المسألة الثانية:
الطاعة في قوله «فمن أطاعه» هي الموافقة على وجه الاختيار، والمعصية في
قوله «ومن عصاه» هي مخالفة الأمر عمدًا.
المسألة الثالثة:
الدليل على أن طاعة الرسول r طريق إلى الجنة قوله تعالى: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ [النساء: 13]، وقوله: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{ [النور: 52].
وطاعة النبي r تنقسم إلى واجبة ومستحبة، ومن الواجب ما هو توحيد وتركه شرك وكفر، ومنه ما
هو أقل من ذلك.
كما أن معصية الرسول r تنقسم إلى محرم ومكروه، ومن المحرم ما هو كبيرة، ومنه
ما هو صغيرة.
وبهذا التفصيل نسلم من الوقوع فيما وقع فيه الخوارج الذين يُكَفِّرُون
بالكبيرة، وما وقع فيه المعتزلة الذين يحكمون على فاعل الكبيرة بالخلود في النار.
* * *
الثانية: أن
الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
والدليل قوله
تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن: 18].
ــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
المعنى العام:
ذكر المؤلف رحم الله هنا أصلاً عظيمًا من أصول الإسلام, وهو أن الله الذي
خلقنا ورزقنا لا يرضى منا أن نتوجه إلى عبادة غيره ولو كان أفضل من خُلِقَ في
السماء وهو جبريل عليه السلام أو أفضل من خُلِقَ في الأرض وهو محمد r، وإذا كان كذلك فغيرهما من باب أولى.
واستدل على ذلك بقوله تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن: 18]،
والمراد بالمساجد هنا المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة، وقيل أعضاء السجود ([45])، ووجه الاستدلال من الآية أنه نهى بقوله }فَلَا
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن: 18]، وهذا خطاب لجميع الإنس والجن، و«أحدًا»
نكرة أتت في سياق النهي فَتَعُمُّ كل أحد من شجر أو حجر أو صنم أو غير ذلك.
ويدل على هذا الأصل أدلة كثيرة منها قوله تعالى: }وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ [الذاريات: 56]،
وقوله: }فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا{ [البقرة: 22]،
وقوله: }وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ{ [الزمر: 7].
ويتعلق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: }فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن: 18]
نهيٌ عن عبادة غيره، ووجه ذلك أن الدعاء قسمان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ولذلك قال
أهل التفسير عن قوله تعالى: }وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{ [غافر: 60]
أي اسألوني أعطكم، واعبدوني أُثبكم، والقولان متلازمان ([46]).
ففُسّرت الاستجابة بتفسيرين أحدهما: أعطكم، وذلك إذا كان المقصود بالدعاء السؤال.
الثانية: أثبكم، وذلك إذا كان المقصود من الدعاء العبادة.
وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى عند الكلام على أنواع
العبادة والنهي عن صرف شيء منها لغير الله تعالى.
المسألة الثانية:
النكرات إذا جاءت في سياق نفي أو نهي أو شرط أو استفهام فإنها تَعُمُّ، وينبغي
عليك فهم ذلك لتعرف أوجه الاستدلال في كثير من نصوص التوحيد والعقيدة.
وتطبيق ذلك هنا أن «أحدًا» نكرة جاءت في سياق نهي فَتَعُمُّ كل أحد من الجن
أو الإنس أو الشجر أو الحجر.
المسألة الثالثة:
الله جل وعلا يغضب ويرضى، ويحب ويكره، وهذه من الصفات الفعلية التي يتصف
بها متى شاء سبحانه وتعالى، ونثبتها له جل وعلا كما أثبتها لنفسه، قال تعالى: }وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ{ [النساء: 93]، وقال }رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ{ [المجادلة: 22]،
وقال: }وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ{ [التوبة: 46]،
وقال: }يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ{ [المائدة: 54].
المسألة الرابعة:
قوله: «أن يشرك معه»: فيه أن الله
جل وعلا لا يرضى أي نوع من الشرك صغيرًا كان أو كبيرًا، ظاهرًا أو خفيًا، وسواء
كان ذلك الشرك في الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات.
ووجه ذلك أن «أن» وما دخلت عليه في تأويل مصدر، فالمراد إشراكًا به.
ولكن المؤلف خصص من ذلك الألوهية حيث قال: «أن يُشرك معه أحد في عبادته»
وذلك بسبب حال من يخاطبهم ويعايشهم إذ إن أكثر الخلل والزلل إنما وقع في توحيد
الألوهية كما أن هذا هو الخطر الذي يحدق بهم فلفت الانتباه للشرك في العبادة، وهذا
من حسن دعوته رحمه الله تعالى وغفر له وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
المسألة الخامسة:
العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة
والباطنة، وسيأتي ما يتعلق بهذا التعريف عند قول المؤلف «وأنواع العبادة التي أمر
الله بها» إن شاء الله تعالى.
تحميل كتاب شرح ثلاثة الأصول PDF من هنا