ونقض اليهود العهد
الشياطين جنود إبليس من الجنِّ , واليهود جنود إبليس من
الإنس, وكفار اليهود رأس البلاء في العالم منذ أن خلقوا، فهم الذين حرَّضوا
المشركين في مكة على حرب رسول الله r حتى زخف إلى المدينة المنورة عشر آلاف سيفٍ
يريدون إبادة المسلمين.
كان ذلك فى السنة الخامسة من الهجرة، وكان بين الرسول r وبين اليهود لعنهم الله تعالى عهدٌ نقضوه لما جاءت جيوش المشركين، بل أعانوهم
سرًّا بالمال والطعام وعلف الدوابِّ والسلاح…
وعنايه الله كانت تحفظ نبيَّه r والمسلمين فردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا.
وبقيت الأفعى اليهودية بعد نقض العهد.
الملائكة ما وضعت السلاح:
وصرف الله الأحزاب عند الخندق، فعاد رسول الله r إلى المدينة،
فلما حان الظهر أتى جبريل رسول الله r فقال هل وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم»
فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، إنَّ الله يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة،
فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم.
فأمر رسول الله r مؤذنًا فأذَّن في الناس: «من كان سامعًا
مطيعًا فلا يصلِّينَّ العصر إلا في بني قريظة».
إلى بني قريظة:
أسرع الصحابه
الكرام رضوان الله عليهم إلى بني قريظة، والشمس مالت للزوال، وحان موعد أذان
العصر.. وموعد الصلاة، والصحابة تسير وتسير قال بعضهم: نخشى أن تفوتنا صلاة العصر
ولم نصل ديارهم، فصلَّو ثم تابعوا طريقهم إلى بني قريظة.
وقال منهم فريق: لا نصلي العصر إلا فى ديار بني قريظة، وغابت الشمس، واشتدَّ الظلام ووصلوا
فصلَّوا العصر، فلم يعنّف رسول الله r واحدًا من الفريقين.
في ديار بني قريظة:
وصل الجيش الإسلاميُّ إلى ديار بني قريظة، وكان عليُّ بن
أبى طالبٍ t قد تقدم الصحابة، وصاح باليهود فشتموه وذكروا رسول الله r بالقول السيء.
ولحق رسول الله r الصحابة إلى بني قريظة، فلما رآه عليٌّ مقبلاً
قال له: ارجع فإنَّ الله كافيك اليهود، فقال r لعلي: لماذا أرجع؟ فسكت عليٌّ، فقال r: «أظنُّك
سمعت لي منهم أذى، فامض فإنَّ أعداء الله قد رأوني لم يقولوا شيئًا مما سمعت»
ونزل رسول الله r على بئرٍ من
آبار بني قريظة يقال له: بئر أنَّا قريبًا من حصنهم، وكانوا في أعلاه فنادى بأعلى
صوته: «أجيبوني يا معشر يهود يا إخوان القردة قد نزل بكم خزي الله عزَّ وجلَّ».
فحاصرهم رسول الله r بكتائب الإيمان بضع عشر ليلةً، ودخل حيي بن
أخطب حصن بني قريظة، وهو من بني النضير، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتدَّ عليهم
الحصار.
كعب بن أسد:
لما حصر رسول الله r اليهود جمعهم كعب ابن أسدٍ وقال لهم: يا
معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارضٌ عليكم ثلاثة أمورٍ، فخذوا
منها ما شئتم. قالوا: وما هنَّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدِّقه، فوالله لقد تبين
لكم أنه لنبيُّ مرسلٌ. وأنه للذي تجدونه في كتابكم, فتأمنون به على دمائكم وأموالكم
وأبنائكم ونسائكم.
قالوا: لا نفارق
حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم
عليّ هذه، فتعالوا نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمدٍ وأصحابه بالسيوف حتى
يحكم الله بيننا وبين محمد.
قالوا: أنقتل
هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن الليلة ليلة السبت، وأنه عسى يكون
محمدٌ وأصحابه قد أمنونا فيها، فأنزلوا لعلنا نصيب من محمدٍ وأصحابه وهم في غفلةٍ
عنا.
قالوا: أنفسد
سبتنا؟
فقال: ما
بات رجلٌ منكم منذ ولدته أمُّه ليلةً واحدةً من الدهر حازمًا.
أبو لبابة t :
ثم بعثوا إلى رسول الله r أن ابعث إلينا أبا لبابه نستشيره في أمرنا، وكان
أبو لبابة حليفًا لهم.
فأرسله رسول الله r، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى إليه
النساء والصبيان فرقَّ لهم وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن تنزل على حكم محمدٍ؟ قال:
نعم. وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.
أدرك أبو لبابة أنه أخطأ بهذه الإشارة في حقِّ النبيِّ r وحقِّ
الإسلام والمسلمين؛ لأن هذه الإشارة ربَّما تعين اليهود على القتال إذا عرفوا أنهم
سيقتلون،ولما أدرك هذا الصحابيُّ الصادق الإيمان المحبُّ لله ورسوله وللمؤمنين، استحيا
أن يواجه الرسول r.
عاقب نفسه بأن ربط جسمه بالحبل في عمودٍ من أعمدة المسجد
وقال: لا أفكُّ نفسي حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت.
كان يأتي من يفكُّه وقت الصلاة فيصلي، ثم يعود إلى مربطه،
وبعد عشرين ليلةً تاب الله عليه فجاء إليه رسول الله r وفكَّ رباطه بيديه الشريفتين.
إسلام نفرٍ من يهود:
فى تلك الليلة التي نزل فيها اليهود على حكم رسول الله r أسلم فريقٌ
من يهود، هم:
ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد.
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي، فمرَّ بحرس
رسول الله r ورئيسهم
محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا
عمرو بن سعدى.
وكان عمرٌو قد أبَى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول
الله r وقال: لا
أغدر بمحمدٍ أبدًا، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهمَّ لا تحرمني إقالة عثراتِ
الكرام، ثم تركه فذهب ولم يعرف بعد ذلك له خبرٌ، فقال عنه رسول الله r «ذلك رجلٌ
نجاه الله بوفائه».
التحكيم:
فلما أصبح اليهود فى حصونهم، وهم محاصرون، ليس بيدهم حيلةٌ،
مشغولون بهموم أنفسهم ماذا سيكون مصيرهم؟ عند ذلك نزلوا على حكم رسول الله r يحكم فيهم
بما يشاء فقال بعض الأوس: إنهم يا رسول الله موالينا، وهم يعنون أن يخفف عنهم رسول
الله r الحكم.
وهذا عدم تقدير للموقف من بعض الأنصار رضي الله عنهم،
لأن المحارب إذا نقض العهد فحكمه القتل، وهنا تتجلى عظمة الرسول r في قوله: «يا
معشر الأوس: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجلٌ منكم؟» قالوا: بلى. قال:«فذلك سعد
بن معاذ». لا يمكن للتاريخ أن يعطي رسول الله r حقَّه من الثناء في هذا الموقف وفى كل موقف،
لأنه هو صاحب القرار r.
كان يمكن أن يعطي قراره بقتل اليهود، لكنه طيب خاطر
الأوس، واختار الرجل المناسب لهذا الحكم، فكيف كان حال سعد بن معاذٍ الحكم؟
في خيمة رفيدة رضي الله عنها:
كان رسول الله r قد جعل سعد بن معاذٍ في خيمةٍ لامرأةٍ صحابيةٍ
اسمها رفيدة رضي الله عنها ،كانت الخيمة في مسجد الرسول r وكانت تداوي الجرحى ولم ينزل اليهود على حكم
سعد بن معاذٍ طواعية وأريحية وبرضى من أنفسهم.
قال بن هشام: حدثني من اثق به من أهل العلم أنَّ عليَّ
بن أبي طالب صاح وهو محاصرٌ بني قريظة: يا كتيبة الإيمان..
وتقدم هو والزبير بن العوام وصاح علي: والله لأذوقنَّ ما
ذاق حمزة أو أفتح هذا الحصن.
حينئذ قال اليهود: ننزل على حكم سعد بن معاذ. وكان سعدٌ t قد رمي يوم
الخندق بسهمٍ فقطع أكحله، فكواه رسول الله r بالنار، ثم انتفخت يده، فسال الجرح دمًا، ثم
كواه مرةً أخرى فانتفخت يده، فلما رأى ذلك سعدٌ قال: اللهمَّ لا تمتني حتى تقرَّ
عيني من بني قريظة. فلم يعد جرحه يسيل.
الحكم
فلما رضي اليهود لعنهم الله بأن يكون سعدٌ هو الحكم،
جاءه الأوس فحملوه على دابةٍ، وكان رجلًا جسيمًا جميلًا، ثم أقبلوا معه على رسول
الله r وهم يقولون:
يا أبا عمرٍو أحسن في مواليك، فإن رسول الله r إنما جعلك حكمًا لتحسن لليهود، فلما أكثروا
عليه ذلك، قال: آن لسعدٍ أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فرجع بعض من كان من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى
لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعدٌ، وذلك بسبب كلمته التي سمعت منه.
فلما وصل سعدٌ إلى رسول الله r والمسلمين قال رسول الله r: «قوموا
إلى سيدكم» فقاموا.
ثم قالوا: يا أبا عمرٍو، إنَّ رسول الله r قد ولاك أمر
مواليك – اليهود – لتحكم فيهم، فقال سعدٌ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنَّ الحكم
فيهم هو ما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ في الناحيه التي فيها رسول الله r وهو يدير
وجهه حياءً منه وإجلالًا لقدره r لأنه هو رسول الله والقائد العام للجيش.
فقال رسول الله r:«نعم» قال
سعدٌ: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء.
فقال r لسعدٍ: «لقد حكمت فيهم بحُكم الله من فوق
سبعة أرقعة» أي من فوق سبع سموات.
وعاد سعدٌ إلى الخيمة فانفجر جرحه فمات رضي الله تعالى
عنه وأرضاه.
هيا إلى السيف يا بني قريظة:
ثم أنزل اليهود، وقد هيئت لهم خنادق فضربت أعناقهم فيها
وهم بين ستمئة وسبعمئة يهوديٍّ فكانوا يأتون أرسالًا أرسالاً ، فقال اليهود لكعب بن
أسدٍ: يا كعب، ما تراه يُصنع بنا؟ فقال كعب: أفي كلِّ موطنٍ لا تعقلون؟!
مقتل حيي بن أخطب:
قال ابن كثيرٍ يرحمه الله: وأتي بحييِّ بن أخطب لعنه
الله وعليه حلة بلون الورد عند تفتحه قد شقها من كل ناحيه قدر أنملةٍ مجموعةً يداه
إلى عنقه بحبلٍ، فلما نظر إلى رسول الله r قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه
من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس: إنه لا بأس بأمر الله، كتابٌ
وقدرٌ وملحمةٌ كتبها الله على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.
آه، فمتى نرى في اليهود ومن هاودهم يومًا كيوم بني قريظة؟
عسى أن يكون قريبًا.
وما ذلك على الله بعزيز.