فصل
في دعوته r وبعثته
يقول الله
سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا *
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 45-48].
إن الله
سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، ولقد اختص سبحانه عبادًا للاصطفاء، وركب فيهم
من الأخلاق الفاضلة، والصفات العالية، والمميزات التي ميزتهم على سائر البشر،
رجاحة في أحلامهم، وكمالًا في أخلاقهم، ورزانة في عقولهم، وصفاء في أذهانهم.
لقد اختار
المولى جل وعلا قريشًا من سائر العرب، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفى محمدًا r من بني
هاشم، فهو r أشرف الناس
نسبًا، ومن ذرية إبراهيم نبي الله عليه السلام، فهو محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر
بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن
عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.
ولد النبي r بمكة عام
الفيل، ونشأ محبًا للخير والخلق القويم، يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد،
حتى نزل عليه الوحي من الله، وعمره أربعون عامًا، فكانت بعثته r رحمة للعالمين،
وهدى للناس أجمعين.
لقد وصف الله
نبيه محمدًا r بقوله
سبحانه: {لَقَدْ
جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:
128]. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
لقد جبله الله
على أكمل الصفات والسجايا، وكان له بين قريش المقام السامي، والمحل العالي،
والمنزلة الرفيعة، قبل أن يوحى إليه، ففاقهم حلمًا، وأخلاقًا، وسؤددًا، واحتمالًا،
وصبرًا، ورزانة، وأمانة، حتى كانوا يسمونه الأمين، ويشهدون بفضله، ويقرون بكريم
خلقه.
وليس بأدل على
ذلك من واقعة تحكيمه r في رفع الحجر الأسود إلى مكانه من البيت،
فقد تنازع القوم، ولم يرضوا أن ينفرد بهذا الشرف واحد منهم، فحكموا أول من يدخل،
فكان هو r، فرضوا به
جميعًا، وقالوا هذا الأمين، رضينا رضينا، فكان هو الذي يرفعه، ويضعه في مكانه، مع
وجود أشياخ قريش، وأكابرهم، ولولا منزلته وعلو مكانته، لما أقروا له بذلك.
ولما اشتهر
بأخلاقه الشريفة بين قريش، وتكاملت فيه صفات الخير، وقارب نزول الوحي عليه، جعلت
بعض الأحجار تسلم عليه، ويسمع صوتها، توطئة لنزول الوحي عليه، وجعل يرى الرؤيا الحق،
ويقع تأويلًا أبين من فلق الصبح، ثم مع همته، وشرفه، وأخلاقه r، صار يخرج
للجبال يتعبد وحده، تاركًا ما عليه الناس من عبادة الأوثان، وارتكاب الجرائم،
والتلوث بأنواع الأخلاق الرذيلة.
ثبت في صحيح
مسلم أنه r كان يخلو
بغار حراء، يتحنث فيه – أي يتعبد – الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله،
ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق، وهو في غار حراء،
فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطني، حتى بلغ مني
الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطني
الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني،
فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:
1-5]، فرجع بها رسول الله r ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال:
زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي، وأخبرها
الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي، قالت له خديجة: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله
أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري
الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد
بن عبد العزى، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب
الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا
قد عمى، فقالت له خديجة: أي عم، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي،
ماذا ترى، فأخبره رسول الله r خبر ما رآه، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي
أنز ل على موسى r، يا ليتني
فيها جذعًا، يا ليتني أكون حيًا، حين يخرجك قومك، قال رسول الله r: أو مخرجي
هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به، إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك
نصرًا مؤزرًا.
وجاء في بعض
الروايات: أن ورقة لقي النبي r وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا ابن أخي، أخبرني
بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله r، فقال ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه
الأمة، ولقد جاءك الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن
أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرن الله نصرًا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم
انصرف رسول الله r إلى منزله.
قال ابن
إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل ما ذكر لها غلامها ميسرة من
قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقًا
يا خديجة، إن محمدًا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا
زمانه، أو كما قال، فجعل ورقة يستبطئ الأمر، ويقول حتى متى، فقال ورقة في ذلك
شعرًا:
لججت وكنت في الذكرى
لجوجا
|
|
لهم طالما بعث النشيجا
|
ووصف من خديجة بعد وصف
|
|
وقد طال انتظاري يا
خديجا
|
ببطن المكتين على رجائي
|
|
حديثك أن أرى منه خروجا
|
وما خبرتنا من قول قس
|
|
من الرهبان أكره أن
يعوجا
|
بأن محمدًا سيسود فينا
|
|
ويخصم من يكون له حجيجا
|
ويظهر في البلاد ضياء
نور
|
|
يقيم به البرية أن تموجا
|
فيلقى من يحاربه خسارا
|
|
ويلقى من يسالمه فلوجا
|
فيا ليتني إذا ما كان
ذاكم
|
|
شهدت فكنت أولهم ولوجا
|
ولوجًا في الذي كرهت قريش
|
|
ولو عجت بمكتها عجيجا
|
أرجي بالذي كرهوا جميعًا
|
|
إلى ذي العرش إن سفلوا
عروجا
|
وهل أمر السفاهة غير كفر
|
|
بمن يختار من سمك
البروجا
|
فإن يبقوا وأبق تكن أمور
|
|
يضج الكافرون لها ضجيجا
|
وإن أهلك فكل فتى سيلقى
|
|
من الأقدار متلفة حروجا
|
فكانت خديجة
رضي الله عنها أول من آمن برسول الله r، وقامت، فخفف الله بها عن رسول الله كثيرًا
مما يلقاه من أذية قومه، وهونت عليه أمر الناس، وما يكيدون له.
قال ابن القيم
رحمه الله:
«وما قال لها:
لقد خشيت على نفسي، قالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، ثم استدلت بما فيه من
الصفات الفاضلة، والأخلاق، والشيم، على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا، فعلمت بكمال
عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشيم الشريفة، تناسب
أشكالها من كرامة الله، وتأييده، وإحسانه، لا تناسب الخزي والخذلان، وإنما يناسبه
أضدادها، فمن ركبه الله على أحسن الصفات، وأحسن الأخلاق والأعمال، إنما يليق به
كرامته، وإتمام نعمته عليه، ومن ركبه على أقبح الصفات، وأسوأ الأخلاق والأعمال،
إنما يليق به ما يناسبها، وبهذا العقل والصديقية استحقت أن يرسل إليها ربها السلام
منه، مع رسوليه جبريل ومحمد r» ا.هـ من زاد المعاد.
وأُمر رسول
الله r أن يبشرها
ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب – والقصب اللؤلؤ المجوف – وهي رضي الله
عنها أول امرأة تزوجها النبي r، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم يتزوج
عليها، وكل أولاده منها، ما عدا إبراهيم.
ثم إن النبي r استمر في
الدعوة إلى الله، وآمن به أبو بكر t، وعلي ابن أبي طالب، وكان أبو بكر محببًا في
مجتمعه، ومألوفًا بينهم، فكان يدعو إلى الإيمان ومتابعة الرسول، فآمن عثمان بن
عفان، وسعد بن أبي وقاس، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد
الله y أجمعين، وهؤلاء بشرهم رسول الله r بالجنة.
وكان أيضًا من
أول من آمن به r زيد بن
الحارثة، مولى رسول الله r، واستمر رسول الله r بدعوته، ودخل في دين الله أفراد من الناس،
وحصل لكثير منهم ابتلاء وامتحان، كما حصل لبلال وعمار رضي الله عنهما وغيرهما من
أصحاب رسول الله r.
وقد شرع أصل
الصلاة للنبي r، وأراه
جبريل عليه السلام كيفية الوضوء، وذلك قبل الإسراء والمعراج.
قال مقاتل بن
سليمان: فرض الله أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي؛ لقوله
تعالى: {وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
قال ابن حجر
رحمه الله في فتح الباري: «كان r قبل الإسراء يصلي قطعًا، وكذلك أصحابه، ولكن
اختلف، هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل: إن الفرض كانت قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها».
وقال الإمام
النووي رحمه الله: «أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله قيام
الليل، بما ذكره في سورة المزمل، ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات
الخمس، ليلة الإسراء بمكة».
وقد كان النبي
r يدعو إلى
دين الله خفية، حتى نزل عليه قوله سبحانه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
قال ابن عباس
رضي الله عنهما: «لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي r على الصفا،
فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا
لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: أرأيتكم
لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما
جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا
لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ
وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1-2]» رواه البخاري.
وروى مسلم في
صحيحه عن أبي هريرة t قال: «لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله r قريشًا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني
كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار،
يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار
، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب
أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله
شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها».
ثم إنه r مضى، واستمر
في دعوته، وفي أمر الله، لا يرده شيء، ولا يثني عزمه كيد الكائدين، ولا معاندة
المشركين.
فلما رأت قريش
أن رسول الله r لا يعتبهم
من شيء أنكروه عليه من فراقهم، وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه،
وقام دونه يحميه، ويحوطه، فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف أهل مكة من قريش إلى
أبي طالب، فيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو سفيان، والعاص بن هشام،
وأبو جهل، والعاص بن وائل، في جماعة معهم، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب
آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما تخلي
بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب
قولًا رفيقًا، ورد عليهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه.
وجاء في رواية
السدى: أن أبا طالب بعث إلى رسول الله r، فلما دخل عليه، قال: يا ابن أخي؛ هؤلاء
مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وإلهك، قال: يا عم؛
أفلا ندعوهم إلى ما هو خير لهم، قال: وإلام تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا
بكلمة، تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي
وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها؟ قال r: تقولون: لا إله إلا الله، فنفر، وقال: سلنا
غيرها، قال r: لو جئتموني
بالشمس، حتى تضعوها في يدي، ما سألتكم غيرها، فقاموا من عنده غضابًا، وقالوا:
والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6].
رواه ابن أبي
حاتم وابن جرير وزواد: فلما خرجوا، دعا رسول الله r عمه إلى قول لا إله إلا الله، فأبى، وقال:
على دين الأشياخ، ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن
يَشَاءُ} [القصص: 56].
وقال مقاتل:
كان رسول الله r عند أبي
طالب، يدعوه إلى الإسلام، فجمعت قريش إلى أبي طالب، يريدون بالنبي سوءًا، فقال أبو
طالب: حين تروح الإبل، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها، دفعته إليهم، فقال في ذلك:
والله لن يصلوا إليك
بجمعهم
|
|
حتى أوسد في التراب
دفينا
|
فاصدع بأمرك ما عليك
غضاضة
|
|
وأبشر وقر بذاك منك
عيونا
|
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
|
|
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
|
وعرضت دينًا لا محالة
أنه
|
|
من خير أديان البرية
دينا
|
لولا الملامة أو حذار
مسبة
|
|
لوجدتني سمحًا بذاك
مبينا
|
ثم اشتدت
الأذية على الذين آمنوا برسول الله r، وأذن عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة
إلى الحبشة، ثم إن قريشًا اجتمعوا بدار الندوة، وقالوا: إن لنا في الذين عند
النجاشي ثأرًا، فاجمعوا أموالًا، وأهدوه للنجاشي؛ لعله يدفع إليكم من عنده من
أصحاب محمد، ولينتدب في ذلك رجلان من أهل رأيكم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن
الوليد، مع الهدية، وركبا البحر، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وسلما عليه،
وقالا: قومنا لك ناصحون، وإنهم بعثونا إليكم؛ لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك؛
لأنهم قوم رجل كذاب، خرج فينا بزعم أنه رسول الله، ولم يتبعه إلا السفهاء، فضيقنا
عليهم، وألجأناهم إلى شعب بأرضنا، لا يخرج منهم، ولا يدخل عليهم أحد، فقتلهم الجوع
والعطش، فلما اشتد عليهم الأمر، بعث إليك ابن عمه؛ كي يفسد عليك دينك، وملكك،
فاحذرهم، وادفعهم إلينا، لنكفيكهم، وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك،
ولا يحيونك بالتحية التي كنت تحيا بها، رغبة عن دينك.
فلما دعاهم
النجاشي، وحضروا، صاح جعفر بن أبي طالب بالباب: يستأذن عليك حزب الله.
فقال النجاشي:
مروا هذا الصائح، فليعد كلامه، ففعل، فقال: نعم، فليدخلوا بأمان، وذمة، فدخلوا،
ولم يسجدوا له.
قال: ما منعكم
أن لا تسجدوا لي؟
قالوا: نسجد
لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا، ونحن نبعد الأوثان، فبعث الله
فينا نبيًا صادقًا، وأمرنا بالتحية التي رضيها، وهي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف
النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل.
فقال: أيكم
الهاتف يستأذن؟
قال جعفر:
أنا.
قال: فتكلم.
قال: إنك ملك
لا يصلح عندك كثرة الكلام، ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي من هذين
الرجلين، فليتكلم أحدهما، فتسمع كلامنا.
فقال عمرو بن
العاص لجعفر: تكلم.
فقال جعفر
للنجاشي: سله نحن عبيد أم أحرار؟ فإن كنا عبيدًا قد أبقينا من موالينا، فارددنا
إليهم.
فقال عمرو: بل
أحرار كرام.
فقال: هل
أرقنا دمًا بغير حق فيقتص منا؟
فقال: ولا
قطرة.
قال: فهل
أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟
قال عمرو: ولا
قيراط.
قال النجاشي:
فما تطلبون منهم؟
قال: كنا وهم
على دين واحد، على دين آبائنا، فتركوا ذلك، واتبعوا غيره.
فقال النجاشي:
ما هذا الذي كنتم عليه والذي اتبعتموه؟ اصدقني.
فقال جعفر:
أما الذي كنا عليه فتركناه، فهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما
الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام، جاءنا به من الله رسول، وكتاب مثل كتاب
ابن مريم، موافقًا له.
فقال النجاشي:
تكلمت بأمر عظيم، فعلى رسلك، ثم أمر بضرب الناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب.
فقال: أنشدكم
الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيًا مرسلًا؟
قالوا: اللهم
نعم، قد بشرنا به عيسى، وقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي.
فقال النجاشي
لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ وماذا يأمركم به؟ وماذا ينهاكم عنه؟
قال: يقرأ
علينا كتاب الله، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة
الرحم، وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له.
فقال: اقرأ ما
يقرأ عليكم، فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم، ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من
الدمع.
فقال: زدنا من
هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم سورة الكهف.
فأراد عمرو أن
يغضب النجاشي، فقال: إنهم يسبون عيسى وأمه، فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على
ذكر عيسى وأمه، رفع الجاشي نفاثة من سواكه، قدر ما يقذى العين، فقال: والله ما زاد
المسيح على ما يقول هؤلاء نقدًا.
قال ابن
إسحاق: فلما قال ذلك، تناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم
بأرضي – والسيوم: الآمنون – من سبكم غرم، فلا هوادة اليوم على حزب إبراهيم، ما أحب
أن لي دبرًا من ذهب، وأني آذيت رجلًا منكم والدبر بلسان الحبشة الجبل ثم قال
مشيرًا إلى وفد قريش: ردوا عليهم هداياهم، فلا حاجة لي فيها، فوالله ما أخذ الله
مني رشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا
مقبوحين، مردودًا عليهما ما جاءا به.
وفي هذه القصة
نزلت: {وَإِذَا
سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:
83].
وفي الصحيحين
عن أبي هريرة t: «أن رسول
الله r نعى النجاشي
في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، فكبر أربع تكبيرات، وقال: استغفروا
لأخيكم، وذلك في رجب سنة تسع من الهجرة».
ثم لم تزل
قريش تصب أنواع الأذى على كل من آمن بالرسول r، إلا من كان له من يحميه، ولم يزل r يعرض نفسه
على قبائل العرب؛ لعله يجد من ينصره ويؤويه.
ولما هال
قريشًا كثرة من يؤمن بالله ورسوله، رغم شدة تعذيبهم، وأفزعهم ذلك، ساوموه r أن يترك
الدعوة إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، ويتنازل عنها، ويعطوه ما يريد من أموال
ونساء، ويملكوه عليهم إن شاء، والرسول لا يزيده ذلك إلا صلابة، وتصميمًا على
دعوته، والجهر برسالته، رسالة التوحيد، والكفر بما يعبد من دون الله، فلما يأسوا،
عزموا على قتله، وهددوه مرارًا، وأنذروا عمه تكرارًا.
ثم إن أبا
طالب خشي منهم على محمد r، فجمع عشيرته، وكل من يلتف بهم، ممن آمن
بمحمد r، أو لم
يؤمن، إلا أنه لا يرضى أن يناله سوءًا، فدخلوا في شعب بني هاشم؛ ليحافظوا على رسول
الله من فتك الأعداء به.
ثم لما رأت
قريش منهم هذا، وعلموا شدة تحزبهم، وتكاتفهم من أجل حماية رسول الله r، اجتمعوا،
وائتمروا أن يكتبوا كتابًا على بني هاشم، وبني عبد المطلب ألا ينكحوا إليهم، ولا
يناكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا لهم صلحًا أبدًا،
ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموا رسول الله r للقتل، وكتبوا ذلك في صحيفة، وعلقوها في جوف
الكعبة، فأقاموا على ذلك سنتين، وقيل ثلاث سنين، حتى اشتد على رسول الله r ومن معه
البلاء، والجوع، والعطش، وكانت أصوات النساء والصبيان تسمع من داخل الشعب، يتضاغون
من الجوع، وعظمت الفتنة، وزلزلوا زلزالًا شديدًا.
ثم إن أبا
طالب أنشد قصيدته اللامية المشهورة في ذلك التي أولها:
ولما رأيت القوم لا ود
فيهم
|
|
وقد قطعوا كل العرى
والوسائل
|
وقد صارحونا بالعداوة
والأذى
|
|
وقد طاوعوا أمر العدو
المزايل
|
وقد حالفوا قومًا علينا
أظنة
|
|
يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
|
وقال فيها:
كذبتم وبيت الله نبزى
محمدا
|
|
ولما نطاعن دونه ونناضل
|
ونسلمه حتى نصرع حوله
|
|
ونذهل عن أبنائنا
والحلائل
|
ويقول فيها:
وما ترك قوم لا أبا لك
سيدًا
|
|
يحوط الذمار غير ذرب
مواكل
|
وابيض يُستسقي الغمام
بوجهه
|
|
ثمال اليتامى عصمة
للأرامل
|
تلوذ به الهلاك من آل
هاشم
|
|
فهم عنده في رحمة وفواضل
|
ويقول فيها:
لعمري لقد كُلفت وجدًا
بأحمد
|
|
وإخوته دأب المحب
المواصل
|
فمن مثله في الناس أي
مؤمل
|
|
إذا قاسه الحكام عند
التفاضل
|
حليم رشيد عادل غير طائش
|
|
يوالي إلهًا ليس عنه
بغافل
|
فوالله لولا أن أجيء بسبة
|
|
تجر على أشياخنا في
المحافل
|
لكنا اتبعناه على كل
حالة
|
|
من الدهر جدًا غير قول
التهازل
|
لقد علموا أن ابننا لا
مكذَّب
|
|
لدينا ولا يعني بقول
الأباطل
|
فأصبح فينا أحمد في
أرومة
|
|
تُقصِّر عنه سورة
المتطاول
|
حدبت بنفسي دونه وحميته
|
|
ودافعت عنه بالذرا والكلاكل
|
ثم إن محمدًا r أخبر عمه
بأن صحيفة قريش أكلتها الأرضة، إلا ما كان فيها من اسم الله، واجتمع ملأ من عقلاء
قريش، وسعوا في نقض هذه الصحيفة، وأخبرهم أبو طالب بمقالة رسول الله r، فلما
أخذوها، وجدوها كما أخبرهم، وهذه معجزة من معجزاته r.
ثم لم يلبث
أبو طالب أن مات، ثم ماتت خديجة زوجة النبي r، وذلك في عام واحد، فحزن r عليهما
حزنًا شديدًا، فسمي ذلك العام عام الحزن، واشتد أذى قريش للنبي r.
وقد جاء عن
ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أن النبي r خرج وحده إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة،
فقصد عبد ياليل، ومسعودًا وحبيبًا، وهم إخوة بني عمرو بن عمير، وعندهم امرأة من
قريش، من بني جمح، فدعاهم إلى الإيمان، وسألهم أن ينصروه على قومه، فقال أحدهم هو
يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر:
ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك!!
وقال الثالث:
والله لا أكلمك أبدًا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك
الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك.
ثم أغروا به
سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه، ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط
لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فقال للجمحية: ماذا لقينا من أحمائك؟!
ثم قال: اللهم
إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب
المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم
يكن بك غضب علي، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلمات من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا
قوة إلا بك.
فلما رآه ابنا
ربيعة عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا، يقال له
عداس، فقالا له: خذ قطفا من العنب، وضعه في هذا الطبق، ثم ضعه بين يدي هذا الرجل.
فلما وضعه بين
يدي رسول الله r، قال النبي r: باسم الله،
ثم أكل.
فنظر عداس إلى
وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.
فقال النبي r: من أي
البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوي.
فقال له النبي
r: أمن قرية
الرجل الصالح يونس بن متى؟
فقال: وما
يدريك ما يونس بن متى؟
قال: ذاك أخي،
كان نبيًا، وأنا نبي.
فانكب عداس
حتى قبل رأس النبي r ويديه ورجليه.
فقال له ابنا
ربيعة: لم فعلت هكذا؟
فقال: يا سيدي
ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.
ثم رجع r إلى مكة،
وقد أصابه ما أصابه من الهم والغم؛ بسبب تكذيبهم لهم، وشدة نفورهم عن الحق.
ثم إن الله جل
وعلا أرسل له جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبال، وسلم عليه ملك الجبال، وقال: إن
الله أرسلني إليك؛ لتأمرني بأمرك، فإن أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين – يعني جبلي
مكة على أهلها – فعلت، فقال رسول الله r: لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا
يشرك به.
ثم لم يزل r مستمرًا
بالدعوة إلى الله، والمسلمون يتزايدون، مع ما يلاقون من الشدة من قريش.
ثم أسرى به r من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، وفرض الله عليه الصلوات الخمس،
ثم لما أصبح، وأخبر قريشًا بما رأى من آيات الله، اشتد تكذيبهم وازدادوا عتوا
ونفورا، واستمروا في الأذية، بل زادوا عليها، وكان ذلك قبل الهجرة.
ثم إنه r يعرض نفسه
في مواسم الحج على القبائل، وأراد الله سبحانه الخير الكثير، والشرف الرفيع،
والذكر الحسن، والأجر العظيم لأهل المدينة، فقبلوا دعوته، وآمنوا به، وطلبوا أن
يبعث معهم من يعلمهم، ويرشدهم، ففعل r، وانتشر الإسلام في المدينة، وصارت دار
هجرة، وجعل أصحاب رسول الله يهاجرون إليها، حتى أذن الله لرسوله في الهجرة إليها،
فهاجر، واستقر مقامه r فيها، وبني مسجده، وحجر نسائه حول المسجد،
وذلك بعد مضي ثلاثة عشر عامًا من نزول الوحي عليه.
واجتمع إليه
المهاجرون والأنصار، وأقام الصلوات الخمس والجمعة في مسجده، وزيد في صلاة الحضر
ركعتين، وكانت قبل ذلك ركعتين ركعتين، كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله
عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم جاء r المدينة، ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر
على الفريضة الأولى».
وشرع الأذان
للصلوات الخمس بالمدينة، بالرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد t، وقال رسول الله r: إنها لرؤيا حق، وأمره أن يلقيه على بلال t؛ لكونه أندى
صوتًا منه.
ثم تلاحق
المهاجرون إلى رسول الله r، ولم يبق بمكة إلا من لم يستطع الهجرة، أو
ممن كان مفتونًا بماله ووطنه، ولم يزل الأذى من قريش يتكرر على من في مكة، أو ممن
هاجر إلى المدينة، فإنه لما هاجر بنو جحش، وخلت دارهم منهم، قام أبو سفيان،
فباعها، فلما بلغ ذلك عبد الله بن جحش الرسولr، فقال له: أما ترضى يا عبد الله أن يعطيك
الله بها دارًا بالجنة؟ قال: بلى. قال: ذلك لك.
وكان الأنصار y فرحوا برسول الله غاية الفرح، والاستبشار، فقالوا في ذلك الأشعار، غبطة
وسرورًا برسول الله r، ومن جملة ذلك ما قاله أبو قيس، صرمة ابن
أبي أنس، حين أسلم، يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول
الله عليهم:
ثوى في قريش بضع عشرة
حجة
|
|
يذكر لو يلقى حبيبا
مواتيًا
|
ويعرض في أهل المواسم
نفسه
|
|
فلم ير من يؤي ولم ير
داعيا
|
فلما أتانا أظهر الله
دينه
|
|
فأصبح مسرورًا بطيبة
راضيا
|
وألفى صديقًا واطمأنت به
النوى
|
|
وكان له عونًا من الله
باديا
|
يقص لنا ما قاله نوح
لقومه
|
|
وما قال موسى إذ أجاب
المناديا
|
وأصبح لا يخشى من الناس
واحدا
|
|
قريبًا ولا يخشى من
الناس نائيا
|
بذلنا له الأموال من حل
مالنا
|
|
وأنفسنا عند الوغى
والتآسيا
|
ونعلم أن الله لا شيء
غيره
|
|
ونعلم أن الله أفضل
هاديا
|
ونعلم أن الله لا رب
غيره
|
|
وأن كتاب الله أصبح
هاديا
|
نعادي الذي عادى من
الناس كلهم
|
|
جميعًا وإن كان الحبيب
المصافيا
|
ثم إن رسول
الله r أُذن له
بالقتال، وكان قبل ذلك لم يُؤذن له، بل كان يؤمر بالصفح والإعراض عن الجاهلين، لكن
لما استقر بالمدينة، وقويت الشوكة، أُذن لهم بالقتال، ولم يفرض عليهم، بل أنزل
الله على رسوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
قال ابن عباس،
ومجاهد، وعروة بن الزبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وغيرهم: هذه أول
آية نزلت في الجهاد، وعلل الأذن لهم بذلك، بأنهم ظلموا، وكانوا قبل ذلك يأتون
النبي r، ما بين
مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، حتى هاجر، فأُذن له في القتال.
قال بعض
العلماء: أُذن له r بالقتال، بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين
آية.
وقال بعض
العلماء: إن هذا الإذن كان بمكة، والسورة مكية، وهذا غلط لوجوه:
أحدها: أنه لم
يكن لهم شوكة، يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثاني: أن
سياق الآية يدل على أن الإذن بالقتال حصل بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإن
الله تعالى قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:
39-40].
والثالث: أن
خاطبهم في آخرها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، والخطاب بذلك كله مدني، وأما الخطاب بـ(يا
أيها الناس) فمشترك، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم، دون من لم يقاتلهم،
فقال تعالى: {وَقَاتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:
190]، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة.
ومن هنا يتبين
لك أن الجهاد والقتال كان على مراحل تدريجية في شريعته r، فإنه كان محرمًا وقت ضعف المسلمين وقلتهم،
ثم لما قويت شوكتهم أذن لهم به إذنًا دون إيجاب، ثم لما كانت الشوكة أشد، وأقوى،
أمروا أمر إيجاب لمن بدأهم بالقتال، ثم أمروا أن يقاتلوا المشركين حتى يكون الدين
كله لله.
وقد كان r قائمًا
بأنواع الجهاد كلها: جهاد الكفار، وجهاد المنافقين، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس.
وقد بين
الإمام ابن القيم رحمه الله هذه الأنواع في كتابه زاد المعاد، وأوضح أن المرتبة
الأولى هي جهاد النفس، وهي على أربع مراتب:
أحدها: أن يجاهد نفسه على تعلم الهدى.
الثانية: العمل به بعد علمه.
الثالثة: جهادها على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما
أنزل الله من البينات.
الرابعة: جهادها على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله.
المرتبة
الثانية: جهاد الشيطان من الشبهات، وهذا الجهاد على مرتبتين: جهاد على دفع ما يلقي
الشيطان من الشبهات، وجهاد على دفع ما يلقي في القلب من الشهوات، فيدفع الشبهات
بيقينه، ويدفع الشهوات بصبره، كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
المرتبة
الثالثة من مراتب الجهاد: جهاد الكفار والمنافقين، وهذا يكون بالقلب، واللسان،
والمال، والنفس، وجهاد الكفار باليد أخص، وجهاد المنافقين باللسان أخص.
والمرتبة
الرابعة من أنواع الجهاد: جهاد أرباب الظلم، والمنكرات، والبدع، وهذا على ثلاث
مراتب: الأول باليد مع القدرة، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب.
ولقد كان r مستغرقًا
وقته في جميع أنواع الجهاد، فكان يجاهد الكفار بنفسه، ويبعث السرايا، وينظم
الجيوش، ويجادل أهل الكتاب، ويدعوهم إلى الإسلام، ويعظ المنافقين، ويدعوهم إلى
السبيل الأقوم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويصبر على ما يلقاه من المشركين، ومن أهل
الكتاب، ومن المنافقين من الأذى، ويصبر على ذلك كله صلوات الله وسلامه عليه.
تحميل كتاب دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته ووجوب محبته ونصرته PDF من هنا