توطئة:
كلَّما قرأت في سيرة رسول الله r وأمعنت النظر في أحداثها تعظم في عيني شخصية الرسول r في كل موقف.
نحن الآن بصدد الحديث عن غزوة الحديبيّة، وقد درسناها
ونحن أطفالٌ، وكنت أعجب في نفسي وأنا في مثل سنك يا بنيَّ ناشئًا طريَّ العود،
بسيط الإدراك بشخصية الرسول r ولا سيما في أثناء كتابة بنود المعاهدة، وكبرت وستكبر
أنت إن شاء الله يا بنيَّ، ووقفت على بنود معاهدة صلح الحديبيّة، فكنت أقول مع
التسليم لله ورسوله: إنَّ ما فعله الرسول r هو الحقُّ، ولكن لم أكن أستوعب هذا البند: من جاء إلى
رسول الله r مسلما بعد عقد الصلح فيجب على المسلمين أن يرودوه إلى الكفار، ومن ارتدَّ
من المسلمين ولحق بالكفَّار فليس عليهم أن يردوه. وكان عمر t لم يوافق في البداية على هذا الشرط، ولكن
بعد دراسته تبين لي عظمة هذا النبيِّ الكريم وبعد نظره، وعرفت الفرق بين رأيه r وبين رأي عمر t.
فوالله لو وضعت الأنبياء والمرسلون كلُّهم في كفَّةٍ
ورسول الله r في كفةٍ لرجحهم رسول الله r.
وكلما تعمق المسلم في دراسة السيرة النبوية الشريفة
وفهمها تتجلى له عظمة الرسول r أكثر فأكثر.
وقد أنزل الله تعالى سورة الفتح «هذا الفتح المذكور هو
صلح الحديبية » ولذلك فهي غزوة الحديبية أو غزوة الفتح. فما هذه الغزوة التي ينشب
فيها قتالٌ، وقد سماها الله تعالى فتحاً مبيناً؟.
المقاييس الإيمانية:
في المقاييس البشرية أنَّ الفتح يعني الفتح العسكريَّ؛
معركةٌ وقتالٌ ودماءٌ وجراحٌ..
أما في المقاييس الإيمانية فنرى هنا أنَّ الأمر اختلف،
إنَّ الفتح هنا لا يعني المعركة، ولا عسكرية، ولا قتال، فتحٌ ولا قتال؟ نعم.
توطيد حدود الدولة الإسلامية:
في السنة السادسة أيضاً خرج الرسول r يريد مكة المكرمة يريد العمرة لا يريد حرباً، ولهذه
العمرة أكثر من معنىً.
من الناحية الدينية:
أنَّ بيت الله الحرام هو قبلة المسلمين، فهم يريدون النُّسك
والتعبد، إذاً فلا يحقُّ للمشركين أن يمنعوا المسلمين من الوصول على قبلتهم..
من الناحية العسكرية:
تعدُّ هذه الغزوة مناورةً سلميةً؛ إذ يشاهد الكفار في
مكة قوةً إسلاميةً ولا يستطيعون أن يمدوا إليهم أيديهم بأذى.
من الناحية السياسية:
أنَّ هذا الجيش يحمي نظامًا سياسيًّا له دولته وحاضرته
وأراضيه ونظامه الدينيُّ والعسكريُّ والسياسيُّ والأخلاقيُّ والحضاريُّ، واعتراف
الكفار بهذه الدولة ذات النظام الخاص.
من الناحية الجغرافية:
اعتراف الكفار بهذه الدولة وبحدودها السياسية والجغرافية
على أرض الجزيرة العربية.
وهذه الحملة أشبه ما يسمى اليوم بالعرض السلمي والمبادرة
لتأمين حدود الدولة من أيِّ طارئٍ يمكن أن يقع، فهذه العمرة خاصةً لها معنًى خاصٌّ
من بين عمراته الأربع في حياته r، قد تفوق الحرب المسلحة المكشوفة أهميةً في كثيرٍ من
غزواته السابقة r.
إلى بيت الله الحرام:
واستنفر – الرسول r- العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه
وهو يخشي أن تتصدى له قريش بالحرب أو يصدوه عن بيت الله الحرام، فأبطأ عليه كثيرٌ
من الأعراب، وخرج رسول الله r بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب،
وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائرًا
لهذا البيت ومعظماً له.
وكان الهدي سبعين بدنةً وكان جابر بن عبد الله يقول: كنا
أصحاب الحديبية أربع عشرة مئةً.
يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب:
حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبيُّ فقال: يا
رسول الله، هذه قريشٌ قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود
النَّمر، وقد نزلوا بذي طوىً يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن
الوليد في خيلهم قد قدّموها في كراع الغميم. فقال رسول الله r: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلَّوا
بيني وبين سائر العرب؟» ثم قال: «من رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم
التي هم بها؟».
فقال رجلٌ من أسلم: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقاً
وعرًا كثير الحجارة بين شعابٍ، فلما خرجوا منه وقد شقَّ ذلك على المسلمين ثم صاروا
إلى أرضٍ سهلةٍ قال رسول الله r: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك
فقال: «والله إنها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» قال: ابن
سعدي- يرحمه الله- في تفسيره «وقولوا حطة»، أي: أن يحطّ عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه
مغفرته فقالوا: «حنطة في شعيرةٍ » استهزاء
منهم لعنهم الله.
فأمر رسول الله r الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين ». في طريق تخرج
على ثنية المرار مهبط الحديبيَّة أسفل مكةً، فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل
قريشٍ غبار الجيش قد خالفوا طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش.
وخرج رسول الله r حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس:
خلأت. فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا
تدعوني قريشٌ اليوم إلى خطةٍ يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ثم
قال للناس: «أنزلوا» قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماءٌ ننزل عليه،
فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه وهو ناجية بن جندبٍ سائق هدي رسول
الله r فنزل به في قليبٍ فغرزه في جوفه حتى فاض الماء.
وجاءت جاريةٌ من الأنصار إلى البئر، وناجية في أسفله
يملأ الدلاء فقالت:
يا أيها
المائح دلوي دونكا
ذ |
|
|
|
|
إني رأيت
الناس يحمدونكا
|
يثنون
خيرًا أو يمجدونكا
|
||
فأجابها
بقوله:
|
|
|
قد علمت
جاريةٌ يمانيه
|
|
|
|
|
أني أنا
المائح واسمي ناجيه
|
وطنةٍ ذات
رشاشٍ واهيه
|
|
|
|
|
طعنتها
عند صدور العاديه
|
وفد قريش:
فلما اطمأنَّ رسول الله r أتاه بديل بن ورقاء في رجالٍ من خزاعة، فكلموه وسألوه
ما الذي جاء به، فاخبرهم أنه لم يأت يريد حربًا، وإنما جاء زائرًا للبيت ومعظماً
لحرمته، فرجعوا إلى قريش فقالوا:
يا معشر قريشٍ، إنكم تعجلون على محمدٍ، إنَّ محمدًا لم
يأت لقتالٍ، إنما جاء زائرًا لهذا البيت. فاتهموه وجبهوه وكذبوه وقالوا: وإن كان
لا يريد قتالًا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدث بذلك عنا العرب،
فبعثوا إليه الحليس سيد الأحابيش وكان وديعًا فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض
الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طوال الحبس عن محله، رجع إلى قريشٍ ولم يصل
إلى رسول الله r، إعظامًا لما رأى فقال لقريشٍ ذلك فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابيُّ لا
علم لك، فغضب الحليس وقال: يا معشر قريشٍ والله ما على هذا حالفناكم، أيصدُّ عن
البيت من جاء معظماً له؟
والذي نفس الحليس بيده لتخلُّنّ بين محمدٍ وبين ما جاء
له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحدٍ.
قالوا: مه، كفَّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى
به.
ثم بعثوا إلى رسول الله عروة بن مسعودٍ الثقفيَّ، فخرج
حتى أتي رسول الله r فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أو شاب الناس ثم
جئت بهم إلى بلدك لتكسرها بهم؟ إنها قريشٌ قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا
جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وايم الله لكأني بهؤلاء قد
انكشفوا غدًا.
فقال أبو بكرٍ الصديق t : أنحن ننكشف عنه يا من تسجد للصنم؟ قال: من هذا
يا محمدُ؟ قال: «هذا ابن أبي قحافه» ثم جعل يتناول لحية رسول الله r وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقفٌ بالحديد يحمي رسول
الله r فجعل يضرب يده إذا مسَّ لحية رسول الله r ويقول: اكفف يدك عن لحية رسول الله r قبل أن لا تصل إليك.
فأخبره رسول الله r أنه لا يريد حربًا. فقام من عند رسول الله r وقد رأى حبَّ أصحابه له فقال: يا معشر قريشٍ إني قد جئت
كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشيَّ في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه
قطُّ مثل محمدٍ في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيءٍ أبداً.
عثمان في مكة:
ودعا رسول الله r عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريشٍ يخبرهم
أنه لم يأت لحربٍ، وإنما جاء زائرًا معظماً البيت ومعظماً لحرمته، فخرج عثمان إلى
مكة حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريشٍ، واحتسبته قريشٌ عندها، فبلغ ذلك رسول الله r والمسلمين أن عثمان قد قتل.
فقال r: «لا نبرح حتى نناجز القوم». ودعا رسول الله r إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس
يقولون: بايعهم رسول الله r على الموت، ثم تبين أن خبر قتل عثمان باطلٌ.
ثم بعثت قريشٌ سهيل بن عمروٍ وقالوا: أئت محمدًا وصالحه
ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فلما رآه رسول الله r مقبلًا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».
بنود المعاهدة:
1-
الهدنة بين الرسول r وبين قريشٍ عشر سنين.
2-
من أتي مسلماً من قريشٍ بغير إذن وليه رده عليهم، ومن ارتد وجاء إلى قريش
لم يردوه.
3-
من أحبَّ أن يدخل في عهد محمدٍ دخل فيه، ومن أحبَّ أن يدخل في عهد قريشٍ
دخل فيه.
4-
أن يعود الرسول r هذا العام وأن يدخلها العام القادم.
فدخلت خزاعة في حلف الرسول r ودخلت بكرٌ في حلف المشركين.
وبيمنا كان عليٌّ يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل ابن سهيل
بن عمروٍ يوسف في الحديد، فلما رأى سهيلٌ ابنه أبا جندلٍ قام إليه فضرب وجهه وقال:
يا محمد قد تمَّ عقد الصلح قبل أن يأتيك هذا قال: «صدقت».
وجعل أبو جندلٍ يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد
إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
وقفة لابد منها:
لقد شق على الصحابة الكرام العودة قبل أن يعتمروا كما شق
عليهم البند الثاني، وزاده مجيء أبي جندلٍ، فكان عمر يقول: يا أبا بكرٍ أليس برسول
الله؟ قال أبو بكر: بلى. قال عمر: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا
بالمشركين؟
قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
ثم فهم عمر بعد نظر الرسول r فقال: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت
يومئذ.
إن توقف الحرب بين المسلمين وبين المشركين نصرٌ ربما لم
يكن في الإسلام قبله نصرٌ مثله. أما إذا ولَّي مسلم مرتدًّا فأي خير فيه؟ فمصيره
إلى جهنم إن مات على ردته، أما أبو جندلٍ فقد ألف فيما بعد كتيبة المسلمين
الفدائيين ألّفوا جيشًا كان لا يسمح لقافلة ٍمشركةٍ تمرُّ إلا قتلوا رجالها
وسلبوها، حتى اضطرت قريشٌ أن تناشد الرسول r بالرحم أن يعفيها من البند الثاني هذا.
وقد قال r في أهل الحديبية «أنتم خير أهل الأرض».
إنهم أصحاب بيعة الرضوان الذين y في محكم كتابه. ولهذا صحَّ أن تسمى غزوة
الحديبية فتح الحديبية ولم يكن أعظم منها إلا الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة. ونحر
الرسول r الهدي بعدما شقَّ على الصحابة الكرام فنحروا وحلق r فحلقوا.
وقد فتح الله أبواب الإسلام على مصاريعها، قال الزُّهريُّ:
فما فتح في الإسلام فتح ٌقبله كان أعظم منه، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها
وأمن الناس كلُّهم بعضهم بعضًا فلم يكلَّم أحد ٌفي الإسلام- يعقل شيئًا- إلا دخل
فيه. ولقد دخل في سنتين مثل ما كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
فأين السياسيُّ المسلم الذي يعرف كيف يفاوض الأعداء؟