مقدمة
الحمد لله
القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
[طه: 124].
فبيَّن الله
تعالى أن من خالف أمره وما أنزله على رسوله فأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛
فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره؛ بل صدره ضيق حرج
لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم
يخلص إلى اليقين والهدى؛ فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، وهذا من
ضنك المعيشة([1]).
وله تعالى
الحمد على قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[النحل: 97].
والحياة
الطيبة توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله([2]).
هذا وعد من
الله تعالى لمن عمل صالحًا؛ وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه r، من ذكرً ا
أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من
عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار
الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت.
والصلاة
والسلام على رسول الله القائل: «لا يحب رجل قومًا إلا حشر معهم»([3]).
أما بعد: فهذه
الرسالة أفطن من خلالها المرء ليبغض السوء ويسعى لتجنبه حتى لا يحشر مع أهله،
وأُنمي فيه الرغبة في الإقبال على أهل الخير والصلاح ومحبتهم؛ ليحشر معهم ويبلغ
بمحبتهم حب الله له، فينال فلاح الدنيا والآخرة.
كتبها
عبد القادر بن محمد بن حسن أبو طالب
علاج أصدقاء السوء بالصحبة الطيبة
هناك أسباب كثيرة تدفع المرء إلى المعصية مع ضعف إيمانه،
ومنها:
* مشاكل اجتماعية سواء كانت مع الوالد أو الوالدة أو
كلاهما أو مع الإخوان أو مع الزوجة أو الأولاد.
* مشاكل نفسية عنده أو من الضغوط الخارجية.
* حب التجربة.
وغير ذلك من الأسباب التي قد تدفع بالمرء إلى المعاصي.
لكن كل هذه الأسباب قد يمكن أن تبقى كامنة عند المرء دون
التنفيذ والتكرار، لولا السبب الرئيس وهو صاحب السوء الذي ساعد على تنفيذ المعصية
الأولى مع البعد عن الله.
والمرء بعد وقوعه في المعصية عندما يتأثر بصديق السوء
ويقتدي به في المعصية يسحبه صاحب السوء إلى مواقعه؛ لأن صاحب السوء بشخصيته أقوى
إرادة وتأثيرًا في السوء منه، والصاحب ساحب، فيتحول المرء الذي كانت فطرته طيبة
ليكون من أعضاء السوء ثم يكرر هو ما فعل به مع غيره وهكذا.
ولهذا فإن الشريعة جاءت بنصوص الآيات والأحاديث التي يقي
بها المرء نفسه من الوقوع في شراك صحبة السوء.
وجاءت أيضًا بالنصوص التي ينتشل بها المرء الواقع في
السوء نفسه من صحبة السوء ليرجع إلى صوابه وينصلح حاله، وما أتت به الشريعة من
النصوص التي سنذكرها؛ فهو من علاج أصدقاء السوء بالصحبة الطيبة، كما هو ظاهر في
عنوان الرسالة، ويشمل العلاج لصنفين من الناس.
الصنف الأول: من يتعرض أو تعرض لضرر من أصدقاء السوء.
والصنف الثاني: صاحب السوء نفسه.
وجعلنا علاج كل صنف في مبحث على النحو التالي:
المبحث الأول: لحماية المرء من صديق السوء.
المبحث الثاني: لتغيير المرء وتبديل حاله من صاحب سوء للآخرين ليكون صاحبًا في الله.
المبحث الأول
حماية المرء من صديق السوء
ويشمل:
المرء الذي
تضرر من أهل السوء.
المرء المتعرض
لضرر أهل السوء.
حماية المرء من صديق السوء
يشمل المرء الذي تضرر من أهل السوء، والمرء المتعرض لإيذاء أهل السوء،
وكلاهما يحتاج في حمايته معرفة خطورة صديق السوء وغايته، حتى يتفطن ويعلم كيف
يتعامل معهم لحماية نفسه منهم.
معرفة خطورة صديق السوء وغايته.
خطورة صديق
السوء:
إنه يعرف مداخل صاحبه، وكيف يؤثر عليه، وكيف يلعب في رأسه وأفكاره؛ فيُسد
عليه صلاحه أو يحول بينه وبين توبته حتى يبقيه في دوَّامة المعاصي، وكثيرًا ما
يستغله فيجعله أداة للشر والفساد.
غاية صديق
السوء:
صديق السوء لا يريد إلا أن يرى غيره أحطَّ وأخس منه، وخاصة عندما يرى غيره
في صلاح بعد توبة، وما يجده من تقدير المجتمع له لتركه المعاصي والدعاء له بالثبات
وهو يبقي مبغوضًا في المجتمع لفساده وينظر المجتمع له نظرة سوء.
إن صديق السوء لا يرضى بذلك، فتجده يستغل معرفته لمداخله فيلعب في رأسه حتى
يحول بينه وبين توبته؛ ليفسد عليه صلاحه كما لعب هو أو غيره من أصدقاء السوء عندما
أدخلوه في دوَّامة المعاصي.
وتظهر خطورة أصدقاء السوء على الواقعين في إدمان المخدرات، فإن أغلبهم - إن
لم يكن جميعهم - قد دخلوا هذه الدوامة بسبب صديق سوء، ومهما كانت الأسباب التي جعلته
يقبل على تعاطي المخدر فإنه لم يعرف المادة المخدرة والحصول عليها والترغيب فيها
إلا من صاحب سوء أرشده إليها فأوقع به وأدخله في المخدرات، ولولا أن بيَّنها له
صديق سوء لظل بعيدًا عن المخدرات؛ لأنه ولد وتربى على الجهل بها حتى بينت له من
أهل السوء.
وعندما يريد أحد من الواقعين في المخدرات الرجوع إلى الله فإن أصدقاء السوء
يبذلون كل ما في وسعهم ليفسدوا عليه ذلك سواء بتقديم الدعم أو تزيين التعاطي
والصحبة وما يتبع ذلك، مستغلين ضعفه أمام المعصية وتعرضه للمشاكل التي دفعت به
للمخدرات أو تعرضه للشوق في حداثة توبته ورجوعه إلى الله فيوقعوه في انتكاسه.
لذا لا بد للمرء أن يكون فطنًا لأصحاب السوء كي يحمي نفسه منهم.
المرء المتعرض
لأضرار أهل السوء لابد أن يكون فطنًا
وكذا العائد
إلى الله
العائد إلى الله لابد أن يكون فطنًا، ولا يكن أُلعوبة لأصدقاء السوء، فإن
هذا يدخله في دوامة المعاصي، وهذا يفسد عليه توبته، وليحذر المرء من ثقته في
قدراته ورجاحة فكره وأن أحدًا لا يستطيع أن يؤثر عليه من أصدقائه، وليعلم أنه مهما
كانت قدراته فإنه مأمور باجتناب أصدقاء السوء وهو من باب درء المفاسد، ومهما كانت
قدراته فصديق السوء يعرف كيف يلعب برأسه.
وهذه قصص تبين للمرء أن هناك من كان له رجاحة عقل ومكانة وسيادة في قومه
وأراد ترك السوء فأبى صديق السوء إلا أن يفسده؛ فلعب برأسه حتى مات على الكفر
والعياذ بالله.
قصة الوليد بن المغيرة أحد سادات قريش:
كان قد دخل على أبي بكر الصديق بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره
خرج فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة (يقصد رسول الله r)، والله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذا من
الجنون، وإنَّ قوله لمن كلام الله.
وجاء الوليد بن المغيرة إلى النبي r فقرأ عليه القرآن فكأنه رقَّ له.
لما سمع الوليد رسول الله r يقرأ القرآن قال الوليد: والله لقد سمعت منه
كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة،
وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فبلغ ذلك قريشٌ.
قالت قريش: صبأ الوليد، لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد: ريحانة قريش.
فبلغ ذلك أبو جهل بن هشام فقال: أنا والله أكفيكم شأنه؛ لأنه صاحبه([4]).
فانطلق أبو جهل بن هشام فمضى إلى الوليد حتى دخل عليه بيته وأتاه حزينًا،
فقال له: مالي أراك حزينًا. فقال له: ومالي لا أحزن؟! ثم قال أبو جهل بن هشام
للوليد: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا. قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه، وهذه
قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل
على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما.
فغضب الوليد، وقال: أقد تحدث به عشيرتي! ثم قال: قد علمت قريش أني أكثرها
مالًا، فأنتم تعرفون قدر مالي. قال أبو جهل: فقل فيه قولًا يعلم قومك أنك منكر لما
قال وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه، والله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا
أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله محمد شيئًا من
هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى
عليه. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه([5]).
فلما فكر خرج عليهم في دار الندوة وهم يجمعون رأيهم على قول يقولونه في
الرسول r قبل أن يقدم
عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه، فقال قائلون: شاعر، وقال آخرون: كاهن، وقال
آخرون: مجنون. كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه، وتكبر الوليد وقال: أنتم
تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه
شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم
عليه كذبًا قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد
رأينا للكهنة أسجاعًا فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي r يُسمَّى
الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم
عبس، فقال: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال
هذه المقولة فتوعده الله وأنزل فيه {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ
لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلًّا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا *
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلًّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا
إِلًّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}
[المدثر: 11-26] ([6]).
ومات على
الكفر، ويخلد في النار، بسبب من؟ بسبب صديق السوء، بعد أن كاد يسلم، لكن صديق
السوء؛ لأنه شخصية خبيثة لا يرضى إلا أن يجد غيره أحط منه ولا يقتصر إفساده على
أحد بل ما يبتغيه أن يرى الناس كلها أحط منه، أبو جهل بسببه الكثير ماتوا على
الكفر والشرك وليس الوليد فقط، فهذا ما فعله مع أبي طالب.
قصة أبي طالب عم الرسول r
وهو الذي كفل رسول الله r بعد موت جده عبد المطلب الذي كان يكفله حتى
توفى وله من العمر ثمان سنين، فكفله أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من
قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره،
هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان.
فمن نصرته للنبي أنه r قد خرج إلى الكعبة يومًا وأراد أن يصلي،
فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل لعنه الله: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه
صلاته. فقام ابن الزبعري فأخذ فرثًا ودمًا فلطخ به وجه النبي r، فانتفل
النبي r من صلاته،
ثم أتى أبا طالب عمه، فقال: «يا عم، ألا ترى ما فعل بي؟» فقال أبو طالب: من
فعل هذا بك؟ فقال النبي r: «عبد الله بن الزبعري». فقام أبو
طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل
القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي، فقعدوا حتى دنا
إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: «عبد الله بن الزبعري». فأخذ
أبو طالب فرثًا ودمًا فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، فنزلت هذه
الآية {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فقال النبي r: «يا عم نزلت فيك آية». قال: وما هي؟
قال: «تمنع قريشًا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي». فقال أبو طالب:
والله
لن يـــصلوا إليك بجمعهم
|
||
|
حتى
أوسد في التراب دفيــنا
|
|
فاصدع
بأمرك ما عليك غضاضة
|
||
|
وابشر
بذاك وقر منك عيـونا
|
|
ودعوتني
وزعمت أنك ناصحي
|
||
|
فقد
صدقت وكنت قبل أمينا
|
|
وعرضت
ديـــنًا قد عرفت بأنه
|
||
|
من
خيــر أديان البريــة دينا
|
|
لولا
الـمـلامة أو حذار مسبـة
|
||
|
لوجدتني
سمحًا بذاك يقينا([7])
|
|
وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله r رجالًا من
بني هاشم يحرسونه حتى نزل {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} فقال النبي r: «يا عماه، إن الله قد عصمني من الجن
والإنس فلا أحتاج إلى من يحرسني»([8]).
وعندما جاء موت أبي طالب أراد رسول الله r أن ينفعه لما قدمه من نصرة لرسول الله في
دعوته.
فعن أبي هريرة t قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي r وعنده أبو
جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، فقال له رسول الله r: «أي عم إنك أعظمهم عليَّ حقًّا، وأحسنهم
عندي يدًا، ولأنت أعظم حقًّا عليَّ من والدي، فقل كلمة تجب لك علي بها الشفاعة يوم
القيامة؛ قل: لا إله إلا الله» فقالا له أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي
أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟فسكت، فأعادها عليه رسول الله r، فقال: أنا
على ملة عبد المطلب. فمات، فقال النبي r: «لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك»
فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
[التوبة: 113] ([9]).
التوبة لا
تنفع عند الغرغرة، لكن رسول الله r
وعده بالشفاعة إن أتى بكلمة التوحيد وأبو طالب يعلم أنها الكلمة الحق وتحركت شفتاه
يريد أن يأتي بها، فلم يترك له صديقا السوء فرصة للإتيان بها، فقال له أبو جهل: أتترك دينك ودين آبائك؟ قال: لا، بل على ملة عبد
المطلب. ومات أبو طالب على الكفر، ويخلد في النار بسبب من؟ بسبب صديق السوء، فنفوس
أصدقاء السوء لا تهدأ إذا وجدت إنسانًا يترك السوء ويبتغي الصلاح حتى ترده مرة
أخرى للسوء كما حدث لعقبة بن أبي معيط.
قصة عقبة بن أبي معيط
عقبة بن أبي معيط كان من وجهاء قريش، وكان هو وأمية بن خلف الجمحي خليلين،
وكان عقبة يجالس النبي r بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا حليمًا، وكان
بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشًا، ودعا رسول
الله r فأبى أن
يأتيه إلا أن يسلم، وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد، فأسلم ونطق
بالشهادتين، فأتاه رسول الله r وأكل من طعامه، وكان خليل ابن أبي معيط أمية
بن خلف غائبًا عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ ابن أبي معيط. وقدم خليله من الشام
ليلًا، فقال: ما فعل خليلي ابن أبي معيط؟ فقالوا: صبأ. فبات بليلة سوء، فلما أصبح
أتاه ابن أبي معيط، فحياه، فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ عليّ تحيتي؟،
فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟قال: نعم، فقال عقبة:
رأيت عظيمًا ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش! فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام
إن لقيت محمدًا. قال ابن أبي معيط: فما يبرئ صدرك إن أنا فعلته؟ فقال له خليله: لا
أرضى حتى ترجع وتأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه، وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم،
وتبصق في وجهه، وتطأ عنقه، وتقول: كيت وكيت. ففعل عدو الله ما أمره به خليله، طاعة
لخليله وإرضاءً له، ولما بصق عقبة في وجه رسول الله r رجع بصاقه في وجهه، وشوى وجهه وشفتيه، حتى
أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل ذلك في وجهه حتى قُتِل، فنذر النبي r قتله، فلما
كان يوم بدر، وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا. قال: وعدني هذا
الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا. فقالوا: لك جمل أحمر لا
يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين، وحمل به
جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله r أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه ابن أبي
معيط، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: «نعم، بما بزقت في وجهي»، فأنزل
الله في ابن أبي معيط {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27].
فقتله النبي r يوم بدر صبرًا، وقُتِل أمية في المعركة،
فكان هذا من دلائل نبوة النبي r ؛ لأنه خبَّر عنهما بهذا، فقتلا على الكفر،
أشر الرجال رجل قتل نبيًّا أو قتله نبي([10]).
فلينظر كيف يؤثر صديق السوء على صديقه فيجعله يطيعه في فعل أي شيء يرضيه
ولو كان هذا الشيء إيذاء نبي.
ارتد ابن أبي معيط بعد أن أتى بالشهادة، ومات على الكفر والشرك، ويخلد في
النار بسبب من؟ بسبب صديق السوء.
ألم يكن فعل صديق السوء أمية بن خلف بصاحبه عقبة يشابهه فعل صديق السوء
الذي لا يترك صاحبه حتى يكره في أهل الطاعة والصلاح والدين وأهله ويصرفه عن الصلاة
حتى يتركها بالكلية والرسول r يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة،
فمن تركها فقد كفر»([11]).
فالذي يموت على ترك الصلاة كافر يخلد في النار.
ليس هناك فرق بين فعل صديق السوء الذي يجعل صاحبه يموت على ترك الصلاة
فيخلد في النار وبين فعل أمية بن خلف أو أبي جهل بن هشام إنها كلها نفوس فيها خبث
والاختلاف في الإمكانيات وأحوال كل منهم.
فعلى المرء أن يجتنب أصدقاء السوء، ولا يغتر ويقول أنا مصرٌّ على الصلاح،
وهؤلاء لا يستطيعون أن يزعزعوا عزيمتي، فهذا لابد له من اجتناب أصدقاء السوء،
وليعلم أنهم متى أتتهم الفرصة لعبوا برأسه وأفسدوا عليه عزمه على صلاح حاله، وقد
حدث مثل هذا مع الأعشى.
قصة الشاعر الجاهلي أعشى قيس
اسمه ميمون بن قيس، وكنيته أبو بصير، ولقب بالأعشى لضعف بصره، مولده ووفاته
في قرية منفوحة وهي الآن حي من أحياء الرياض في جهتها الجنوبية.
والأعشى من شعراء الطبقة الأولى، ومن أصحاب المعلقات عند أهل الأدب، وذاعت
أشعاره، وتغنى الناس بشعره فلقب [بصناجة العرب].
وقد أدرك الأعشى بعثة النبي r، فأعد قصيدة وتوجه إلى المدينة المنورة
ليعلن إسلامه ويمدح النبي الكريم، لكنَّ قريشًا خشيت أن ينضم ببلاغته إلى صفوف
المسلمين، فجمعت له مائة ناقة وأغرته بالرجوع([12]).
لما توجه الأعشى إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق، فقالوا
له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدًا r. فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة.
فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال:
اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهي عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل،
وقد صرت شيخًا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهي عن شرب الخمر. فقال: أما هذا
فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله
حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات([13]).
إنه كان مصرًّا وتكلف السفر لكن حين أعلمه صاحب له في قريش يعلم مداخله أن
محمدًا يحرم الخمر رجع فسقط عن بعيره فدقت عنقه ومات أشعر الشعراء، مات على الكفر
والشرك بسبب من؟ بسبب أصحاب السوء.
كيفية التعامل
مع أصدقاء السوء لحماية النفس منهم
المرء سواء وقع في شباك أهل السوء وعاد إلى الله أو لم يقع في شباكهم عليه
أن يهجر السوء حتى لا يكون لديه ذريعة لمخالطتهم.
قال r: «المهاجر
من هجر السوء»([14]).
سأل رجل رسول الله r: ما الإيمان؟ قال: «تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله والبعث بعد الموت»، قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: «الهجرة»،
قال: فما الهجرة؟ قال: «تهجر السوء»([15]).
وبهجر المرء للسوء يكون قد قلل من احتكاكه بأهل السوء مما يساعده على
اجتنابهم، وما في اجتنابهم من حماية نفسه من سوء سمعتهم وشرر أذاهم.
وبعد هجر السوء يأتي دوره في حماية نفسه سواء كان من العائدين لله أو ممن
يتعرض لأذاهم ولم يقع في شباكهم على النحو التالي:
أولًا: دور العائد إلى الله في حماية نفسه من أصدقاء
السوء
المرء العائد إلى الله عليه أن يتأمل حاله بعد التوبة وقبلها، وأن يتذكر
كيف نظرة المجتمع له لما كان مخالطًا لأصحاب السوء، والبغض الذي كان يجد من الناس
وعدم تقبلهم له، وكيف بتوبته الصادقة التي أرجعت به الله وطاعته جعلته يرضى عن
نفسه بحاله الجديد في الصلاح بعيدًا عن المعصية.
فإن مثل هذه الأمور تجعله يكره العودة إلى المعصية ويفكر في المحافظة على
حاله الطيب بين الآخرين، وتكون له دافعًا يبعد بها أهل السوء ليكسب آخرته على
النحو التالي:
1 – أن يتعامل مع صديق السوء بكل غلظة:
وأن يشعره بأنه لا يهتم فيه هو ولا أمثاله، فيصرف وجهه عند وقوع نظره عليه
ويحذر من تكرار النظر ومن أي شيء يؤدي إلى تواصل ويطرده إذا جاء منزله، يبين له
أنه لا يريده كأن يقول له بغلظة وشدة لو حضرت هنا مرة أخرى سأخبر عنك الشرطة، وكذا
إن اتصل به تليفونيًّا يقول له رقمك مسجل عندي لو اتصلت مرة أخرى سأخبر الشرطة،
وإن كرر المجيء أو طلبه مرة أخرى بالتليفون يخبر الشرطة بالفعل، وسيجد عندهم الدور
الأمني في حمايته وحماية أفراد المجتمع وتخليصه من أهل السوء.
ويحذر من الاستحياء الذي يمنعه من دفع أصحاب السوء إن أتوا – أو أحدهم –
إلى بيته دون دفعهم وردهم بكل غلظة وشدة من أول وهلة، فالحياء لابد أن يوضع في
محله، يستحي من الله الذي أمره باجتناب السوء، ولا يستحي من أهل السوء فإنهم إن
وجدوا منه الغلظة ابتعدوا عنه وعرفوا أنه أفاق من غفلته، ويتركوه وعلموا أن إرادته
في الحق قويت فلا يسعون للوقوع به، أما إن لم يستشعروا منه ذلك ردوه إلى المعصية
مرة أخرى وباعدوه عن توبته مهما كانت الظروف.
2 – الثبات على طاعة الله مهما تعرض للضغوط:
على المرء العائد إلى الله التمسك بطاعة الله وتقديمه للآخرة على النعيم
وعليه بالصبر إن تعرض للإيذاء.
وهذه قصة امرأة تركت ما كان عليه قومها من معصية لله، وتعرضت للضغوط منهم
في محاولة لاسترجاعها، لكنها ثبتت على طاعة الله ولم تنتكس.
قصة فيها تمسك
بطاعة الله وتقديم للآخرة على النعيم
مع أهل
العصيان امرأة فرعون آسية بنت مزاحم
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
[التحريم: 11].
لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، كانت تسأل من غلب؟
فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: أمنت برب موسى وهارون، وكان إيمان امرأة فرعون قبل
إيمان امرأة خازن فرعون ماشطة ابنته، وعندما أسمع الله آسية كلام روح ابن امرأة
خازن فرعون يبشر أمه بما أعده الله لها في الجنة لتصبر على الأذى وقبض الله ورح
امرأة خازن فرعون وكشف الغطاء عن ثوابها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون
، فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا.
فأطلع الله فرعون على إيمانها فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية
بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد ربًّا غيري، فقالوا له: اقتلها.
فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها وسمر يديها ورجليها وألقاها في الشمس، وذلك
عندما تبين لفرعون إسلامها، فكانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها
أظلتها الملائكة بأجنحتها، وإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها، وأرسل
إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها،
وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي. فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، وقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}
[التحريم: 11] اختارت الجار قبل الدار، {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ}خلصني منه وما
يصدر عنه من أعمال الشر {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} فأبصرت
بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وعندما دعت آسية ربها، وافق ذلك أن حضرها فرعون،
فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها، إنا نعذبها وهي
تضحك، فقبض الله روحها رضي الله عنها، انتزعت روحها وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه
روح، ولم تجد ألمًا، كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأته كفر
زوجها حين أطاعت ربها.
فإخبار الله لنا بامرأة فرعون ليتبين بقصتها هذه أن المرء لا تضره معصيةغيره إذا كان مطيعًا، فقد جعل الله حال امرأة فرعون مثالًا لحال المؤمنين ترغيبًالهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة، وأن صولة الكفر لاتضرهم كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أشد الناس كفرًا وصارت بإيمانها باللهفي جنات النعيم.
تحميل كتاب علاج أصدقاء السوء بالصحبة الطيبة PDF كتب اسلامية من هنا