غزوة
بني المصطلق
وقعت سنة ستٍ
للهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وذو قَرَد:
بئر ماءٍ على بعد ليلتين من المدينة المنورة بينها وبين خيبر..
كانت لقاح
للنبي r ترعى هناك بالغابة – واللقاح هي الإبل
الحوامل وذات اللبن – وكان مع الإبل رجل وامرأته، فأغار عيينة بن حصنٍ الفرازي في
خيلٍ من غطفان على هذه الإبل وقتلوا الرجل وحملوا المرأة أسيرةً معهم.
وكان سلمة بن
الأكوع الأسلميُّ فتًى متوشحًا قوسه ونبله، جاء إلى الغابة وكان يجيد الرمي.
وبرفقته شابُّ
لطلحة بن عبيد الله، معه فرسٌ يقوده، ارتقى سلمة ثنية الوداع فنظر فإذا بخيول
عيينةً بن حصنٍ، فصرخ سلمة: واصباحاه، ثمَّ خرج في آثار الخيول مثل السَّبع حتى
لحق بالفرسان يردهم النبل ويقول إذا رمى:
خذها وأنا ابن الأكوع
|
اليوم يوم الرُّضَّع
|
فإذا وجهت
الخيل نحوه انطلق هاربًا، ثم جلس خلف شجرةٍ ورماهم بالنبل وهو يقول:
خذها وأنا ابن الأكوع
|
اليوم يوم الرُّضَّع
|
وبلغ رسول
الله r صياح ابن الأكوع فصاح بالمدينة: (الفزع
الفزع) فجاءت الخيول إلى رسول الله r،
فكان أول من وصل من الفرسان المقداد بن الأسود، ثم عبّاد بن بشرٍ، وسعد بن زيدٍ،
وعكّاشة بن محصنٍ، ومحرز بن نضلة، وأبو قتادة الحارثيُّ، وأمَّر عليهم سعد بن
زيدٍ، ثم قال: «اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس» فخرج الفرسان حتى
تلاحقوا، وتقدَّم محرز بن نضلة فحمل عليه رجلٌ منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدروا
عليه، ورجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة، وقتل وقاص بن مجزّر المدلجيّ، وكان
محرزٌ على فرسٍ لعكاشة بن محصنٍ يقال لها: الجناح، فقتل محرزٌ واستبلت الجناح.
ولما تلاحقت
خيل رسول الله r قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه ببردةٍ
ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله r
في المسلمين فإذا قتيلٌ مسجى ببردة أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو
قتادة: فقال رسول الله r:
«ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيلٌ لأبي قتادة، وضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبهٌ».
وأدرك عكَّاشة
بن محصن أوبارًا وابنه عمرو ابن أوبارٍ وهما على بعيرٍ واحدٍ فشكهما بالرمح فقتلهما
معًا واستنفذوا بعض الإبل.
وجاء سلمة
فرآهم يستقون قال سلمة: فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميًا وأقول: أنا ابن الأكوع،
اليوم يوم الرضع، حتى استنفذت اللقاح منهم واستبلت منهم ثلاثين بردةً، وجعلت
أرميهم وأقتل منهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إليَّ فارسٌ جلست في أصل شجرةٍ
ثم رميت، فلا يقبل عليَّ فارسٌ إلا قتلته، فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا
تضايقت الثنايا علوت الجبل فرميتهم بالحجارة، حتى لم يبق شيءٌ من إبل رسول الله r إلا استنقذته من أيديهم، ثم لم أزل أرميهم
حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحًا وأكثر من ثلاثين بردةً يتخففون منها.
ثم خرجت أعدو
في أثر القوم، فأرداو أن يشربوا، فأبصروني أعدو وراءهم فتركوا الماء وغربت الشمس
فلحقت رجلًا ورميته وأتبعته سهمًا آخر فعلق به سهمان وخلَّفوا فرسين، فجئت بهما
إلى رسول الله r وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، وإذا نبيُّ
الله r في خمسمئةٍ. فقال r:
«خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجّالتنا سلمة» فأعطاني رسول الله r سهم الفارس والراجل جميعًا، ثم أردفني وراءه
على العضباء راجعين إلى المدينة فقال حسان بن ثابت شاعر النبي r في هذه الغزوة:
لولا الذي لاقت ومسّ نسورها
|
|
للقينكم يحملن كلَّ مدججٍ
|
حامي الحقيقة ما جد الأجداد
|
ولسرَّ أولاد اللقيطة أننا
|
سلمٌ غداة فوارس المقداد
|
كنا ثمانيةً وكانوا جحفلاً
|
لجبًا فشكوا بالرماح بداد
|
كنا مع القوم الذين يلونهم
|
ويقدِّمون عنان كلِّ جواد
|
وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي
|
وقال كعب بن
مالك t ، في يوم ذي قرد يمدح
الفرسان يؤمئذ من المسلمين:
وإنا لنقري الضيف من قمع الذُّرا
|
|
نردُّ كماة المعلمين إذا انتخوا
|
بضرب يسلّي نخوة المتقاعس
|
بكل فتًى حامي الحقيقة ماجد
|
|
يذودون عن أحسابهم وتلادهم
|
ببيضٍ تقدُّ الهام تحت القوانس
|
غزوة بني
المصطلق:
وتسمى أيضًا
غزوة المريسيع، وقعت في السنة نفسها التي وقعت بها الغزوة السابقة.
أوردها محمد
بن إسحاق بعدما أورد غزوة ذي قردٍ. وسببها أن رسول الله r
بلغه أن بني المصطلق يجمعون له جيشًا ليغيروا على المدينة المنورة وقائدهم الحارث
بن ضرار، فلما سمع بهم رسول الله r
لم ينتظر أن يغيروا عليه بل خرج إليهم في سبعمئة من أصحابه، فلما وصل إليهم دفع
راية المهاجرين إلى أبي بكرٍ الصديق، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة.
ثم أمر عمر بن
الخطاب فنادى في الناس: أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم،
فأبوا فتراموا بالنبل، ثم أمر الرسول r
الجيش بالهجوم فهجموا كلُّهم وحملوا على أعدائهم حملة رجلٍ واحدٍ، فقتل منهم عشرة ًوقتل
عليُّ بن أبي طالبٍ منهم رجلين، مالكًا وابنه.
وأسروا كلُّهم
لم يفلت منهم رجلٌ واحدٌ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجُل واحدٌ وهو هشام ابن
صبابة، أصابه رجلٌ من الأنصار وهو يرى أنه من العدوِّ فقتله خطأ.
وقتل رسول
الله r المقاتلة من بني المصطلق وسبى نساءهم، قالت
عائشة رضي الله عنها: لما قسم رسول الله r
سبايا بني المصطلق رفعت جويريَّة بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شمّاسٍ أو
لابن عمٍّ له فكاتبته على نفسها وكانت امرأةً حلوةً ملّاحةً، لا يراها أحدٌ إلا
أخذت بنفسه، فأتت رسول الله r
لتستعينه في كتابتها قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها،
وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث
سيد قومه جئتك أستعين على كتابتي.
قال: «فهل
لك في خيرٍ من ذلك؟».
قالت: وما هو
يا رسول الله؟ قال: «أقضي عنك كتابتك وأتزوجك» قالت: نعم يا رسول الله.
قال: «قد
فعلت» قالت: وخرج الخبر إلى الناس أنَّ رسول الله r
قد تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس: أصهار رسول الله r،
فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فقد أعتق بتزويجه إياها مئة أهل بيتٍ من بني المصطلق،
فما أعلم امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها.
المرتد:
أما قتيل
الخطأ هشام بن صبابة فقد كان له أخٌ اسمه مقيس بن صبابة، لما سمع بمقتل أخيه وكان
في مكة، فقدم مظهرًا للإسلام وطلب دية أخيه هشام ٍمن رسول الله r لأنه قتل خطأً، فأعطاه ديته، ثم مكث قليلًا
وعدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع مرتدًا إلى مكة وقال في ذلك شعرًا:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندًا
|
يضرِّج ثوبيه دماء الأخادع
|
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي
|
وكنت إلى الأوثان أول راجع
|
وهذا أحدُ
الأربعة الذين أهدر رسول الله r
دمه يوم فتح مكة وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة فوجد هناك فأخذ وقتل.
رأس
المنافقين:
وفي أثناء
عودة الجيش الظافر إلى المدينة المنورة، كان الناس على الماء يستقون ومع عمر ابن
الخطاب أجيرٌ له يقال له: جهجاه بن مسعودٍ يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر
الجهني حليف بن عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني:
يا معشر
الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيِّ بن سلولٍ رأس
المنافقين، وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد بن أرقم غلامٌ حدثٌ فقال: أوقد فعلوها؟
أما والله لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله
r بعد فراغه من عدوه فأخبره الخبر وعنده عمر
بن الخطاب فقال: مر عباد بن بشرٍ فليقتله، فقال رسول الله r:
«فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا» وقال لعمر «أذِّن
بالرحيل» وذلك حتى لا يتفرغ الناس للقيل والقال، بل ليشغلوا بالسفر.
وبلغ رأس
المنافقين أنَّ زيد بن أرقم بلَّغ رسول الله r
تلك الكلمة الكافرة، فمشى إلى النبيِّ r
فحلف بالله: ما قلت بما بلَّغك زيدٌ ولا تكلمت به.
فأنزل الله
تكذيب رأس المنافقين في سورة المنافقين.
وكان عبد الله
بن عبد الله بن أبي سلولٍ مؤمنًا صادق الإيمان فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل
عبد الله بن أبي سلول، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فقال رسول
الله r: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا».
فكان بعد ذلك قومه هم الذين يعاتبونه إذا أحدث شيئًا ويعنّفونه فقال رسول الله r: «كيف ترى يا عمر؟» فقال عمر: قد
والله علمت أنَّ أمر رسول الله r
أعظم بركة من أمري.
ولما أراد
الجيش الإسلاميٌّ دخول المدينة جاء عبد الله t
ووقف لأبيه عبد الله بن أبي سلول عند مضيق المدينة فقال: قف، والله لا تدخلها حتى
يأذن رسول الله r في ذلك، فلما جاء رسول الله r استأذنه في ذلك فأذن له فأرسله حتى دخل
المدينة.
وكان شعار
المسلمين في غزوة بني المصطلق:
يا منصور أمت
أمت.
ودخل الجيش
الإسلاميُّ الظافر المدينة المنورة وسار من نصرٍ إلى نصر.