مكة:
مكةُ واسمها أيضًا بكةُ.
جاء في القاموس في معنى مكَّ:
لغةً: مكَّ الفصيل أو مهر الفرس ما في ضرع أمِّه من اللبن: رضعه ولم يبق فيه
شيئًا.
ربما كلمة «مكة» تعني أنها تجذب إليها المسلمين في
العالم؟ استجابةً لدعوة أبينا إبراهيم على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء
والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام: {رَّبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
قال ابن سعدي يرحمه الله عن سيدنا إبراهيم:
«فأجاب الله دعاءه فأخرج من ذرّية إسماعيل محمدًا r حتى دعا
ذريته إلى الدين الإسلامي..
وافترض الله حجَّ هذا البيت، وجعل فيه سرًّا عجيبًا،
جاذبيةً للقلوب..».
ومن أسماء مكة: بكةَ قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
ومعنى بكة: أي المدينة التي تبكُّ أعناق
الجبابرة وإذا أرادوا بها شرًّا.
وكان تبَّان أسعد الحميريُّ يريد بها شرًّا فعرف أنَّ من
أصاب مكة بشرٍّ قصمة الله، فخشع قلبه ودخل البيت معظمًا لحرمته وكسا الكعبة
المشرفة.
ولما جاء الأحباش يريدون بالبيت شرًّا أرسلَ الله عليهم
الطير الأبابيل فصار جسم الحبشيِّ الذي أصابته الحجارة من سجيلٍ كعصف مأكولٍ، وهو
الزبل، وأصبح الأحباش مزابل التاريخ.
ومكة المكرمة هي العاصمة المقدسة للمسلمين في العالم،
زادها الله عزًّا وشرفًا وحفظًا وأمنًا.
فلنتعرف كيف أخذها الله تعالى من يد طواغيتِ الإنس، بعد
أن نصبوا فيها الأصنام وأصبح المشرك بالله سيد مكة وبيده مفاتيح كعبته والمسلمون
والرسول r يتشوق إلى
رؤية البيت وزيارته وهم يصدونه عنه؛ فيه بيته r الذي ولد فيه ومرتع صباه، على صعيده الطاهر
درجت أولى خطاه r وفيه
ذكرياته، هنا الشجرة التي كان يستظلُّ بها، وهناك مرعى الطليان في طفولته، وغار
حراءٍ.. وغار ثور.. وأهل الرسول r هم أهل هذا البيت.. آباؤه وأجداده.
فلما جاء الأحباش قام جدُّه عبد المطلب وأمسك حلقة البيت
وقال:
لاهمَّ إن العبد يمنع
رحلـــ
|
|
ــــه
فامنع رحــــالـــــك
|
|
إن كنت تـــاركهم وقبـــ
|
|
ـــلتنا
فأمــــرٌ ما بدا لــك
|
جده الذي كان يطعم الحجيج، هاشمٌ، شيبة الحمد وابنه عبد
المطلب سيد مكة لما جاء الأحباش، وردَّ الله الفيل وأهله ببركته r أخرجه
الظالمون المجرمون عبّاد الأوثان، ولما أراد زيارته وهو في غاية الشوق إليه صدّه
قومه أبناء عمومته أبو سفيان صديقه وشبيهه، ولكنَّ الشيطان نفخ فيه فطيّر عقله
وأبقى جهله..
نصرت يا عمرو بن سالم:
في صلح الحديبية دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله r، ودخلت
قبيلة بكرٍ في حلف الإرهابيين، ومدة الهدنة عشر سنين، ولكن الله سبحان وتعالى أراد
أن يعجل للرسول r نصره، وغرَّ
الشيطان قريشًا فجعل بسوء تدبيره لهم ثبوره، إذ نفخ في فؤاد قبيلة بكرٍ ودفعهم إلى
الغدر بالمسلمين «وعلى الباغي تدور الدوائر» وفي المثل:
«على نفسها جنت براقش».
هجمت قبيلة بكرٍ ليلاً على قبيلة خزاعة، وهم على بئر
ماءٍ يسمى الوتير، وهو قريبٌ من مكة، وقالت قريشٌ: ما يعلم بنا محمدٌ وهذا الليل
وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالسلاح والرجال وقاتلوا معهم حقدًا على رسول الله r. فركب عمرو
بن سالمٍ حتى قدم على رسول الله r ينشده:
لاهــــــمَّ إنـــــي
نــــاشـــــدٌ محمـــــدا
|
|
|
حلــــف
أبيــــــه وأبينــــا الأتلــــدا
|
||
قــــد كنت ولــــدًا
وكنـــا والـــــدا
|
|
|
ثَّمت
أسلمنـــا فلــــم ننـــزع يـــدا
|
||
فانصر رسول الله نصرًا
أعتدا
|
|
|
وادع
عباد الله يأتوا مددا
|
||
فيهم رسول الله قد تجردا
|
|
|
إن
سيم خسفًا وجهه تربّدا
|
||
في فليقٍ كالبحر يأتي
مزبدا
|
|
|
إنَّ
قريشًا أخلفوك الموعدا
|
||
ونقضوا ميثاقك المؤَّكدا
|
|
|
وجعلوا
لي في كداءٍ رصّدا
|
||
وزعموا أن لست أدعو أحدا
|
|
|
فهم
أذل وأقل عددا
|
||
هم بيّتونا بالوتير هجّدا
|
|
|
وقتّلونا
ركّعًا وسجدا
|
||
فقال رسول الله r: «نصرت يا عمرو بن سالم».
وكان ممن أعان قريشًا صفوان بن أمية، وشيبة ابن عثمان،
وسهيل بن عمرو..
خاف أبو سفيان من تلك الغدرة، فحرج من مكة إلى المدينة
فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة. فقال رسول الله r: «ولذلك قدمت؟ هل كان من حدثٍ قبلكم؟»
فقال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغيّر ولا نبدل.
ورسول الله r صهر أبي سفيان لكنَّ العقيدة لا تحابي النسب
ولا أيَّ اعتبارٍ آخر.
عاد أبو سفيان إلى مكة، عاد برعبه وخزيه ووساوس ظنه، يجرر
أذيال الخيبة، ويتجرع الهمَّ ليلاً ونهارًا خوفًا من انتقام رسول الله r، وأخبر
قريشًا بالذي كان في المدينة فقالوا: ما صنعت شيئًا وقالوا: قبحك الله من وافد قومٍ
فما جئت بخير.
وقال حسان يحرض الناس ويذكر مصاب خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء
مكةٍ
|
رجال بني كعبٍ تحزُّ
رقابها
|
بأيدي رجال لم يسلّوا
سيوفهم
|
وقتلى كثيرٍ لم تجنَّ
ثيابها([1])
|
ألا ليت شعري هل تنالنَّ
نصرتي
|
سهيل بن عمرٍو حرَّها
وعقابها
|
ولا تجزعوا منها فإنَّ
سيوفنا
|
لها وقعةٌ بالموت يفتح
بابها
|
الطريق إلى مكة :
ما أسعد قلب رسول الله r وهو يجهز جيش الإيمان، جيش الفتح، فتح مكة
المكرمة، بلده الذي ولد فيه وأخرج منه، يذهب إليه اليوم فاتحًا.
وكان r حريصًا على مبدأ المباغتة في كلِّ غزواته
إلا غزوة تبوك لاعتبارات كثيرةٍ، أما فتح مكة فكان r أحرص على حقن الدماء فقال: «اللهمَّ خذ
أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتةً، ولا يسمعوا بنا إلا فجأة».
فلما أراد الرسول r المسير بالجيش إلى مكة حصل أمرٌ لم يكن
بالحسبان.
حاطب:
وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريشٍ يخبرهم بالذي
أجمع عليه رسول الله r من الأمر في غزوهم، ثم أعطاه امرأةً وجعل
لها جعلاً على أن تبلّغه قريشًا، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه ذوائبها، وأتى رسول
الله r الخبر من
السماء بما صنع حاطبٌ، فبعث عليَّ بن أبي طالبٍ والزبير بن العوام، فخرجا حتى
أدركاها على بعد مراحل من المدينة فأنكرته، ولما رأت الجدَّ من عليٍّ دفعته إليه.
فقال رسول الله r: «يا حاطب، ما حملك على هذا؟» فقال:
يا رسول الله أما والله إني لمؤمنٌ بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت
امرأً ليس لي في القوم من أصلٍ ولا عشيرةٍ، وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهلٌ
فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد
نافق.
فقال رسول الله r: «وما يدريك يا عمر، لعلَّ الله قد اطلع
على أصحاب بدرٍ يوم بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
وكان في كتاب حاطبٍ: إن رسول الله r توجه إليكم بجيشٍ كالليل يسير كالسيل وأقسم
بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجزٌ له ما وعده.
عشرة آلاف سيف:
كان جيش الرسول r في بدرٍ ثلث جيش المشركين، وفي أحدٍ أقلَّ
من الثلث وفي الخندق كانوا ثلاثة آلاف وكان المشركون عشرة آلافٍ، وفي الحديبية
كانوا ألفًا وأربعمائة رجل...
وبعد عامين من صلح الحديبية صار جيش الرسول r يوم سار إلى
فتح مكة عشرة آلاف مقاتلٍ، فمنذ الحديبية ومعسكر الرسول r يزيد ومعسكر المشركين ينقص إلى أن كان فتح
مكة المكرمة.
على أبواب مكة:
زحف النبيُّ r إلى مكة في رمضان سنة ثمانٍ للهجرة، وأفطر
الجيش ليكون أقوى. واقترب النبيُّ r من مكة وقد عميت عن قريش الأخبار، وأشعل
المعسكر الإسلاميُّ نيرانًا عظيمة..
وجاء أبو سفيان وأصحابه يتحسسون الأخبار فأخذتهم خيل
المسلمين، وقام عمر إلى أبي سفيان يجأ في عنقه حتى أجاره العباس بن عبد المطلب.
قال عمر: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه،
فدعني أضرب عنقه، فقال رسول الله r «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبح فأتني
به» فلما أصبح قال له رسول الله r: «ويحك
يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟».
فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد
ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد.
قال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول
الله؟».
قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه
والله فإنَّ في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب
عنقك فأسلم.
في مكة المكرمة:
صرخ أبو سفيان بأعلى صوته: من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
كان خالد بن الوليد t قد أسلم بعد صلح الحديبية، فأسند إليه رسول الله
r قيادة خيل
المسلمين، فدخل من أسفل مكة فتلقاه أوباش مكة فقتل منهم أربعةً وعشرين وانهزم
الباقون.
ودخل الفاتح r مكة مؤيدًا من الله تعالى مظفرًا منصورًا
دخول الأنبياء لا كدخول الفاتحين.
صفة دخول أبطال التاريخ الفاتحين:
لو قرأت في كتب التاريخ القديم عن هرقل وقيصر وكسرى
وداهر وجنكيز وهولاكو... وقبلهم: النمرود وبخت نصَّر، وكورش، وفرعون، وبعدهم:
نابليون، هتلر، رومل، ستالين، موسوليني......».
لو قرأت كتب التاريخ العالمي وعرفت سيرة عظماء الأبطال
في العالم لما رأيت مثل سيرة محمدٍ رسول الله r؛ كان الفاتح يشمخ بأنفه إلى أعالي السماء
حتى ولو كان مهزومًا ثم أعيد بالقوة، لقد رأيت صورة هيلاسي لاسي وكان مهزومًا ثم
أعيد إلى الكرسي، والله إنَّ الإنسان ليتقزز من هذه الصورة؛ شامخ الأنف كأنه صنمٌ
أصمُّ، وصورة فرانكو وسيلازار وتيتو، وأتاتورك؛ صور ملأى بالغطرسة والجبروت
والغرور، وينقص من العقل بمقدار ما يكون فيه من غرور، فإذا كان الإنسان مغرورًا 1%
ينقص من عقله 1%، وإذا كانت نسبة الغرور 50% نقص من العقل 50%.
صفة دخوله r مكة المكرمة:
قال ابن كثيرٍ يرحمه الله في تاريخه:
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا
دعلج بن أحمد، ثنا أحمد بن عليٍّ، ثنا عبد الله ابن أبي بكر المقدّميُّ، ثنا جعفر
بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: دخل رسول الله r مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعًا.
ثم قال: - والكلام لابن كثير – وهذا التواضع في هذا
الموطن عند دخوله r مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم، بخلاف
ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا بيت المقدس وهم سجود أي ركّع
يقولون: حطة.
فدخلوا يزحفون على أدبارهم وهم يقولون: حنطةٌ في شعيرة.
ورسولنا فخر العالمين يدخل مكة فاتحًا مطأطئ الرأس تواضعًا
لله تعالى، هذا هو النبيُّ العظيم، وهذه هي أمته العظيمة، أصبحت عظيمة به r.