التمهيد
مذهب السلف في
صفات الله تعالى
السلف الصالح ملتزمون بمصدري التلقي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله r، وبخاصة في
باب أسماء الله وصفاته، لأنه لا أحد أعلم بالله جل وعلا من نفسه تعالى، رسوله r أعلم الخلق
بربه.
ولذا قام مذهب السلف في صفات الله تعالى على قواعد عظيمة، أهمها ما يلي:
1- أن صفات الله عز وجل توقيفية، فلا يثبت منها إلا ما أثبته الله تعالى
لنفسه، أو ما أثبته له رسوله r، ولا ينفى عن الله عز وجل إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله r، وكل صفة
ثبتت بالنقل الصحيح وافقت العقل الصريح ولابد.
والألفاظ التي لم يرد فيها إثبات ولا نفي في الكتاب والسنة يتوقف فيها،
وأما معانيها فيستفصل عنها، فإن أريد بها معنى باطلاً وجب تنزيه الله عنها، وردها
لفظاً ومعنى، وإن أريد بها معنى حقاً قبل المعنى، ولكن يعبر عنه بالألفاظ الشرعية
بدل الألفاظ المجملة([1]).
2- أن صفات الله تعالى الثابتة له في الكتاب والسنة يؤمن بها من غير تحريف
ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وكذلك نفي الصفات المنفية عنه سبحانه في الكتاب والسنة، تنفى عن الله
تعالى، ويؤمن بتنزيه الله عنها، مع اعتقاد ثبوت كمال ضدها لله تعالى ([2]).
3- أن صفات الله تعالى معلومة الألفاظ والمعاني، مجهولة الكيفيات، فكل صفة
ثابتة في الكتاب والسنة يؤمن بلفظها الثابت، وبمعناها كما يعرف في لغة العرب، مع
قطع الطمع عن إدراك حقيقة الكيفية ([3]).
4- أن صفات الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة جاءت مفصلة، مثل: السمع
والبصر، والغيرة، ونحو ذلك، أما نفي النقص عن الله تعالى فجاء مجملاً ([4])، قال تعالى: }لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ [الشورى: 11].
5- صفات الله تعالى كلها كمال، لا نص فيها بوجه من الوجوه ([5]).
6- أن دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة تكون:
- إما بالتصريح بها، مثل: الوجه، واليدين، والرحمة.
- أو تضمن الاسم لها، مثل: البصير متضمن إثبات البصر، والسميع متضمن إثبات
السمع.
- أو التصريح بفعل أو وصف دال عليها، مثل: }الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{ [طه: 5] دال على إثبات صفة الاستواء، وهكذا ([6]).
7- أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن الله تعالى له ذات لا
تماثل الذوات، فكذلك له صفات لا تماثل الصفات، وكما أن إثبات الذات إثبات وجود، لا
إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات ([7]).
وأيضاً فإن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فمن آمن ببعض صفات
الله كالسمع والبصر والقدرة، مثلاً، وجب عليه الإيمان ببقية صفات الله الثابتة له،
كالمحبة والرضا والغضب والغيرة، ونحو ذلك ([8])، "ومن فرق بين صفة وصفة، مع تساويها في أسباب الحقيقة والمجاز، كان
متناقضاً في قوله، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر
ببعض"([9]).
8- أن صفات الله تعالى نوعان:
- صفات ذاتية، متعلقة بذات الله تعالى لا تنفك عنه بحال، مثل الوجه واليدين
والأصابع، ونحو ذلك.
- وصفات فعلية، متعلقة بأفعال الله وإرادته ومشيئته، كالنزول والاستواء،
ونحو ذلك من صفات الله الفعلية التي لا منتهى لها ([10]).
هذه هي أهم معالم وقواعد مذهب السلف في إيمانهم بصفات الله عز وجل، أسأل
الله تعالى أن يهدينا إلى صحة المعتقد، وسلامة المنهج، واستقامة العمل على أمره.
المبحث الأول
تعريف الغيرة
الغيرة: مصدر من الفعل غار، تقول غار الرجل على أهله، وغار الرجل على
امرأته، والمرأة تغار على زوجها غيرة وغيْرا وغاراً وغِياراً.
ويقال: امرأة غيور، ورجل غيور، هو فعول من الغيرة، وهي: الحمية والأنفة.
والمغيار: الشديد الغيرة ([11]).
وهذه الحمية والأنفة مبنية على الإصلاح والمنفعة، وهي أصل معنى كلمة (غير)،
يقول ابن فارس (ت 385هـ): "غير: الغين والراء والياء أصلان صحيحان، يدل
أحدهما على صلاح وإصلاح ومنفعة، والآخر على اختلاف شيئين.
فالأول الغيرة، وهي الميرة، بها صلاح العيال، يقال: غرت أهلي غيرة وغيارا،
أي مِرْتُهم، وغارهم الله تعالى بالغيث يغيرهم ويغورهم: أي أصلح شأنهم ونفعهم،
ويقال: ما يغيرك كذا، أي ما ينفعك، ومن هذا الباب الغيرة: غيرة الرجل على أهله،
تقول: غرت على أهلي غيرة، وهذا عندنا من الباب، لأنها صلاح ومنفعة" ([12]).
وقال النووي (ت 676هـ): "قال العلماء: الغيرة بفتح الغين، وأصلها
المنع، والرجل غيور على أهله، أي منعهم من التعلق بأجنبي، بنظر أو بحديث، أو
غيره"([13])، ولا شك أن الغاية من هذا المنع المنفعة والمصلحة للمانع والممنوع.
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): أن "الغيرة إما من تغير
الغائر، وإما من مزاحمة الغير"([14]).
وقال ابن حجر (ت 852هـ): "الغيرة، بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة
تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين"([15]).
وقال ابن القيم (ت 756هـ): "والغيرة، نوعان: غيرة من الشيء، وغيرة على
الشيء، والغيرة من الشيء هي: كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك.
والغيرة على الشيء هي: شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك، أو
يشاركك في الفوز به" ([16])، بل قد توسع المتأخرون في اصطلاح الغيرة، حتى أدخلوا فيه أموراً كثيرة،
لعل من أشهرها: الغيرة المتضمنة للمنافسة والحسد، مثل أن يغار أحدهم إذا رأى أحداً
سبقه إلى الحق، أو نال منه نصيباً وافراً، ونحو ذلك ([17]).
هذا هو تعريف الغيرة في أصل اللغة، وفي اصطلاح بعض الناس، بناء على ما فهمه
من أصل الكلمة.
أما الغيرة في الاصطلاح الشرعي فهي: الحمية والأنفة الناهية عن انتهاك
محارم الله وإتيان الفواحش، وصيانة الأمة ودينها من ذلك، وهي الغيرة في ريبة ([18]).
وهناك غيرة خاصة بالعبد، وهي حميته وأنفته ومنعه من مشاركة الغير في أهله ([19]).
وسيأتي بعد ذلك ذكر معنى صفة الغيرة التي هي إحدى صفات الله تعالى.
المبحث الثاني
أدلة ثبوت صفة
الغيرة لله تعالى وأقوال العلماء في ذلك
المطلب الأول: أدلة ثبوت صفة الغيرة لله
تعالى:
الغيرة صفة من الصفات الفعلية الثابتة لله تعالى، تليق بجلاله وعظمته، نؤمن
بها لفظاً ومعنى، وأنها لا تشبه صفة الغيرة للمخلوقين من أي وجه من الوجوه.
وقد دل على ثبوتها أحاديث صحيحة صريحة من قول الرسول r، ومن ذلك ما يلي:
1- عقد البخاري في صحيحه باباً بعنوان: "باب قول النبي r: «لا شخص أغير من الله»، ثم ساق بسنده حديثاً إلى سعد بن عبادة أنه قال: لو
رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ([20])، فبلغ ذلك رسول الله r فقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل
غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن
أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك
وعد الله الجنة»([21]).
قال عبد الله الغنيمان: "ومقصد البخاري أن هذين الاسمين (الشخص
والغيرة) يطلقان على الله تعالى وصفاً له، لأن الرسول r أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله تعالى"([22]).
2- وعقد البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب آخر باباً هكذا: "باب الغيرة،
وقال وراد عن المغيرة، قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف
غير مصفح، فقال النبي r: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني»([23])! ثم ساق تحت هذا الباب أحاديث، غير السابق، منها:
3- ما أخرجه بسنده عن عبد الله بن مسعود t،
عن النبي r أنه قال: «ما من أحد أغير
من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله»، وفي لفظ: «ما
أحد أغير من الله، ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن...»([24]).
4- وما أخرجه بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول
الله r قال: «يا أمة محمد، ما أحد
أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم
قليلاً ولبكيتم كثيراً»([25]).
5- وما أخرجه بسنده عن أبي سلمة أن عروة بن الزبير حدثه
عن أمه أسماء ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله r
يقول: «لا شيء أغير من الله»([26]).
6- وما أخرجه بسنده عن أبي هريرة t
عن النبي r أنه قال: «إن الله يغار،
وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله»([27]).
7- عقد الإمام مسلم (ت 261هـ) باباً في صحيحه بعنوان:
"باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش"، وساق تحته ثلاثة أحاديث، هي:
حديثا عبد الله بن مسعود، وأسماء بنت أبي بكر، سابقا الذكر، بألفاظ مقاربة لما
أخرجه البخاري ([28])، وحديث أبي هريرة t
قال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي
بأربعة شهداء؟ قال رسول الله r: «نعم»، قال: كلا والذي
بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله r:
«اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني»([29]).
وذكر ابن القيم أن الغيرة منزلة من منازل }إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ [الفاتحة: 5]، ثم استدل عليها
بآيتين من القرآن الكريم، ذكر الأولى، وهي قوله تعالى: }قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ{ [الأعراف: 33]، وأتبع هذه
الآية بذكر ثلاثة أحاديث صحيحة في إثبات صفة الغيرة.
ثم ذكر الآية الثانية فقال: }وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا{ [الإسراء: 45]([30])، ووجه ذلك أن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلاً لفهم
كلامه، ولا أهلاً لمعرفته وتوحيده ومحبته، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده
حجاباً مستوراً، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلاً له ([31]).
وابن كثير (ت 774هـ) ـ رحمه الله ـ ذكر الآية السابقة من
سورة الأعراف، واستدل عليها بحديث عبد الله بن مسعود، الذي فيه صفة الغيرة، وهو
قوله r: «لا أحد أغير من الله،
فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله...»([32])، كما أنه رحمه الله ذكر هذا الحديث، وحديث قصة سعد بن عبادة،
وحديث أبي هريرة، هذه الأحاديث الثلاثة في الغيرة ذكرها عند تفسيره لقوله تعالى: }وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ{ [الأنعام: 151]([33]).
وقبله البغوي (ت 516هـ) ساق أحد أحاديث الغيرة عند
تفسيره للآية السابقة من سورة الأعراف ([34]).
والآية الثانية، التي استدل بها ابن القيم ـ أعني آية
الإسراء ـ استدل بها بعض أهل التصوف أيضاً على الغيرة ([35]).
وقد تعقب استدلالهم بها شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ)
ذاكراً أن الغيرة التي ذكرها النبي r هي: "غيرة على ما هو من
أفعال العبد التي نهى عنها، وأما هذه الغيرة (التي استدلوا بالآية عليها) فهي غيرة
على ما هو من فعل الرب، والنبي r لم يصف الله بأنه يغار على ما
يقدر عليه من الأفعال"([36]).
المطلب الثاني: بعض أقوال أهل العلم في
صفة الغيرة لله تعالى:
لم يختلف السلف، أهل السنة والجماعة، في ثبوت صفة الغيرة لله تعالى،
والإيمان بها، مع تفويض كيفيتها، ومن أقوالهم في ذلك:
قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني (ت 535هـ) في بيانه لمذهب أهل السنة
في صفات الله تعالى: "وجميع آيات الصفات التي في القرآن، والأخبار الصحاح في
الصفات التي نقلها أهل الحديث، واجب على جميع المسلمين أن يؤمنوا بها، وسلموها،
ويتركوا السؤال فيه وعنه، لأن السؤال في غوامضها بدعة... مثل: النفس، والبدن،
والسمع، والبصر، والكلام... وغيرة الله تعالى، وفرحه بتوبة العبد، وغير ذلك مما صح
عنه وثبت، فعلى العبد أن يؤمن بجميع ذلك، ولا يؤوله تأويل المخالفين، ولا يمثله تمثيل
الممثلين، ولا يزيد فيه، ولا ينقص عنه، ولا يفسر منه إلا ما فسره السلف، ويمره على
ما أمروا، ويقف حيث وقفوا، لا يقول: كيف، ولم؟ يقبل ما قبلوه، ولا يتصرف فيه تصرف
المعتزلة والجهمية، هذا مذهب أهل السنة، وما وراء ذلك بدعة وفتنة، ثبتنا الله على
الطريقة المستقيمة بمنه وفضله"([37]).
وقال أبو يعلى الفراء (ت 458هـ)، بعد أن ذكر حديثين في الغيرة: "اعلم
أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: إطلاق صفة الغيرة عليه.
والثاني: في إطلاق الشخص.
أما الغيرة، فغير ممتنع إطلاقها عليه سبحانه، لأنه ليس في ذلك ما يحيل
صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأن الغيرة هي الكراهية للشيء وذلك جائز في صفاته،
قال تعالى: }وَلَكِنْ
كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ{ [التوبة: 46]"([38]).
ولعل مراده رحمه الله أن مما تتضمنه الغيرة لشيء كراهته.
فالغيرة ليست هي البغض والكراهة، بل مما تتضمنه الغيرة البغض والكراهة،
يقول ابن القيم (ت 751هـ): "وجمع r في الحديث بين ما يحبه ويبغضه، فإنه قال فيه: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك
حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك
مدح نفسه»، فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة، فأخبر أنه لا أحد أغير منه، وأن
من غيرته حرم الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه"([39]).
وبعد ذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) حديث ابن
مسعود في الغيرة: «ما أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها
وما بطن، وما أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه»، وفي رواية: «وليس
أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل»([40])، بعد أن ذكر هذا الحديث قال رحمه الله: "جمع النبي
r في هذا
الحديث بين وصفه سبحانه بأكمل المحبة للممادح، وأكمل البغض للمحارم"([41]).
ثم قال - بعد أن ساق جملة من الأحاديث في الغيرة -: "فالغيرة المحبوبة
هي ما وافقت غيرة الله تعالى، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وهي أن تؤتى
الفواحش الباطنة والظاهرة"([42]).
ثم قال ـ رحمه الله ـ مبيناً معنى "غيرة الله تعالى":
"وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، وغيرته أن يزنى عبده أو تزني أمته...
الغيرة التي وصف الله بها نفسه إما خاصة: وهي أن يأتي المؤمن ما حرم عليه، وإما
عامة: وهي غيرته من الفواحش، ما ظهر منها وما بطن"([43]).
والنصوص الدالة على ثبوت صفة الغيرة لله تعالى، تدل على أن معنى تلك الصفة
لله جل وعلا: غيرته أن يأتي المؤمن ما حرم عليه، وغيرته أن يزني عبده أو تزني
أمته، ومن غيرته أن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهذه الغيرة أخص من مطلق
البغض والمقت والسخط ([44]).
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) عن أبي الحسن محمد بن عبد الملك
الكرجي الشافعي، مقرراً قوله بأن من صفات الله الثابتة له عز وجل: "الغيرة،
الكراهة، والسخط"، هذا هو الشاهد: ذكره صفة الغيرة لله جل وعلا، وإلا فقد عدد
صفات كثيرة ([45]).
ويقرر شيخ الإسلام صفة الغيرة لله تعالى في موضع آخر، فيقول: "يذم من
لا غيرة له على الفواحش كالديوث، ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين،
ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش، وحمية يدفع بها الظلم، ويعلم أن هذا أكمل من
ذلك.
ولهذا وصف النبي r الرب بالأكملية في ذلك، فقال في الحديث الصحيح: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك
حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن»([46])، وقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه، والله
أغير مني»([47]).
هذا هو معنى غيرة الله تعالى، فإن قيل: هل يدخل كل ذنب
في ما يغار الله منه، سواء أكان ترك واجب أو فعل محرم؟
فإنه يقال: "هذا المعنى حسن موافق للشريعة، فإن
الله يبغض ذلك ويمقته، فيكون لفظ الغيرة مرادفاً للفظ البغض والمقت والسخط، لكن هو
أعم مما يظهر في عرف الشارع، حيث جعل غيرته أن يأتي المؤمن ما حرم عليه، وجعل
غيرته أن يزني عبده أو تزني أمته، ومن غيرته أن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وهذه الغيرة أخص من مطلق البغض، إلا أن يقال ترك
للشريعة، وأما تسميته غيرة فهو أمر اصطلاحي، والنزاع فيه لفظي"([48]).
ومما يجب التنبيه عليه أن: "غيرة الله تعالى من جنس
صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل
الغضب والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها"([49]).
والضابط في ذلك أنه إذا صح الدليل من كتاب الله تعالى أو
سنة رسوله r، وجب اعتقاده والعمل به والقول
بموجبه، سواء أكان في مسائل الاعتقاد، أو في العبادات أو في المعاملات، وقد صح
الدليل وثبت في وصف الله تعالى بأنه يغار، فوجب إثبات هذه الصفة لله تعالى.
يقول عبد العزيز بن باز في تعليقه على كلام لابن حجر:
"المحال عليه سبحانه وتعالى وصفه بالغيرة المشابهة لغيرة المخلوق، وأما
الغيرة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى فلا يستحيل وصفه بها، كما دل عليه هذا
الحديث، وما جاء في معناه، فهو سبحانه يوصف بالغيرة عند أهل السنة على وجه لا
يماثل فيه المخلوقين، ولا يعلم كنهها وكيفيتها إلا هو سبحانه، كالقول في الاستواء
والنزول والرضا والغضب، وغير ذلك من صفاته سبحانه، والله أعلم"([50]).
وقد أحسن النووي (ت 676هـ) ـ رحمه الله ـ حين قال:
"والغيرة صفة كمال"([51])، إلا أنه أخطأ في تفسيره لمعنى غيرة الله تعالى حين
قال: "أخبر r أن سعداً غيور، وأنه أغير منه،
وأن الله أغير منه، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله
تعالى: أي أنها منعه سبحانه وتعالى الناس من الفواحش"([52])، وقال في موضع آخر: "غيرته منعه وتحريمه" ([53]).
فهذا تعريف ناقص، إذ "ليس هذا هو غيرة الله تعالى،
ولكنه من مقتضى الغيرة، كما يوضحه قوله: "ومن أجل غيرة الله حرم
الفواحش"، فبين أن تحريم الفواحش، والمنع منها ليس هو الغيرة، وإنما هو من
آثارها"([54]).
تحميل كتاب صفة الغيرة لله تعالى دراسة في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة PDF من هنا