مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم
الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعه
وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
ففي ظل العمل لبيان وسائل الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة
والموعظة الحسنة، والحث على إزالة الحواجز النفسية والثقافية، التي تكتنف نظرة
الغرب إلى الإسلام والمسلمين لأسباب كثيرة – خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من
سبتمبر وتقصير كثير من المسلمين في بيان محاسن دينهم قولًا وسلوكًا – يأتي الحديث
عن العقيدة الإسلامية وما اشتملت عليه من المحاسن من أهم ما يجب أن تركز عليه
الدراسات والبحوث الإسلامية اليوم، وما ينبغي على المراكز البحثية الإسلامية
الاهتمام به وترجمته ونشره على أوسع نطاق، ومن واجب العلماء والدعاة إبراز معاني
الإسلام السامية، وحقائقه الواضحة الناصعة، والتي سوف نجلي بعضًا منها فيما يأتي
من خلال:
النظر في محاسن العقيدة الإسلامية في الإيمان بالله، وما يجب له من إفراد بالعبادة والتعظيم، ونفي الوسائط
بينه وبين خلقه في العبادة، والحب والخوف، إلى غير ذلك مما يمثل نوعًا من العبودية
لله سبحانه دون النظرة السلبية التي تتحدث عنها كتب الفلسفة اليونانية، وغيرها من
الفلسفات الوضعية الإلحادية بتصوير علاقة الصراع بين الإله أو الآلهة وبين البشر
كنوع وحيد وبغيض من العلاقة!
وفي هذا البحث تظهر محاسن العقيدة الإسلامية في الإيمان
بالغيب، وكيف أن مثل ذلك الاعتقاد يربي النفس على المراقبة والحياء، ويرقى بها إلى
أفق سام تصل به إلى عالم من الكمال المقدر للبشر أن يبلغوه من خلال التشبه بالكمل
من مخلوقات الله كالملائكة، فيما يمكن التشبه بهم من حسن طاعة ودوام خضوع وعبودية
لله تعالى، وفي الحذر من أخلاق الشياطين والحذر من كيدهم ووساوسهم.
ويجلي البحث محاسن الإسلام في الإيمان بالرسل والكتب،
وأنه يجب الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله وأن الكفر بواحد منهم كفر بالجميع،
وإيمانه بجميع ما أنزل الله من كتب سماوية كانت في أصلها هادية للناس ومبينة لهم
طريق الرشاد، وختمت بالقرآن الكريم الذي جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا
عليه.
كما نرى أيضًا دعوة إلى حسن النية وإخلاصها في كل ما
يأتيه المرء من قول أو فعل، والمتابعة للنبي r.
وفي نظرتها للإنسان وما احتوت عليه هذه النظرة من ارتقاء
بالجنس البشري وإعلاء لقيمة الإنسان ينطلق البحث من معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ
مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
فيبين حدود حرية الإنسان، واختياراته في الفعل والترك،
ومن ثم عدم إجبار أحد من الخلق على اعتناق أي شريعة كانت، ولو كانت هذه العقيدة هي
عقيدة الإسلام، فإنها بينة واضحة في دلائلها وبراهينها، يدخلها من شرح الله له
صدره، ونور بصيرته، وذلك انطلاقًا من قول الله جل شأنه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لا انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
كما يتضح من خلال هذا المبحث مدى الكرامة التي يوليها
الشرع الحنيف للإنسان من خلال اعتبار المسؤولية وتحديدها، وأن الإنسان لا يؤاخذ
إلا بما جنت يداه، وأنه بتعبير القرآن الكريم: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ويوضح الباحث – في إيجاز – مدى عناية أحكام العقيدة
الإسلامية بأهل ذمة المسلمين وعهدهم، وحمايتها لحقوقهم وصيانتها لكرامتهم، بله
دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ومنع التعدي عليهم أو إكراههم على ترك دينهم
ومعتقداتهم، لأن من محاسن العقيدة الإسلامية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، كل ذلك بما يحقق لهم التعايش مع المسلمين في بلد واحد
تحت غطاء من احترام الحقوق، وأداء الواجبات، والبر والإحسان على ما سيأتي بيانه إن
شاء الله.
وأخيرًا يعرض الباحث لأهمية العلم في المعتقد الإسلامي،
ومكانة العلماء، ويبين جانبًا مما قامت عليه العقيدة الإسلامية من أدلة وبراهين
يقينية، وكيف أنها نعت على المقلدين – دون برهان أو دليل – تقليدهم، ودعت في أكثر
من موضع إلى إعمال العقل والسير في الأرض تأملًا، وتدبرًا في ملكوت الله؛ بغية
الوصول إلى الحق والخير.
سبب اختيار
الموضوع:
1- إبراز محاسن الدين الإسلامي، وخاصة بعد أحداث الحادي
عشر من سبتمبر، وآثر الباحث اختيار الجانب العقدي لقلة المصادر التي رصدت هذا
الجانب حسب اطلاعي.
2- ببيان محاسن العقيدة الإسلامية تتجلى البساطة والوضوح
في العلاقة التي بين الخالق والمخلوق التي يدعو إليها الإسلام؛ حيث لا واسطة
بينهما إلا الاتصال المباشر بالذكر والدعاء والعبادة القلبية والعملية وفق ما جاء
في وصف الرب تعالى من أنه واحد لا شريك له، ومن أنه قريب يجيب دعوة من دعاه في أي
لحظة من ليل أو نهار، وبكونه تعالى غفارًا للذنوب وقابلًا للتوبة من عباده دون
وسيط أو شفيع في هذه الدنيا.
3- بيان موقف الإسلام من الإيمان بالأنبياء والرسل
جميعًا، وكيف أنه عده ركنًا من أركان الإيمان الإسلامي، ولازمة من لوازم الإيمان
بمحمد r.
4- الدفاع عن الأنبياء جميعًا، من خلال ذكر فضائلهم
والثناء عليهم، والدعوة إلى تعظيم شأنهم واحترامهم أشد الاحترام، وإيضاح اتفاقهم
جميعًا على غاية دعوتهم وهي توحيد الله تعالى، وبيان زيف وتحريف من اتهمهم من
أعدائهم.
5- بيان السيرة التاريخية للإسلام في حسن تعامله مع أهل
الملل الأخرى، وأنهم لا يُكرهون على الدخول في الإسلام، ونفي ما يتردد على ألسنة
البعض بأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن المسلمين أكرهوا أهل البلاد المفتوحة على
الدخول في الإسلام.
6- ومن أهداف هذا البحث أيضًا تعميق الحوار مع أهل
الديانات الأخرى وخاصة أهل الكتاب منهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، باتخاذ بيان
المحاسن العقدية للإسلام أسلوبًا خاصًا في الحوار والتواصل الفكري، باعتبارها
عقيدة الفطرة التي فُطر عليها الناس جميعًا، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
خطة البحث:
وبعد، فقد جاء هذا البحث في: مقدمة، وأربعة مباحث،
وخاتمة، على النحو التالي:
· مقدمة.
· المبحث
الأول: محاسن العقيدة في الإيمان بالله تعالى.
· المبحث
الثاني: محاسن العقيدة في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر
خيره وشره.
· المبحث
الثالث: محاسن العقيدة في نظرتها للإنسان.
· المبحث
الرابع: محاسن العقيدة في الجانب العلمي.
· خاتمة،
وفيها أهم نتائج البحث.
والله نسأل السداد والتوفيق
المبحث الأول
محاسن العقيدة في الإيمان بالله تعالى
يعد الإيمان بالله تعالى من أجل المهمات، وإفراد الله
تعالى بالعبادة قطب رحى الرسالات وأوجب التكليفات الشرعية؛ فهي وظيفة الرسل ومهمة
الأنبياء، كما قال تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وحيث إن شرف العلم بشرف المعلوم وبأثر ذلك؛ فلا شك أن
إفراد الله تعالى له آثاره المرضية؛ إذ يورث الحياة الطيبة، وتطمئن النفس بحسن
توكلها على الله وتعلقها به، كما يحصل به الاستخلاف في الأرض والتمكين للدين.
لهذا وغيره جاءت العقيدة الإسلامية بمحاسن ومزايا في هذا
الجانب المهم من أصول الإيمان الستة، ومنها:
1- سمة
الربانية ووحدة المصدر
إن الربانية تعني: النسبة إلى الرب، فالعقيدة الإسلامية
مصدرها واحد هو الله تعالى، هذا المصدر الذي ضمنه في القرآن الذي هو وحيه وكلامه
إلى رسول الله r([1]).
قال تعالى: {وَإِنَّكَ
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].
وقال عز من قائل: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2].
ومما يترتب على معرفتنا بهذا المصدر أن نعلم أنه محفوظ
من التحريف أو التبديل أو الزيادة أو النقصان، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقد اقتضى هذا حفظه على الهيئة التي نزل بها، لم تلحقه يد
تبديل أو تحريف، قال تعالى: {وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
قال البيضاوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «لا أحد
يبدل شيئًا منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعًا ذائعًا كما
فعل بالتوراة... فيكون ضمانًا لها من الله I بالحفظ»([2]).
فالمنهج المعتبر في تفسير آيات القرآن الكريم – باعتباره
المصدر الأول للعقيدة الإسلامية – هو طلب معرفة النص من القرآن نفسه؛ فهو أحسن
طريق لمعرفة مراد المتكلم.
وعلة هذا المنهج أن هذا المصدر هو وحي الله الذي لم تشبه
شائبة نقص أو جهل أو قصور، فنجده يفسر بعضه بعضًا، فليس فيه تناقض ولا اضطراب.
فإن لم يتيسر فهم النص القرآني من النص نفسه، طلبه
المفسر من سنة النبي r.
وعلة هذا أن السنة النبوية هي وحي من عند الله كذلك، قال
تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
إذن فالمصدران الأساسيان الأصليان للعقيدة الإسلامية هما
من عند الله، وقد تكفل الله بحفظ كتابه من التحريف والتغيير بزيادة أو نقصان. وليس
كما حدث للعقائد والديانات الأخرى التي ظهر فيها من التناقض والاضطراب؛ مما جعل
كثيرًا من أتباعها يعزفون عن تعاليمها، بل ويكفرون بها، وذلك راجع لفساد مصادرها
الناتج عن التحريف والتبديل اللذين لحقا بها على يد البشر من أتباعها أو من غيرهم([3]).
أما العقيدة الإسلامية فظلت وستظل نقية خالصة كما جاء
بها القرآن وصحيح السنة؛ ولهذا كانت عقيدة سهلة يقبلها العقل السوي والفطرة
النقية.
ومن محاسن هذا المحور ما يأتي:
· كمال
العقيدة وخلوها من النقائص.
· العصمة من
التناقض والاضطراب.
· السهولة
واليسر والبعد عن التعقيد.
· تحقيق مصالح
العباد النفسية والروحية، ودرء المفاسد عنهم في أهم جوانب حياتهم([4]).
2- العقيدة
الإسلامية منهج توقيفي
العقيدة الإسلامية منهج توقيفي يقوم على نصوص الوحي، ولا
يعتمد على الرأي أو القياس أو الذوق..إلخ([5])؛
لأن هذه الأخيرة تتغير من شخص إلى آخر، فلا تنضبط معها عقيدة ولا منهج، قال الله
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا
أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ
إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:
48].
3- وضوح
وبساطة العقيدة الإسلامية في بيان وحدانية الله تعالى وتقرير ربوبيته وألوهيته
جاءت العقيدة الإسلامية واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا
خفاء ولا التواء، ففي وضوح لا خفاء معه صرحت آيات القرآن الكريم بوحدانية الله
تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].
كما أقامت الدليل الواضح على إفراده بالألوهية، وجاء على
ذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].
«فالله هو الإله الواحد المتفرد بالألوهية، لا شريك له
ولا صاحبة ولا ولد؛ لأن أي إضافة له سبحانه من شريك أو زوج أو ولد لا يكون إلا
لدفع ضرر، أو جلب خير، أو سد نقص، وهذا مما يناقض الكمال المطلق الذي ينبغي أن
يكون لمالك الملك كله»([6]).
وقررت العقيدة الإسلامية ربوبية الله تعالى لخلقه، وبينت
مظاهره هذه الربوبية، ودعت إلى التفكر في هذه المظاهر، وعليه جاء قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ
السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ
أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
وبعد أن أثبتت هذه الآيات الوحدانية والربوبية لله
تعالى، دعت إلى إفراده U بالعبادة والتأله؛ ذلك بأنه هو المستحق
للطاعة والخضوع والانقياد، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لأجل هذا الغرض، قال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ
اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ويقتضي تفرده في الألوهية التامة الكاملة التفرد في جميع
صفاته وأسمائه، فكما أنه لا شريك له في ذاته في استحقاقه للألوهية وحده دون شريك،
فكذلك لا شريك له في أسمائه وصفاته.
ومما يزيد محاسن اعتقاداتنا في الله وإيماننا بأسمائه
وصفاته وضوحًا: أن نعلم مدى التأثير الذي يحدثه مثل ذلك الإيمان في النفس
الإنسانية، ومن ثم لا نعجب حين نرى – مثلًا – الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) يقول:
«إن لإضافة العلم الكامل لله أثرًا في سلوكي؛ لأنها تجعلني أعتقد أنه يمكنه رؤية
أفعالي في الظلام!»([7]).
ولعل نظرة في كتب كثير من الديانات حتى الكتابية منها،
تتجلى لنا بها محاسن العقيدة الإسلامية في هذا الصدد، حيث نرى مدى التعقيد والغموض
الذي يكتنف معنى الوحدانية في تلك الديانات بعد أن حُرفت، كما نجد مدى التعدد الذي
وصل إليه الهنود حيال الإله؛ فـ«كل قوة طبيعية تنفعهم أو تضرهم يعدونها إلهًا،
ويستنصرون به في الشدائد، كالماء والنار والأنهار والجبال وغيرها»([8]).
ثم ساق المؤلف جملةً من اعتقاداتهم في التوحيد مستخرجًا
إياها من كتبهم التي يدعون أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى – عليه وعلى
نبينا الصلاة والسلام -([9]).
وعند النصارى نرى الوحدانية هي إله واحد الأب والابن
والروح القدس، ثم يقسمون الوظائف والأعمال والتدابير الكونية بين هؤلاء الثلاثة،
ويزعمون مع ذلك أن هذه هي الوحدانية، بينما هي في الواقع جمع بين الضدين،
فالوحدانية تنفي الشريك، والشريك ينفي الوحدانية، فلا يمكن أن يجتمعا كالسواد
والبياض، ثم تتداخل الأقانيم وتختلط الوظائف فلا نعرف ماهية الإله عندهم تحديدًا،
ولا هم يعرفون([10])!
قال تعالى: {وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ
ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن
قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
وقال تعالى: {لَّقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلَّا
إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].
وقد شهد بهذه العقيدة – عقيدة التوحيد لدى المسلمين –
الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) قائلًا: «كانت ديانة النبي محمد توحيدًا
بسيطًا، ليس فيه التعقيد الذي نراه في عقيدة الثالوث والتجسيد، ولم يزعم النبي
لنفسه أنه إلهي، ولا زعم له أتباعه هذه الطبيعة الإلهية نيابة عنه، وجعل واجبًا على
المسلمين أن يفتحوا من العالم ما وسعهم فتحه في سبيل الإسلام، على ألا يسمح لهم
خلال ذلك باضطهاد المسيحيين أو اليهود»([11]).
4- العمل
بإخلاص يعتبر في عقيدة الإسلام عبادة لله
إن من أهم ما تميزت به العقيدة الإسلامية أنها جعلت كل
حركة للإنسان أو سكون – إذا صح منه وكان ذلك مشروعًا وأريد به وجه الله تعالى –
داخلًا في معنى العبادة، ولذا جاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الأنعام:
162]([12]).
وما دامت هذه الحياة بما فيها من أقوال وأفعال فيجب
الإحسان في أدائها، والإحسان هنا لا يأتي من مؤثر خارجي، بل الدافع له هو العقيدة
التي يؤمن بها، وتدعوه إلى ذلك، فيحرس كل مسلم عمله، ويحافظ عليه كعبادة يؤديها،
لا يبتغي بذلك رياءً ولا سمعة، بل يرجو الأجر من الله، ويظل على ذلك رجاء قبول
عمله.
وإذا كان هذا شأن جميع الأعمال، فهي في مجال العبادات
والشعائر آكد، فلا يجوز صرف صلاة أو نسك أو دعاء أو استغاثة لغير الله؛ لا لنبي
مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لولي صالح، ولا لمعظم في عشيرة أو جماعة، فضلًا عن عامة
البشر والقبور والأشجار والأحجار...إلخ.
وقد حذرت أحكام العقيدة الإسلامية من صرف أي نوع من
أنواع العبادات لغير الله أيما تحذير، وعدت ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله إن
مات صاحبه عليه، ولتمام ذلك جعلت العقيدة الصلة بين العبد وربه – كما قدمت سابقًا
– صلة مباشرة، لا تحتمل وسيطًا من بشر أو ملك أو غيرهما، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} [البقرة:
186].
5- دعوة
العقيدة لتعظيم الله تعالى وإجلاله من خلال النظر في الآيات الكونية والتأمل في
بديع صنعها
حيث عرضت العقيدة مظاهر هذه العظمة من خلال الدعوة إلى
النظر في كتاب الله المفتوح، وهو الكون الفسيح، فحين يرى المؤمن ما حوله من
المخلوقات والكائنات، وما يبدو فيها من عظمة الخالق وقدرته التي ليست لها حدود،
يمتلئ قلبه بتعظيم الله وإجلاله([13]).
قال تعالى: {أَوَلَمْ
يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 19-21].
ففي هذه الآيات أمر الله تعالى عباده بالنظر العلمي
المتتبع لمعرفة كيف بدأ الخلق؟ فيستدلوا من بدء الخلق على حاجته إلى خالق عظيم
أحدثه بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، وأن هذا الخالق هو القادر على إعادته وإنشائه
النشأة الآخرة بعد الموت والفناء([14]).
وقال تعالى: {أَفَلَمْ
يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا
لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ
عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ
نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ
الْخُرُوجُ} [ق: 6-11].
ففي هذا النص دعوة إلى النظر في أجزاء تفصيلية من الكون
لاكتشاف آيات الله فيه الدالات على عظم الخالق، من حيث القدرة والتدبير والحكمة
التي تحكم هذا الكون، فلا يضطرب ولا يختل توازنه، كما أخبر بذلك الرب جلت قدرته: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا
وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]([15]).
وقال عز من قائل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تدل على عظمة الله
سبحانه في الخلق والرزق والتقدير، وبما تدل على آثار قدرة عظيمة، وعلم محيط، وحكمة
بالغة، ورحمة واسعة... إلى غير ذلك من صفات الكمال التي هي صفات الخالق القادر
المدبر الحكيم العليم الخبير.
6- دعوة
العقيدة الإسلامية لمحبة الله والشوق إليه مع الخوف منه والرهبة
محبة الله في عقيدة الإسلام تعد من الإيمان بالله تعالى،
بل لا يصح إيمان إنسان إلا بوجودها وكذلك الخوف منه.
ونصوص القرآن والسنة بما فيها من تذكير بنعم الله،
وإفضاله على الإنسان، مما يقوي باعث المحبة والشوق لله تعالى، كما أن آيات الوعيد
توجب على الإنسان الخوف والاستعداد ليوم الجزاء.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: «أما المتدين فخضوعه
شعوري اختياري معًا، وهو حين يخشع لمعبوده ويسجد لعظمته يفعل ذلك عن طواعية لا عن
كراهية، لأنه يقوم في ذلك بحركة نفسية من التمجيد والتقديس تأبى طبيعتها أن تؤخذ
قهرًا، وإنما تعطى وتمنح لمن يستحقها متى اقتنعت النفس بهذا الاستحقاق، نعم إن
هناك نوعًا من الإكراه (وهو الإكراه غير المباشر كالتهديد بالعقاب) يمكن أن يفضي
إلى مظهر من مظاهر التعظيم، وصورة من صوره المادية، ولكنه لا يمكن أن يتولد عنه
حقيقة التعظيم ولا صورته القلبية»([16]).
وكان مما وصف الله به عباده المصطفين أن قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ
وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ففي قلوب بني آدم محبة لما
يتألهونه ويعبدونه، وذلك قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم، كما أن فيهم محبةً لما
يطعمونه، وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم، ويدوم شملهم»([17]).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «أصل التوحيد وروحه:
إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التأله، والتعبد، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم
التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق جميع المحاب، وتغلبها، ويكون لها الحكم
عليها؛ بحيث تكون سائر محاب العبد تبعًا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه»([18]).
فليس هو الإله المتسلط، الجبار، المنتقم من خلقه، كما
تصوره كتب العهد القديم، أو الأساطير الإغريقية، أو هو العاشق لسفك الدماء، بل هو
الودود، الرحيم، البر، الكريم جل جلاله.
وتتضح محاسن هذه العقيدة في هذا الجانب، في إيثارها
الوسطية والتوازن بين الحب والخوف، فالله تعالى كما يُحب، يُخاف من بطشه، وكما
تُرجى رحمته، لا يُؤمن مكره؛ مما يكون دافعًا للمؤمن إلى العمل وعدم اليأس والقنوط
وقاطعًا للأماني والغرور.
قال تعالى: {إِنَّ
رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165].
هذا وقد رُدت مذاهب كثيرة قامت على تفسير ظاهرة التدين
في الجنس البشري، بسبب اعتمادها على الخوف والرهبة من الطبيعة، وما يُرى من
تقلباتها؛ لأن الخوف وحده لا يثمر إيمانًا حقيقيًا، بل لا بد معه من رجاء وحب([19])، وهذا ما
قامت عليه عقيدة الإسلام.
7- دعوة
العقيدة للتوكل على الله تعالى والاعتماد عليه والتعلق به
والتوكل: «هو صدق اعتماد القلب على الله U، في استجلاب
المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها»([20]).
وهذا بلا شك ناتج عن معرفة العبد بربه، وإيمانه بقدرته
العظيمة الشاملة، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه سبحانه يدافع عن الذين آمنوا،
وكذلك اليقين بأن الله تعالى إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، لا يمنعه من ذلك
مانع، حين يعلم العبد ذلك ينصرف اعتماده وتوكله على الله وحده، بحيث لا يتوكل على
غيره أبدًا، قال تعالى: {قُلْ
هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
قال تعالى: {وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3].
فثمرة التوكل العاجلة هي الإقدام على العمل في حزم،
وإتيان الأسباب في غير توان، ووضع المقدمات في غير حيرة ولا تردد، مع طمأنينة
القلب، وهدوء البال، واستراحة الضمير، فلا قلق للمتوكل على الله، ولا مخاوف تنتابه
في الحياة([21]).
كما دعت العقيدة الإسلامية إلى نبذ التواكل والضعف
والاستكانة، قال تعالى: {وَكَأَيِّن
مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
ومن توكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله،
كالتوكل على الموتى والغائبين ونحوهم في دفع المضار، وتحصيل المنافع والأرزاق
والأولاد – فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
كما أن مما يعد من محاسن العقيدة أنها دعت المؤمن إلى
الافتقار إلى الله، واللجوء إليه والدعاء؛ كي ينال التوفيق والهداية، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} [البقرة:
186].
وعن النعمان بن بشير t قال: قال رسول الله r: «إن الدعاء هو العبادة»([22]). ثم قرأ:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
8- الواسطة
بين الإنسان وخالقه سبحانه
مما امتازت به العقيدة الإسلامية أنها جعلت الباب
مفتوحًا دائمًا بين العبد وربه U، دون وسيطٍ أو حاجبٍ من ملك أو رسول أو
ولي...إلخ([23]).
بل جعلت اتخاذ الوسطاء في العبادة نوعًا من الإشراك بالله،
ولذا نعى الله تعالى على المشركين عبادتهم للأصنام التي زعموا أنها تقربهم إليه،
قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].
كما وضح سبحانه أن أحدًا لا يملك الشفاعة لأحدٍ إلا بإذن
من الله تعالى، بل إن هؤلاء المدعوين والوسائط أنفسهم يريدون الوسيلة التي تقربهم
إلى الله، وترضيه عنهم، قال عز من قائل: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
فقد فتح الله كل طريق يلج منه العبد إليه كي يناجيه
ويستغفره في أي وقت شاء، قال تعالى: {وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فليس في الإسلام رجال كهنوت أو قساوسة يتوسطون للناس عند
ربهم، أو يعترف المذنبون بين أيديهم بما اكتسبوا من خطايا؛ ليغفروها لهم([24]).
9- لا يعلم
الغيب إلا الله تعالى
أكدت العقيدة الإسلامية على أهمية الإيمان بالغيب، وأكدت
في الوقت نفسه على أن الإيمان بأن الله وحده هو الذي يحيط بعلم الغيب يعد من ركائز
الإيمان العظيمة، أما البشر فليسوا مهيئين بتكوينهم هذا للاطلاع على شيء من الغيب،
وليس البشر وحدهم، بل الجن، والملائكة، كل أولئك لا قبل لهم بعلم الغيب، وأدلة
القرآن في هذا كثيرة وواضحة([25]).
قال تعالى: {قُل
لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
وقال تعالى: {فَلَمَّا
قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].
وعليه فقد سد هذا الركن الباب في وجه من يدعي علم الغيب،
من العرافين والكهنة وغيرهم، وكان موقف الإسلام منهم حاسمًا حازمًا، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ
عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221-223]، بل جاء التحذير والوعيد لمن صدقهم
فيما يزعمون، أو ذهب إليهم، قال رسول الله r: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له
صلاة أربعين ليلة»([26]).
وقال r أيضًا: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول
فقد كفر بما أنزل على محمد»([27]).
ولا شك أن هذا المعتقد يحقق للمسلم حفظ عقله من اتباع
الأوهام والخرافات، وأيضًا يحفظ عليه أمواله التي ينفقها لهؤلاء([28]).
كما وجهت الشريعة الغراء أولي الأمر من هذه الأمة، للتصدي
لهؤلاء، وإقامة الحدود والتعزيرات عليهم.
قال شارح العقيدة الطحاوية: «الواجب على ولي الأمر وكل
قادر، أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل
والحصى والقرع والقالات، ومنعم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو أن يدخلوا على
الناس في منازلهم»([29]).
هذا وقد وجهت العقيدة المسلم إلى التفاؤل، واستحبت له
ذلك، وكذلك أرشدته إلى الاستخارة والاستشارة من أولي النهى والتجربة، وجعلت كفارة
التطير أو التشاؤم أن يقول المرء هذا الدعاء: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا
خيرك، ولا إله غيرك»([30]).
* * *
المبحث الثاني
محاسن العقيدة في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل
واليوم الآخر والقدر
10- الملائكة
الكرام ومكانتهم ووظائفهم في عقيدة الإسلام
يعد الإيمان بالملائكة الركن الثاني من أركان الإيمان
الستة التي هي أصول الإيمان عند المسلمين.
والملائكة هم خلق من خلق الله، خلقوا من النور، وجعلهم
الله طائعين متذللين له، ولبعضهم وظائف خصه الله بها.
وقد أجمل ابن القيم بعض أعمالهم فقال: «منهم أولياء
الإنسان وأنصاره، وحفظته ومعلموه، وناصحوه والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين
يصلون عليه ما دام في طاعة ربه، ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير، ويبشرونه
بكرامة الله تعالى في منامه وعند موته ويوم بعثه، وهم الذين يزهدونه في الدنيا
ويرغبونه في الآخرة، وهم الذين يذكرونه إذا نسي، وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا
جزع، وهم الذين يسعون في مصالح دينه ودنياه وآخرته...إلخ»([31]).
ومن محاسن العقيدة الإسلامية توضيح مكانة ووظيفة
الملائكة الكرام ليزداد المسلم تعظيمًا ومحبة لهم، وحياءً منهم، وإكرامًا لهم،
ونفت عنهم ما نُسب إليهم من المشركين حيث قالوا: إنهم بنات الله. تعالى الله عما
يقولون علوًا كبيرًا! وحثت المؤمن على احترامهم وحبهم وإكرامهم، وعدم التعرض لهم
بالأذى، وعدم الاعتداء بالقول وغيره.
كما بينت العقيدة الإسلامية مقام الملائكة وعباداتهم،
فهم لا يستكبرون عن عبادة الله ويسبحونه وله يسجدون.
«ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم
من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ
مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:
28]، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم
المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، ولا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا
يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء: 19-20]»([32]).
ونعى القرآن على اليهود بغضهم لجبريل u، وهو من
الملائكة الكرام، حيث قال اليهود: إنه عدو لنا. فرد الله عليهم قولهم: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].
11- الأنبياء
والرسل في العقيدة الإسلامية
من محاسن العقيدة الإسلامية توضيح حقيقة الأنبياء
والرسل، ومكانتهم، ووظيفتهم، كما بينت واجبنا نحوهم كالإيمان بهم جميعًا،
وتعظيمهم، واحترامهم، والقيام بجميع حقوقهم علينا – صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين -.
يقول ابن القيم: «فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا
في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث
إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم... إلخ»([33]).
كما بينت مكانتهم وخيريتهم على البشر؛ بما يدفع إلى
توقيرهم، واتباع هديهم، كما قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ
بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ *
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 89-90].
ومن أهم محاسن العقيدة الإسلامية الإيمان بجميع الأنبياء
والرسل دون تفرقة بين أحد منهم بهوى أو رأي، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
فالمسلم يحب موسى وعيسى – عليهما السلام – كما يحب
محمدًا r، ويجلهما
ويكبرهما كإجلاله محمدًا وإكباره إياه، واليهودي الذي دخل النصرانية لما جاء بها
المسيح u لم يخسر
موسى u ولكنه ربح
معه عيسى u، والنصراني
الذي يدخل اليوم في الإسلام لا يخسر عيسى وموسى ولكنه يربح معهما محمدًا r.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والله تعالى بعث الرسل
وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، وقال النبي r في الحديث الصحيح: «إنا معشر الأنبياء ديننا
واحد»([34])، فالدين
واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا
مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ
اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]»([35]).
والدفاع عن موسى u وعيسى u في العقيدة الإسلامية مثل الدفاع عن رسولنا r، كما أوضحت
العقيدة أن وظيفة الأنبياء هي تبليغ الرسالات، والدعوة إلى الله تعالى، والتبشير
والإنذار، وإصلاح النفوس وتزكيتها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
وليس من وظيفتهم تخليص البشرية من الخطيئة، ولا ورد مثله
عن نبي من الأنبياء.
12- دعوة
العقيدة إلى الإيمان بالكتب السماوية جميعًا
من أسس الإيمان في الإسلام أن يؤمن المسلم ويصدق تصديقًا
جازمًا بما أوحى الله تعالى من كلامه إلى من اصطفى من رسله.
فينبغي الإيمان بكل ما أنزل الله من كتب سماوية على وجه
الإجمال، كما جاء في قوله تعالى: {كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} [البقرة: 213].
وقال U: {لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
وقد جاء في القرآن الكريم بيان شافٍ لكثير من الكتب
والصحف التي أنزلها الله على رسله – عليهم الصلاة والسلام -، منها: التوراة،
والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى – عليهما السلام -.
وقد ورد في آيات أخرى بعض ما جاء في هذه الكتب السماوية
من أحكام وأخبار مثل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ
بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ
اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
وقد وردت إشارات أيضًا تتحدث عن بعض ما جاء في صحف
إبراهيم وموسى عليهما السلام كما في قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى} [الأعلى: 16-19].
وبعد، فهذه الكتب التي ذكرت في القرآن بأسمائها وصفاتها،
يؤمن بها المؤمن كما ذكرت مفصلة بلا زيادة ولا نقصان، ولا يجوز أن يؤمن ببعضها
ويكفر ببعض تعصبًا أو تكبرًا، قال جل شأنه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وقد جاء القرآن الكريم مهيمنًا على هذه الكتب، ورقيبًا
عليها وحفيظًا عليها ومعترفًا بصدقها ومقررًا لها، فقد حفظه الله من التحريف
والتبديل والزيادة والنقص لفظًا ومعنى.
وجاءت آياته موافقة للكتب السابقة في كثير من الغايات
والمقاصد والأصول التي لا تختلف باختلاف الشرائع والرسالات، فنجد فيه:
1- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم
الآخر.
2- فيه توافق مع الكتب السابقة في أصول الشرائع كالصلاة
والصيام والزكاة.
3- يتفق مع الكتب السابقة في الدعوة إلى الفضائل،
والترغيب فيها، والترهيب من الرذائل والتنفير منها([36]).
13- تفصيل
العقيدة لأحوال الآخرة
لم تحظ الدار الآخرة – دار الجزاء – بتفصيل وإيضاح
لمراحلها، ونوع الحياة فيها وطبيعتها، مثلما حظيت به في العقيدة الإسلامية،
فالآيات القرآنية في هذا الصدد أكثر من أن تحصى، علاوة على ذلك فإن ذكر نعيم
الآخرة يبعث على قلة الركون إلى الدنيا، فيجعلها مزرعة للآخرة، يؤدي فيها المرء حق
الله تعالى خضوعًا وعبادةً، ويدعوه كذلك إلى التهاون بأحزانها ومصائبها، والصبر
عليها، وعلى مضض الشهوات؛ احتسابًا وثقةً بما عند الله من حسن الجزاء والثواب، كما
أنه يدعو للتأهب والاستعداد للحساب، ويدعو أيضًا لاجتناب الظلم بكل صوره، ويزيد من
شوق المرء إلى الجنة وما فيها.
أ- حتمية البعث بعد الموت: قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
ب- الجمع بين الأولين والآخرين: قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 38].
جـ- صنوف النعيم لأهل الجنة: قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ
لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ
أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 42-43]، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ
مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ
مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15].
وعلى النقيض لم تذكر الدار الآخرة في الكتب السابقة التي
حُرفت إلا قليلًا([37]).
تحميل كتاب محاسن العقيدة الإسلامية PDF كتب اسلامية من هنا