البشرى
الأولى للحديبية
قال ابن كثيرٍ
رحمه الله تعالى: لما رجع رسول الله r
من الحديبيَّة مكث بالمدينة عشرين يومًا أو قريبًا من ذلك ثم خرج إلى خيبر وهي
التي وعده الله إياها.
كان ذلك في
أول السنة السابعة.
لقد منَّ الله
تعالى على الصحابة الكرام بطاعتهم المطلقة لرسول الله r،
فبعد أن عادوا من الحديبية مقهورين لكنهم قد سلموا أمرهم إلى الله ورسوله كأن الله
سبحانه وتعالى قد كافأهم عاجلًا بفتح قريب.
فلما انصرف r من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح. قال ذلك
محمد بن إسحاق وغيره: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}
[الفتح: 1-3].
إلى خيبر:
خرج النبيُّ r إلى خيبر، فسلك على عصر فبني له به مسجدٌ،
ثم تابع طريقه إلى الصهباء، وهو موضع بينه وبين خيبر، ثم أقبل بجيشه حتى نزل بوادٍ
يقال له: الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر،
وكانوا لهم مساندين في عداوتهم لرسول الله r..
ولما سمعت
غطفان بجيش الرسول r
جمعوا فرسانهم وخرجوا ليساعدوا اليهود ضدَّ النبيِّ r وبعد أن ساروا مرحلةً سمعوا حركةً في أموالهم وبين أهليهم، فظنوا أنَّ
الرسول r قد أغار على أهلهم فأسرعوا بالرجوع، وظلوا
بين أهلهم وتركوا مساعدة اليهود. وهذا من لطف الله تعالى بنبيه r وصحابته الكرام رضوان الله
عليهم أجمعين، فقد نصر الله رسوله r
بالرعب.
وسار r إلى خيبر ليلًا، وكان في الجيش عامر بن
الأكوع وهو عمُّ سلمة بن الأكوع فقال r
لعامر: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك».
وكان عامرٌ
شاعرًا فقال:
والله لولا الله ما اهتدينا
|
ولا تصدقنا ولا صلينا
|
إنا إذا قومٌ بغوا علينا
|
وإن أرداوا فتنةً أبينا
|
فأنزلن سكينةً علينا
|
وثبت الأقدام إن لاقينا
|
فقال رسول
الله r: «يرحمك ربك» فقال عمر بن الخطاب:
وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به، فقتل يوم خيبر شهيدًا.
وسار الجيش
إلى خيبر، حتى إذا أصبح قريبًا منهم قال الرسول r
للناس «قفوا» فوقفوا.
فقال: «اللهمَّ
ربَّ السموات السبع وما أظللن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن، وربَّ الشياطين وما
أضللن، فإنَّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرِّ
هذه القرية، وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها، أقدموا باسم الله الرحمن الرحيم».
وكان r لم يعز قومًا حتى يصبح، فإن سمع أذانًا كفَّ
عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار، فلما نزل خيبر ليلًا بات r
حتى إذا أصبح لم يسمع أذانًا ركب رسول الله r
وركب الجيش، فإذا بالعمال من يهود خيبر قد خرجوا من حصونهم إلى مزارعهم ومعهم
المساحي والمكاتل، فلما رأوا رسول الله r
والجيش قالوا: محمدٌ والخميس معه فهربوا.
يسمى الجيش
الخميس لأنه ينقسم على خمس فرقٍ، فرقةٌ تكون عادةً في المقدمة، وأخرى في المؤخرة
وتسمى ساقةً والجناحان وهما الميمنة والميسرة، ثم القلب. فلما هرب عمال اليهود قال
r: «الله أكبر خربت خيبر، إنَّا إذا نزلنا
بساحةِ قومٍ فساء صباح المنذرين».
يحبه الله ورسوله ويحبُّ الله ورسوله:
وبعث رسول
الله r أبا بكرt ، إلى بعض حصون خيبر فنهض وقاتل قتالاً
شديدًا ثم رجع ولم كن فتحٌ وقد جهد.
فأخذها عمر
فقاتل قتالاً شديدًا هو أشدُّ من القتال الأول ثم رجع ولم يكن فتحٌ، فقال رسول
الله r: «لأعطينَّ الراية غدًا رجلاً يحبه الله
ورسوله ويحبُّ الله ورسوله يفتح الله على يديه، يأخذها عنوةً».
استبشر
الصحابة الكرام بقول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، وباتت نفوسهم طيبةً
أنَّ غدًا سيكون الفتح، والله تعالى لن يخذل نبيَّه r.
وصلَّى r ثم دعا باللواء، واستوى قائمًا فقال بريدة
رضي الله عنه: فما منَّا من رجلٍ له منزلةٌ من رسول الله r
ألا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنالها، ورفعت رأسي لمنزلةٍ كانت لي
منه.
وقال بريدة
أيضًا: كان رسول الله r
ربما أخذته الشقيقة – وهي ألم في نصف الرأس والوجه فيلبث اليوم واليومين لا يخرج
فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وإنَّ أبا بكر أخذ الراية ثم رجع
فأخذها عمر ثم رجع.
الأرمد:
وكان عليُّ بن
أبي طالبٍ قد تأخر عن الجيش لرمدٍ في عينيه فقال لنفسه: أنا أتأخر عن رسول الله r؟
ثم لحق
بالجيش، وجاء على بعيرٍ له حتى أناخ قريبًا، وقد عصب عينه بشقةٍ بردٍ قطريٍّ فقال
رسول الله r «مالك»؟ قال: رمدت بعدك قال: «ادن منِّي» فمسح على عينه ودعا له فبرئت
بإذن الله تعالى ثم أعطاه الراية فنهض بها.
البطل:
في مسيرة
التاريخ الحربية كانت الأمة ترشح من جيوشها «البطل» وهذا البطل كان أمل الجيش وأمل
الأمة في النصر، كما كان في حروب أثينا وبطلها «آخيل» وطروادة وبطلها «هكتور» وكما رأينا في حروب المسلمين مع الفرس وكان
بطلهم هرمز، ولما استعفى هرمز من قيادة الجيش لم يعفه كسرى، وكان هرقل بطل الروم
وكان كلُّ واحدٍ من هؤلاء الأبطال يعدُّ بألف فارسٍ بل بآلاف الفرسان، أما
المسلمون فكان فيهم بطل الإسلام الخارق الذي لا يشق له غبارٌ ولا تستطيع أبطال
المشركين مجابهته حمزة بن عبد المطلب عمُّ رسول الله r،
ولما اختاره الله تعالى شهيدًا في أحدٍ بل سيِّد الشهداء وقتله وحشيٌّ غيلةً لا
مجابهةً وخلّى مكانه، نهض ابن أخيه عليُّ بن أبي طالبٍ ابن عمِّ رسول الله r وقد تربى في بيت النبيِّ r ونام في فراشه ليلة الهجرة فكان الفدائيَّ
الأول في الإسلام.
نشأ عليٌّ قويَّ
البنية قوةً لا تدانيها قوة أي صحابيٍّ أو أيِّ بطلٍ في حروب الإسلام، وكان الفارس
الذي يحار خصمه فيه، لا يستطيع مبارزه أن يخدعه، فكانت درعه «الحطميَّة» صدرًا لا
ظهر لها؛ لأنه لا يمكن لفارسٍ أن يخدع عليًّا بسيفه أو برمحه بأن يطعنه من ظهره،
وقد اختاره الرسول r
لهذه المهمة التي عجز عنها غيره مثل أبي بكرٍ وعمر وهي فتح حصن خيبر، واليهود –
لعنهم الله – يعرفون وطأة عليٍّ في الحروب وشدته فكانوا يخافون منه t ومن جبريل عليه السلام.
بطل الإسلام يقتل بطل اليهود:
كان مرحب صاحب
حصنٍ يسمى باسمه، وكان هذا البطل اليهوديُّ كأعظم ما رأت العين من الرجال هامةً
وطولًا وعرضًا وقوةً وهو من رجال حٍمير من يهود اليمن، وعليه مغفرٌ يمانيٌّ ومعه
سيفه ورمحه وترسه، ويبدو أن هذا البطل اليهوديَّ يعرف من سيبارزه ولذلك فقد هيَّأ
حجرًا نقبه حتى أدخل رأسه فيه فأصبح خوذةً ثانيةً لأن تحته خوذةٌ من حديد وتقدم
يقول الشعر متباهيًا بقوته:
قد علمت خيبر أني مرحب
|
شاكٍ سلاحي بطلٌ مجرَّب
|
إذا الليوث أقبلت تلهب
|
وأحجمت عن صولة المغلَّب
|
تقدم هذا
اليهوديُّ الشاكي السلاح البطل المجرَّب، وبطل الإسلام عليُّ بن أبي طالب t تقدم إلى البطل اليهوديِّ
وهو يقول:
أنا
الذي سمتني أمي حيدره
كليث
غاباتٍ شديدٍ القسوره
أكليكم
بالصاع كيل السَّندره
بطل الإسلام
عليٌّ ضرب بطل اليهود مرحب فقدَّ الحجر والمغفر الحديد ورأسه، لقد جهل بطل الإسلام
من البطل اليهوديِّ المجرب القتيل الأجرب وكان مكتوب على سيفه: هذا سيف مرحب من
يذقه يعطب.
وفتح الله على
يدي عليّ. تلك بشارة رسول الله r،
ولما قتل بطل الإسلام بطل اليهود كان ثأرًا لعامر بن الأكوع، لأن مرحب هذا قتل
عامرًا الشاعر الذي كان ينشد:
والله لولا الله ما اهتدينا
|
ولا تصدقنا ولا صلينا
|
إلى آخر هذا
الشعر الذي أصبح نشيد الجيل الإسلاميِّ منذ عصر الرسول r
إلى عصرنا هذا، وقد قال عنه r:
«له الأجر مرتين».
واليهود تشرف
من أعلى الحصن، حصن مرحب، فرأوا صاحبه قتيلًا فتعجبوا، ولما شاهدوا قوة عزم هذا
المقاتل الذي فلق الصخر والحديد ورأس مرحب ارتعدت فرائصهم ولم يصدقوا عيونهم
فكانوا يغلقونها ثم يفتحونها ظنًّا منهم
إنَّ هذا حلمٌ من أحلام اليقظة أو وهم النظر، ولكنهم تيقنوا من أنَّ ما يشاهدونه
حقيقةٌ لا خيالٌ حينما رأوا صاحبهم ممددًا وقد سال جدول دمٍ منبع من رأس ذلك
القتيل. مسح عليٌّ سيفه بقفا مرحب وعاد إلى صفوف المسلمين.
مصرع شقيق مرحب:
كان ياسرٌ
شقيقٌ مرحب في أعلى الحصن مشرفًا على المعركة وهو لا يشكُّ في أنَّ شقيقه سيقتل
الجيش الإسلاميَّ كلَّه إذا نزلوا إلى المبارزة، لقد كان بشرب وتصبُّ له الفتيات
اليهوديات، وهو ينظر ضاحكًا إلى شقيقه وهو يقتل عامر بن الأكوع، فلما تقدم علي
وضربه ضربةً طار لها عقل ياسرٍ، وكانت كأس الخمر بيده فذهل عن نفسه فوقعت وانكسرت،
ووقفت جرعة الخمر غصةً في حلقه..
وجحظت عيناه
وأصبحت في قفاه.
فنهض فاغرًا
فمه فسالت الخمرة على ثيابه.. وذهل عن نفسه، ومدَّ يده وهو ينظر إلى الأفق البعيد
وقال ولعابه يسيل: أين سيفي؟ أين درعي؟ أين سلاحي؟ علي بسلاحي..
وصاح: من
يبارز؟ فرجت البيد من صوته ورجَّع الصدى........ ثأري لشقيقي. فبرز له الزبير t فقتله.
يا منصور: أمت أمت:
وسار عليٌّ t براية رسول الله r ففتح الحصون حصنًا حصنًا: حصن ناعمٍ، حصن القموص، حصن الصعب، حصن
الوطيح، حصن السُّلالم. وكان شعار المسلمين يوم خيبر:
«يا
منصور أمت أمت»
قال الواقدي: لما
تحولت اليهود من حصن ناعمٍ وحصن الصعب إلى قلعة الزبير حاصرهم رسول الله r ثلاثة أيامٍ ثم قطع عنهم
الماء بإشارة من اليهوديِّ غزَّال، فخرجوا فقاتلوا لما عطشوا وقتلوا من المسلمين،
وقتل منهم عشرةٌ وافتتحه رسول الله r
وكان آخر حصون النطاة، وتحول إلى حصون الشَّقِّ وأولها حصن أبيِّ، فقام رسول الله r على قلعة اسمها سموان فخرج منها يهوديٌّ
اسمه عزول فقتله الحباب بن المنذر، وبرز آخر فقام إليه رجلٌ من المسلمين فقتله
اليهوديُّ فنهض إليه أبو دجانة فقتله وسلبه. فدخل المسلمون الحصن يتقدمهم أبو
دجانة، ثم صاروا إلى حصن النزار بالشق فرماه r
بالحصا فرجف بهم حتى ساخ في الأرض فأخذهم المسلمون أخذًا باليد، وقتل ابنا الحقيق
وطائفةٌ من أهله بسبب نقض العهود منهم والمواثيق.
واستشهد من المسلمين في حروب خيبر:
ربيعة بن
أكثم، وثقيف بن عمروٍ، ورفاعة بن مسروحٍ، وعبد الله بن الهبيب، وبشر بن البراء بن
معرورٍ، وفضيل بن النعمان، ومسعود بن سعدٍ، ومحمود بن مسلمة، وأبو ضياح بن ثابتٍ،
والحارث بن حاطبٍ وعرة بن مرَّة وأوس الفائد، وأنيف بن حبيبٍ، وثابت بن أثلة وطلحة
وعمارة ابنا عقبة، وعامر بن الأكوع، والأسود الراعي، ومسعود بن ربيعة. قال ابن لُقيم في فتح خيبر:
رميت نطاة من الرسول بفيلق
|
شهباء ذات مناكبٍ وقفار
|
واستيقنت بالذلِّ لما شيِّعت
|
ورجال أسلم وسطها وغفار
|
صبحت بني عمرو بن زرعة غدوةً
|
والشقُّ أظلم أهله بنهار
|
جدَّت بأبطحها الذيول فلم تدع
|
إلا الدجاج تصيح بالأسحار
|
ولكلِّ حصنٍ شاغلٌ من خيلهم
|
من عبد أشهل أو بني النجار
|
أفبعد هذه
البطولات والتضحيات نبيع هذه الدماء التي بُذلت من أجلنا؟
نبيعها
بالسلام والتطبيع؟!
نبيعها ليأمن
اليهود؟!