المبحث
الأول
التعريف
بالتقوى
المطلب
الأول
التقوى
في لغة العرب
نقل
ابن منظور في معجمه الكبير [لسان العرب: 3/ 971 – 973] عن ابن الأعرابي أنَّ:
التُّقاة، والتَّقيَّة، والتقوى، والاتِّقاء بمعنى واحد، وبيَّن ابن منظور أنَّ
معنى وقاه الله وقياً ووقاية: صانه، تقول: وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته من
الأذى، وتوقَّى، واتقى بمعنى. والوقاء والوقاء والوقاية: كلّ ما وفيت به شيئاً،
ووقاك الله شرَّ فلان وقاية، أي: حفظك، وقال أبوبكر: رجل تقي، ويجمع أتقياء، معناه
أنه موقٍ نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح، وفي الحديث: «كنا إذا احمرَّ
البأس اتقينا برسول الله r"أي"
جعلناه وقاية لنا من العدو قدامنا، واستقبلنا العدوَّ به، وقمنا خلفه، وقال أفنون
التغلبي:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي
|
إذ هو لم يجعل له الله واقيا
|
المطلب الثاني
تعريف
التقوى في الاصطلاح
قال شيخنا
الشيخ عبد الله العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: "تقوى الله سبحانه، هي
عبادته، بفعل الأوامر وترك النواهي عن خوف من الله وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية
له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له سبحانه ولرسوله r"
[محاضرة نشرتها مجلة البحوث الإسلامية، الرياض، العدد: 59].
وهذا تعريف
جامع للتقوى في الشرع، فالتقوى تكون بعبادة الله تعالى بفعل الواجبات والمستحبات،
وترك المحرمات والمكروهات الصادرة عن خوف الله وخشيته ومحبته، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]
وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}
[البقرة: 281].
والتقوى التي
في القلب ليست قاصرة على الخوف والخشية، فقد عدَّاها شيخنا إلى الخوف والخشية
والرغبة فيما عند الله، وإلى تعظيم حرمته، وهذا صحيح، فإن التقوى هي مجموع ما في
القلب من خوف الله وخشيته وتوقيره و وتعظيه ومراقبته، وطلب ما عنده.
وقد قصَّر بعض
أهل العلم في تعريف التقوى عندما قصروها على فعل المأمورات وترك المنهيات، ومن ذلك
قول أبي عبد الله التونسي: "حقيقة التقوى عبارة عن امتثال المأمورات واجتناب
المنهيات" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 257].
فإن قصرها على
فعل المأمورات وترك المنهيات، ولم يذكر ما حلَّ في القلب منها.
ومن التعريفات
التي قصَّرت في تعريف التقوى تعريف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز t، فإنه قال: "التقوى ترك ما حرَّم الله،
وأداء ما افترض الله" [المطلع على أبواب المقنع: ص99]، ومنها تعريف الكفوي
حيث قال: "المتقي في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عمّا يضره في الآخرة، وهو
الشرك المفضي إلى العذاب المخلد" [الكليات: ص 38]. فقد قصر التعريف الأول
التقوى على ترك المحرمات وفعل الفرائض، ولم يذكر ما في القلب، والتعريف الثاني
قصرها على الشرك المفضي إلى العذاب.
ومن التعريفات
الحسنة للتقوى ما عرفها به الراغب الأصفهاني، فإنه قال: "التقوى جعل النفس في
وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفاً حسب تسمية
مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه، وصار التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما
يؤثم، وذلك بترك المحظور" [المفردات" 530].
ومن أجود ما
ورد في تعريف التقوى ما قاله التابعي طلق بن حبيب، فإنه قال: "التقوى أن تعمل
بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من
الله تخاف عقاب الله" [كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك (ص 473)، فقرة (1343)
وجامع العلوم والحكم: (ص 149)]. فالتقوى لها جنحان، الأول: فعل الطاعات، والثاني:
اجتناب معصية الله، وكلاهما صادر عن نور الله، ويريد بالنور الدليل الذي أمر
بالطاعة، ونهى عن المعصية، والمتقي يفعل ما فعله يريد ثواب الله عزَّ وجلَّ، ويترك
ما نهي عنه يريد النجاة من عذاب الله.
ومن التعريفات
الجميلة للتقوى التي ذكرها بعض المتأخرين: "التقوى هي الخوف من الجليل،
والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
المطلب
الثالث
من
التقوى أن تعبد الله رجاء جنته وخوف ناره
زعم بعض
العباد والزهاد الذين قلَّ حظهم من العلم
الشرعي أنهم يعبدون الله تعالى لذاته، ولا
يعبدونه خوف ناره، ولا رجاء جنته، وخطؤهم من وجوه:
الأول: أنهم
خالفوا ما أمر الله تعالى به، فقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نتقي ناره، ونتقي
أهوال يوم القيامة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[البقرة:
24]، وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسُ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}
[البقرة: 48]، وقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:
131].
وأخبرنا ربنا
– عز وجل – أنه أعدَّ للمتقين جنات النعيم، فقال: {لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا
غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20].
وقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران
15] وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}
[الزمر 73].
فلولا أن الله
تعالى يعلم أن ما أطال به الحديث عن الجنة والترغيب فيها، والحديث عن النار،
والترهيب منها هو الذي يصلح عباده، لما حدثنا طويلاً عنهما.
الثاني: أن
الرسل r
والرسل والأنبياء السابقين، وأصحاب رسول الله r
فمن بعدهم كانوا جميعاً يطلبون الجنة، ويخافون النار، فقد قال رب العزة محدثاً عن
الأنبياء السابقين {إِنَّهُمْ كَانُوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ}
[الأنبياء: 90].
وعندما قال
أحد الصحابة للرسول r:
والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أتشهد ثم أقول: «اللهم إني
أسألك الجنة وأعوذ بك من النار» قال له الرسول r: «حولها ندندن» [مسند الإمام
أحمد، 15898].
فهؤلاء اختطوا
طريقاً مخالفاً لطريق الرسل والأنبياء والمؤمنين، وما أسوأ أن يختط العبد طريقاً
مخالفاً لطريق هؤلاء على مرّ التاريخ والأزمان وهؤلاء هم الفائزون السعداء الذين
قال الله تعالى فيهم: {فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، وقال فيهم: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ
تَقِيًّا}
[مريم: 63].
الثالث: أن
هؤلاء بسبب قلة علمهم ظنوا أن هناك في يوم الدين نعيماً خارجاً عن الجنة، وأنَّ
هناك شقاء خارجاً عن النار، وهذا غير صحيح، فأعظم نعيم أهل الجنة رؤية ربهم تبارك
وتعالى، وأعظم شقاء أهل النار حرمانهم من رؤية الله تبارك وتعالى.
الرابع: الذين
يغفلون عن العبادة طلباً للجنة، وخوفاً من النار، يضعف عندهم التعبد لله تعالى،
فالعبادة رغباً ورهباً، تقوِّي الباعث على التعبد، فالمتقون الذين فقهوا عن الله
تعالى، يسهرون ليلهم، ويكثرون من الاستغاثة بالله أن يدخلهم جنته، ويقيهم ناره،
تبارك وتعالى، واسمع إلى ما خوَّف الله به عباده، وتدبَّره وانظر أثره في قلبك {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ
شِيبًا}
[المزمل: 17].
الخامس:
التقوى أن نجعل بيننا وبين عذاب الله وقاية من فعل الصالحات وترك السيئات كما في
الحديث الذي رواه عدي بن حاتم، قال: قال سمعت رسول الله r،
يقول: «اتقوا
النار ولو بشقِّ تمرة» [البخاري: 1417، مسلم: 1016].
المطلب
الرابع
موضع
التقوى القلب
تحدثت فيما
سبق عن الأعمال التي أمر الله بها عباده ليكونوا من المتقين، وهذه الأعمال من
الصلاة والزكاة والصبر والوفاء بالعهد ونحوها لا بد أن تقوم على ما امتلأ به القلب
من مخافة الله وتعظيمه وتوقيره، فالعمل إن خلا مما
استقرَّ في
القلوب، فلا يكون من التقوى في شيء، فالذي ينفق المال لا يريد به الله، والذي
يرائي بصلاته، والذي يفي بالعهد حفاظاً على شرفه ومروءته، أعماله ليست من التقوى
في شيء.
يدلُّنا على
ذلك أن مكان التقوى القلب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
[المائدة: 7] أمر الله – تبارك وتعالى – عباده المؤمنين بالمواظبة على التقوى، ثم
أعلمهم أنه يعلم ما في صدروهم من الأسرار والخواطر، وقد نهى رسولنا r
عن الأعمال التي توقع البغضاء والشحناء
بين العباد، وأمرنا أن نكون عباد الله إخواناً، ونهانا عن ظلم إخواننا وخذلانهم
واحتقارهم، وأخبرنا أن التقوى في القلوب، فقال: «لا تحاسدوا،
ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد
الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره
ثلاث مرات. [مسلم عن أبي هريرة: 2564].
قال النووي:
"قوله r :
«التقوى
ها هنا»
ويشير إلى صدره ثلاث مرات، وفي رواية: «إن الله لا
ينظر إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» [مسلم: 2564]
معنى الرواية الأولى أن الأعمال الظاهرة
لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع
في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته" [شرح النووي على مسلم: 16/
94].
وقال ربُّ
العزة في الهدي الذي نحره أصحاب رسوله r
في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ
التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
فالله تبارك
وتعالى لا يصل إليه اللحوم والجلود والدماء، وإنما يصل إليه سبحانه ما يقع في قلب
العبد وهو يقدم الهدي والأضحية من تعظيم لرب
العزة سبحانه،
ولذلك قال في آخر الآية: {كَذَلِكَ
سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ
الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
المطلب
الخامس
المقصود
الأعظم من العبادات تحقيق التقوى في القلوب
يقول فضيلة
الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ بعد أن تحدث عن أعمال الحج: "ليس المقصود
من الحج تلك الأعمال فقط، وليس المراد مجرد إتعاب البدن أو بذل المال، إنما
المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى، وما يحصل في القلب ويقوم به من معاني العبودية
والخضوع والانقياد لأمر الله وتعظيم شعائره، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:
197]، ويقول r كما في صحيح
مسلم: «إن
الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [مجلة
البحوث الإسلامية، الرياض، العدد، 59، ص 14].
وينبغي للعبد
إن أمر بالتقوى أن يخفزه ذلك إلى الاندفاع إلى العمل بطاعة الله، وترك معصيته،
وهذا منهج قرآني واضح المعالم، فالقرآن أمر بتقوى الله، ثم نهى عما بقي من الربا،
وفي آية أخرى نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة ثم أمر بتقوى الله عز وجل، قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنْ الرِّبَا} [البقرة:
278]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 130] ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان وأمر بتقوى الله فقال: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ}
[المائدة: 2] وأمرنا الله أن نقول القول السديد، وأمرنا قبل ذلك بالتقوى، فقال
سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70].
المطلب
السادس
تعريف
القرآن العظيم بالمتقين
تحدث القرآن
طويلاً عن المتقين، فأخبر عن صفاتهم وأعمالهم، وطريقهم، ومصيرهم، ما أعدَّ لهم في
جنات النعيم.
وسأكتفي
بالحديث عن ثلاثة نصوص قرآنية تحدث الله فيها عن المتقين.
أولا: حديث الله تعالى عن المتقين في
مطلع سورة البقرة:
الموضع الأول
الذي تحدث الله فيه عن المتقين مطلع سورة البقرة، قال تعالى: {آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 -4] وبعد أن عرَّف الله تعالى بهم، حكم
عليهم بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم
المفلحون {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّنْ
رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}
[البقرة: 5].
وقد أخبرنا
ربنا في الآيات السابقة أن الكتاب الذي أنزله هدى للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه دون بقية الخلق، وأخبرنا
أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، والإيمان من عمل القلب، ويقيمون الصلاة،
وينفقون مما رزقهم ربُّهم، وهذان من الأعمال الظاهرة، ويؤمنون بما أنزل الله إلى
رسوله r، وبجميع ما أنزل إلى أنبيائه ورسله، وأخبرنا أنهم يؤمنون بالآخرة إيمانًا
قاطعاً لا شكَّ فيه.
ثانيا: حديث
الله تعالى عن المتقين في آية البر من سورة البقرة:
قال الله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 117].
وقد ذكر ربنا – تبارك وتعالى – في هذه الآية الأعمال التي تدخل في مسمى
البر، وأخبر في خاتمتها أن القائمين بهذه الأعمال هم المتقون.
وإذا أنت نظرت في هذه الأعمال التي هي أعمال المتقين وجدتها شاملة للدين كلِّه،
ويمكن أن نعنون لهذه الأعمال بثلاثة عناوين رئيسة:
الأول: العقيدة، وهي التي قال ربنا – تبارك وتعالى – فيها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.
والثاني: الأعمال الظاهرة، وذكر منها إنفاق المال في مجالاته المتعددة،
وذكر إنفاقه على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب،
أي: في إعتاق العبيد، وتحريرهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
والثالث: الأخلاق الكريمة، وذكر منها خلقين: الأول: الوفاء بالعهد،
والثاني: الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
وحكم في ختام الآية أن الذين يقيمون هذه الأعمال هم
الصادقون الداخلون في المتقين.
ثالثاً:
الموضع الثالث في سورة آل عمران:
والموضع الثالث الذي تحدث فيه ربنا عن المتقين في سورة
آل عمران، فقد أمرنا ربُّنا تبارك وتعالى في ذلك الموضع بأن نسارع إلى مغفرة من
ربنا، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133]، ثم عرَّفنا بالمتقين ببيان الأعمال
التي يقومون بها، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} [آل عمران 134- 135].
وذكر الله تعالى في هذه الآيات أن أعمال المتقين أربعة،
الأول: إنفاقهم المال في السراء والضراء، وهذا عمل مالي من أعمال الظاهر، والثاني
والثالث عملان أخلاقيان، وهما كظم الغيب والعفو عن الناس، الرابع: أنهم إذا فعلوا
فاحشة أو ظلموا أنفسهم استغفروا لذنوبهم.
ويظهر من هذا العرض الذي قدمناه أنا التقوى شاملة لمخافة
الله التي تدفع صاحبها للقيام بكل الأعمال الصالحة التي أمر الله تبارك وتعالى
بها، وترك الأعمال السيئة التي نهى الله عنها.
المطلب السابع
حاجتنا للتقوى في الآخرة
أمرنا الله بالتزود في الدنيا لأسفارنا، وأخبرنا أن خير ما نتزود به
لآخرتنا التقوى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
والتقوى هو خير زاد إلى دار المعاد، والتقوى الإيمان والعمل الصالح المنبعث
عن مخافة الله، والرغبة إليه.
فالذي يأتي في يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح، وترجح حسناته بسيئاته،
فقد أعطي الحظ العظيم، وفاز في يوم الدين، وعلى المرء أن يكون دائم الاستعداد
للرحيل من الحياة، فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت.
تزود من التقى فإنك لا تدري
|
إذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر
|
فكم صحيح مات من غير علِّة
|
وكم عليل عاش حيناً من الدهر
|
المبحث
الثاني
الله
تعالى أهل التقوى
الله تعالى أهل التقوى دون سواه، قال تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، قال
ابن عباس: "{أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يقول الله تعالى: أنا أهل أن أتَّقى، فإن عصيت، فأنا
أهل أن أغفر" [عمدة الحفاظ للسمين الحبي: 4/ 384].
والله – سبحانه - أهل التقوى لأنه
العظيم، الذي لا أعظم منه، القويُّ القاهرة الذي لا أحد أقوى منه، وهو العزيز الذي
لا يغلبه أحد، وهو قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد،
الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، لا يملك أحدٌ معه شيئاً، وكل العباد
سيهلكون، وسيرث الله الأرض جميعاً، وهو
العالم بما في السماوات والأرض، وما بينهما، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا
السماء.
فهو وحده أهل أن يتقى، وتخشع له قلوب العباد سبحانه، وترجى رحمته، ويخاف
عذابه.
وإذا أنت قارنت ما تخاف في الدنيا من الأعداء والأهوال والمصائب العظام
بأهوال الآخرة، تجد أن ما تخشاه من أهوال الدنيا زائل ذاهب، أما الله فله الدنيا
والآخرة، وأنت راجع إليه، فلا تنجو من عذابه أبداً.
المبحث الثالث
كلمة التقوى
المطلب الأول
كلمة التقوى لا إله إلا الله
أثنى الله – تبارك وتعالى: - على الصحابة الذين التزموا بكلمة التقوى في
عزوة الحديبية، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا} [الفتح: 26].
والمراد بالذين كفروا الذين جعلوا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية كفار
قريش الذين أخذتهم الحمية، فخرجوا متعالين مستكبرين، وأصرُّوا على منع الرسول r وأصحابه من الوصول إلى الحرم وأداء العمرة، وعندما
كتبوا العهد بينهم وبينه رفضوا أن يكتبوا "هذا ما قاضى عليه محمد رسول
الله" فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى، وهي قول:
لا إله إلا الله، فعن أبي بن كعب عن النبي r
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قال: «لا إله إلا الله» [قال الترمذي (3265): هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قزعة، وحكم الشيخ ناصر الدين الألباني عليه بالصحة. صحيح الترمذي: 2603].
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قال: «لا إله إلا الله» [قال الترمذي (3265): هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قزعة، وحكم الشيخ ناصر الدين الألباني عليه بالصحة. صحيح الترمذي: 2603].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] "شهادة أن لا إله إلا الله"
[وصححه محقق ابن كثير: 5/ 626] وقال بمثل هذا القول عليٌّ وابن عمر وعطاء بن أبي
رباح، والمسور، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والزهري، وقتادة. [ابن كثير: 5/
627].
المطلب
الثاني
فضل
كلمة التقوى
وكلمة التقوى
التي هي (لا إله إلا الله) أفضل كلمة، بها يعصم المرء دمه وماله في دولة الإسلام ، وفي ذلك يقول الرسول r: «من
قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» [مسلم: 23].
والذي يقول:
لا إله إلا الله خالصاً من قبله يدخل الجنة، فعن عثمان قال: قال رسول الله r: «من
مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [مسلم:
26].
وعن عبادة بن
الصامت قال: سمعت رسول الله r
يقول: «من
شهد أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله، حرَّم الله عليه النار» [مسلم: 29].
ويدلُّ على
مدى فضل لا إله إلا الله حديث البطاقة الذي يرويه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول
الله r: «يصاح
برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاًّ، كل سجلٍّ
منها مدُّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر
أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم
عليك، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات
في كفَّة والبطاقة في كفَّة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة». [قال محقق
كتاب نضرة النعيم: 4/ 1335: رواه الترمذي، باب الإيمان (2641)، أحمد في مسنده (2/
213)، ابن ماجه في الزهد برقم (4300). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على
(المسند) رقم (1994): إسناده صحيح].
وقد أرسل
الرسول r
بنعليه أبا هريرة t ،
وقال: «اذهب
بنعليَّ هاتين، فمن ليقت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقناً
بها قلبه، فبشِّره بالجنة" [مسلم: 31].
وأمر الرسول r بتلقين الموتى لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر
كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فعن أبي هريرة أن رسول الله r:
قال: «لقنوا
موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن
أصابه قبل ذلك ما أصابه» [حكم عليه
الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة، وعزاه إلى ابن حبان، انظر: صحيح الجامع (5150)
وخرجه في الجنائز: 10 والإرواء: 687].
وعن أبي هريرة
أن رسول الله r قال: «ما قال عبد:
لا إله إلا الله قط مخلصاً من قلبه، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضي إلى
العرش، ما اجتنبت الكبائر» [حكم عليه الألباني في صحيح الجامع
الصغير (5648) بالحسن، وعزاه إلى الترمذي، وخرجه في المشكاة (2314) والترغيب (2/
328)] وساق الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع [2/ 1098] جملة من الأحاديث
فيها بيان فضل لا إله إلا الله.
ابن القيم يبين فضل كلمة لا إله إلا
الله:
قال ابن القيم
– رحمه الله تعالى – مبيناً فضل كلمة التقوى:
"أشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسِّست الملة،
ونصبت القبلة، ولأجلها جرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد؛ وهي
فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله
إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنّة، ومن كل آخر
كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة" [إعلام الموقعين: (2/ 6)].
كلمة التقوى
هي الكلمة الطيبة:
وكلمة التقوى
التي هي لا إله إلا الله، هي الكلمة الطيبة التي قال الله تعالى فيها: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}
[إبراهيم: 24].
قال ابن القيم
رحمه الله: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله"، فإنها تثمر
جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مرضيٍّ لله ثمرة هذه الكلمة،
وفي (تفسير علي بن أبي طلحة)، عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة: شهادة أن لا إله
إلا الله، كشجرة طيبة، وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا الله، في قلب
المؤمن، وفرعها في السماء، يقول: يرفع به عمل المؤمن إلى السماء".
وقال الربيع
بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان؛ فالإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت
الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله" والتشبيه على هذا
القول أصحُّ وأظهر وأحسن؛ فإنه سبحانه شبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة
الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علواً، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين،
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب،
التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدةٌ إلى السماء.
ولا تزال هذه
الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها،
وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامة بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت
هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة
الله التي لا أحسن صبغةً منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد
بها لسانه، وتصدِّقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ
قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً
سالكةً سبل ربه ذللاً غير ناكبةٍ عنها، ولا باغيةٍ سواها بدلاً، كما لا يبتغي
القلب سوى معبوده الحق بدلاً؛ فلا ريب أن
هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرها من العمل الصالح
الصاعد إلى الله كل وقت، وهذ الكلمة الطيبة تثمر كلماً كثيراً طيباً يقارنه عملٌ
صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ}
[فاطر: 10]؛ فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة
الطيبة تثمر لقائلها عملاً صالحاً كل وقت.
والمقصود أن
كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً متَّصفاً
بموجبها، قائماً قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت
هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة بالسماء، وهي
مخرجة لثمرتها كل وقت [إعلام الموقعين، لابن القيم: 2/ 299 - 300].
المبحث
الرابع
لا
تكون من المتقين حتى تكون عالما بما تتقي
لا يستطيع أحد
أن يتقي ربه مالم يكن عالماً بما يتقيه، فالتقوى – كما سبق – بيانه تكون بفعل
الصالحات وترك المنكرات، فإذا كان المرء غير عالم بما يتقي، فقد يظن المنكر معروفاً،
والمعروف منكراً، وهذا يقع للمبتدعة كثيراً، فتراهم يبتدعون أعمالاً ما أنزل الله بها من سلطان ، يظنون أنها
تقربهم من الله تعالى ، فالمبتدعون من النصارى لا يغتسلون، ولا يتطيبون، ولا
يلبسون الطاهر من الثياب، وعظماؤهم وعبّادهم يعزفون عن الزواج، ويظنون أنهم
يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وبعض الزهاد والعباد من هذه الأمة اتخذوا النصارى
أسوة. وقد يصير الحال ببعض الناس إلى جعل الأعياد يوم مناحة وحزن، وقد يصوم يوم
العيد، وقد يجعل بعض الجهلة يوم موت أبيه يوم فرح، تقام فيه الولائم، وتوزع
الحلوى، وكل ذلك من وساوس الشيطان، وقد يدعو الواحد من أهل الضلال إلى النظر
والتأمل في النساء الجميلات نظراً يزعم أنه يتأمل فيه في خلق الله، وكلُّ هذا من
قلة العلم بالشريعة.
قال ابن رجب
في [جامع العلوم والحكم: 150]: "وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتَّقى ثم
يتقي، قال عون بن عبد الله: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يعلم منها إلى ما علم
ومنها، وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال: كيف يكون متقياً من لا يدري ما
يتقي؟ ثم قال معروف الكرخي: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن
تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، وقد
قال النبي r لمحمد بن
مسلمة: «إذا
رأيت أمتي قد اختلفت، فاعمد إلى سيفك فاضرب به أُحُداً» [مسند
أحمد: 16029].
ظن بعض الناس أنه بالتقوى يحصل العلم
بغير تعلم:
قد يظنُّ بعض
الذين لا يعلمون أنهم إذا اتقوا الله علَّمهم الله من غير معاناة في طلب العلم،
وقد يحتجون على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:
282].
وحسبك في ردَّ
هذا الخطأ أن تعلم أن هذه الآية ختم الله بها آية الدين ،
فقد جاء في
خاتمة تلك الآية قولة تعالى {وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ واللَّهُ
بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:
282].
أنسب شيء لهذه
الخاتمة أن يتقي العبد ربَّه بفعل ما أمره الله تعالى بخصوص الدَّين، ومن ذلك
كتابه الدَّين، وأن توكل كتابته إلى كاتب يكتب بالعدل، وأن يملل الذي عليه الحقُّ
على الكاتب، ولا يبخس الذي عليه الحقُّ شيئاً من الدين، فإن كان الذي عليه الحقُّ
سفيهاً أو ضعيفاً أو لا قدرة له على الإملاء، فليملل وليُّه بالعدل، وأمر الله
باستشهاد شهيدين، فإن لم يوجد فرجل وامرأتان، فالالتزام بهذا الذي أمر الله تعالى
به، يحتاج إلى تعلم حتى يتقيه، فإذا كان جاهلاً بتلك الأحكام لم يكن متقياً
الله عز وجل بخصوص الدَّين، فمن تعلَّم
الأحكام التي في الآية، والتزم بها كان متقياً لله عز وجل.
المبحث
الخامس
المحذورات
التي يجب علينا أن نتقيها
التقوى تتحقق
بفعل ما أمر الله ورسوله r
به، وترك المحذورات التي نهى الله تبارك وتعالى ورسوله r
عنها، وسأورد هنا المنهيات التي أوردها ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المجال
بشيء من التصرف الاختصار.
أولا: تقوى الكفر والشرك:
اول ما يجب
على العبد أن يتقيه الشرك بالله، والكفر به وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما
أخبرت به رسله عنه.
ثانيا: اتقاء البدع:
وتكون البدعة
إما باعتقاد خلاف الحقِّ الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد
بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها
شيئاً، والبدعتان في الغالب متلازمتان، قلَّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى. كما قال
بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال؛ فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا
وأولاد الزنا يعيشون في بلاد الإسلام؛ تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخنا
شيخ الإسلام ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة، بالبدعة الفاجرة، فتولَّد بينهما
خسران الدنيا والآخرة.
ثالثا: اتقاء كبائر الذنوب:
والشيطان إذا
ظفر بالعبد، زين له الكبائر، وحسَّنها في عينه، وسّوف به، وفتح له باب الإرجاء،
وقال له: الإيمان هو نفس التصديق، فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه
وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق؛ وهي قوله: "لا يضرُّ مع التوحيد ذنب، كما
لا ينفع مع الشرك حسنة".
رابعا: اتقاء صغائر الذنوب:
فالشيطان
يوسوس للإنسان ويقول له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللَّمم؛ أو ما
علمت بأنها تكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات؟ ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصرَّ
عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه؛ فالإصرار على
الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، وقد قال r: «إياكم
ومحقرات الذنوب، ثم ضرب لذلك مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض، فأعوزهم الحطب،
فجعل يجيء بعود، وهذا بعود، حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا ناراً، وأنضجوا خبزتهم؛
فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه» [عزاه جامع
مجموع القيم إلى أحمد: (5/ 331) والطبراني في الكبير (10/ 261) وذكر أن الألباني
صححه في الصحيحة (389)].
خامسا: اتقاء المباحات:
عن النعمان بن
بشير، قال: سمعت رسول الله r يقول: «اجعلوا بينكم
وبين الحرام سترةً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه، ومن أرتبع فيه كان
كالمرتع إلى جنب الحمى» [أخرجه
الألباني في سلسلة الصحيحة: (896)، وعزاه إلى ابن حبان في صحيحه، والديلمي
وغيرهما].
والمباحات لا
حرج على فاعلها، ولكن التوسع في فعلها، قد يضير صاحبها.
سادسا: اتقاء الأعمال المرجوحة
المفضولة:
فالشيطان يأمر
العبد بالأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات؛ فيأمره بها، ويحسِّنها في عينه،
ويزينها له، ويريه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم
كسباً وربحاً؛ لأنه لا عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله،
ودرجاته العالية؛ فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله
عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له، ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في
العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول. [المجموع القيم من كلام ابن
القيم، جمع وإعداد منصور بن محمد المقرن: 2/ 1085 – 1190، بزيادة وتصرف].
المبحث
السادس
كيف
نغرس التقوى في قلوبنا
إذا حلت
التقوى في قلوبنا، اطمأن القلب، وانشرح الصدر، وقد تضعف التقوى في القلوب، وقد
تقوى حتى تكون كالجبال الشمِّ الراسيات، ويكون ضوؤها كالشمس، وأعظم التقوى أن نتقي
الله عز وجل حقَّ تقاته {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:
102]، أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته
قليل، قال ابن عباس في تفسير الآية: "أطيعوا الله حقَّ طاعته" وبيّن
مجاهد كيف يتَّقى الله حقَّ التقوى، فقال: "هو أن يطاع، ولا يعصى، وأن يذكر
فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 257].
وسأورد أربعاً
مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب.
أولا: تعرف العبد إلى ربِّه:
أنزل الله
تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ}
[الزمر: 17-18].
وقد جعل الله
القرآن كتاب هداية {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم
المتقون دون سواهم. ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى
بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ}
[البقرة: 187] فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه
الله، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ}
[التوبة: 115] فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه،
وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين، ولذلك لا تقوم الحجة على
العباد إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب لقوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ}
[النساء: 165] وقال تعالى: {وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
[الإسراء: 15].
وكتاب الله
أعظم ما يدلُّ الناس على ربِّهم تبارك وتعالى، فإذا نظر العبد في كتاب الله عز وجل
تجلى الله له بعظمته وجلاله وأسمائه وصفاته، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "القرآن كلام
الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة
والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب
الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال
الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحبِّ كلِّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله
ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق
تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم
|
وتأبى الطباع على الناقل
|
فتبقى
المحبة طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة
الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب
سيره، وكلَّما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ
غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.
وإذا
تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت،
أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة([1])
رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.
وإذا
تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع،
انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها
وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي.
وإذا
تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن
يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى
حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة
والهوى.
وإذا
تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع
المصائب عنهم، ونرهن لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة، انبعثت من العبد قوة
التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به وبكل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه مما
يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره
لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به ويختاره له.
وإذا
تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته،
والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخضوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة
والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدَّته.
وجماع
ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب
له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور
بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق
إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه
والافتقار إليه، الاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال
ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه،
وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه
ورحمته في قيُّوميَّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه،
ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في
إقباله، وغناه في إعراضه.
وأنت
إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار
المتكلفين، أشهدك ملكاً قيُّوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر
وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ
ويذلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد،
موصوف بكلِّ كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط
ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا
شفيع" [الفوائد، لابن القيم: 80- 82، دار الكتب العلمية].
ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق:
عباده
الله – تبارك وتعالى - وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت
عباده مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة
كالنوافل من العبادات، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 21].
لقد نادى ربُّ العزةِّ الناس جميعاً
آمراً إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق
للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بيَّن سبحانه أن غاية
العبادة التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 21]، فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب.
وإذا
أنت نظرت إلى الصلاة وما فيها من أعمال وأقوال، وجدتها تنشأ التقوى في القلوب،
فأنت تتطهر أولاً، ثم تقف مستقبلاً القبلة، وبعد أن تكبر تدعو بواحد من أدعية الاستفتاح، الذي تمجد فيه
ربك، وتثني عليه، ثم تقرأ
الفاتحة،
وهي أعظم سورة في كتاب الله ، وهي ثناء وتمجيد وتعظيم لله، ثم تقرأ بما تيسر من
القرآن، وفي الآيات التي تقرؤها ما فيها من معاني كريمة، تعرفك بالله وصفاته
وأسمائه وحقوقه، ثم تكبر راكعاً، ثم تسبح ربك وتثني عليه.
ثم
ترفع رأسك قائلاً: سمع الله لمن حمده، حامداً ربك : «ربنا لك
الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل
الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، ولكنها لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا
معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ».
ثم
تخر مكبراً ساجداً مسبحاً لله تعالى، داعياً إياه بما علَّمك رسوله r من أدعية، ثم ترفع مكبراً، فتجلس داعياً الله
بين السجدتين، وفي التشهد تذكر التحيات التي تتقدم بها إلى رب العزة، وهي تحيات
طيبات وتسلم على النبي، وتصلي عليه، ثم تدعو بما شئت، وتختم بالسلام عن اليمين
والشمال، إن هذه الصلاة إن صليتها بتدبر وخشوع أنشأت التقوى في القلب، وغرستها
فيه.
ومن
العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 63] فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان
لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى.
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد
قال r: «من
لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا
لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم،
فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك" [مختصر الفتاوى المصرية: (289)].
ومع
أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول r
قال لأبي ذرٍّ ناصحاً ومعلِّماً: «اتَّق الله تكن أعبد الناس» [حسَّنه
الألباني في صحيح الترمذي: 1876، وأخرجه في الصحيحة: 930].
ثالثا:
التفكر في خلق الله تعالى:
التفكر
في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي
نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر
نوراً، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار،
وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض
آيات كثيرة عظيمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً
وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}
[يونس: 5- 6] والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جداً، والتفكر
فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثاً، فقد خلقه ليكون معبداً لبني آدم
يعبدون الله فيه، وهو ليس النهاية، بل وراء هذه الحياة حياة أخرى، يبعث الله فيها
العباد ويجازيهم بـأعمالهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى
رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
[آل عمران: 190- 194].
رابعا: التفقه في النصوص المتحدثة عن
القبر وعذابه والآخرة وأهوالها:
إذا
أكثر العبد من تلاوة النصوص القرآنية وقراءة الأحاديث النبوية التي تتحدث عن
الأهوال التي ستصيب الناس في القبر والموقف العظيم والنار، فإن قلبه يمتلئ بمخافة
الله تعالى: {لَهُمْ
مِّنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}
[الزمر: 16].
وإذا
وفق العبد لمعرفة أهوال القبر وأهوال القيامة، ثم تصور أنه واقع في تلك الأهوال،
فإن قلبه يرعوي.
1- ما يقع للبعد عند موته وبعد الموت:
جمع
شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى روايات الحديث الذي يخبر الرسول r
فيه ما يقع للبعد عندما يأتيه الموت، وما يجري له بعد الموت، ومن تأمل في هذا
الحديث بصدق، رزقه الله – إن شاء الله –
التقوى، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي r
في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله r
[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأن، على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في
الأرض، [فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]،
فقال: «استعيذوا
بالله من عذاب القبر» مرتين، أو
ثلاثاً، [ثم قال: «اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر»] [ثلاثاً]، ثم قال:
«إن
العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من
السماء، بيض الوجه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط
الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه
فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)، اخرجي إلى مغفرة من الله
ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، (وفي رواية: حتى
إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له
أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم)، فإذا
أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك
الحنوط، [فذلك قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا
يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:
61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض».
قال:
«فيصعدون
بها فلا يمرون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟
فيقولون: فلان ابن فلان – بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى
ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها،
إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل:
اكتبوا كتاب عبدي في عليين، [{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ
مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}
[المطففين: 19- 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال]: أعيدوه إلى الأرض، فإني
[وعدتهم أني] منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فــ[يرد إلى
الأرض، و] تعاد روحه في جسده، [قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه]
[مدبرين].
فيأتيه
ملكان [شديدا الانتهار] فــ [ينتهرانه، و] يجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي
الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي
بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله r،
فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدقت، [فينتهره فيقول:
من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز
وجل: {يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
[إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد r،
فينادي منادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة،
وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدَّ
بصره».
قال:
«ويأتيه
[وفي رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي
يسرك، [أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم]، هذا يومك الذي كنت توعد،
فيقول له: [وأنت فبشرك الله بخير] من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا
عملك الصالح [فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله، بطيئاً في معصية
الله، فجزالك الله خيراً]، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا
منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام
الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكن] ».
قال:
«وإن
العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة،
نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سود ا لوجوه، معهم المسوح([2])
[من النار]، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول:
أيتها النفس الخبيئة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما
ينتزع السَّفود [الكثير الشعب] من الصوف المبلول، [فتقطع معها العروق والعصب]،
[فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من
أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم]، فيأخذهما، فإذا أخذها، لم
يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفه
وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا:
ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في
الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول
الله r: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}
[الأعراف: 40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، [ثم
يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدها، ومنها
أخرجهم تارة أخرى]، فتطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده] ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي
مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]،
فتعاد روحه في جسده، [قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه].
ويأتيه
ملكان [شديدا الانتهار، فينتهر أنه، و] يجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ [فيقول: هاه
هاه([3])
لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها هاه لا أدري]، فيقولان: فما تقول في هذا
الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقول: ها هاه لا أدري [سمعت
الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دريت]، [ولا تلوت]، فينادي مناد من السماء أن
كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها،
ويضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.
ويأتيه
(وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر
بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقولك [وأنت فبشرك الله بالشر] من أنت؟
فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، [فو الله ما علمت إلا كنت بطيئاً
عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم
أبكم في يده مرزبة! لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً،
ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصبح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين،
ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: رب لا تقم الساعة».
[قال
شيخنا الألباني في تخريجه: أخرجه أبو داود (2/ 281) والحاكم (1/ 37- 40) والطيالسي
(رقم 753) وأحمد (4/ 287)و288 و295 و296) والسياق له والآجري في
"الشريعة" (367- 370). وروى النسائي (1/ 282) وابن ماجه (1/ 469)- 470)
القسم الأول منه إلى قوله: "وكأن على رؤوسنا الطير"، وهو رواية لأبي
داود (2/ 70) بأخصر منه وكذا أحمد (4/ 297) وقال الحاكم: "صحيح على شرط
الشيخين". وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في "إعلام
الموقعين" (1/ 214) و"تهذيب السنن" (4/ 337)، ونقل فيه تصحيحه عن
أبي نعيم وغيره].
2- تصور المحاسبي لأهوال يوم القيامة:
يقول
الحارث المحاسبي مصوراً أهوال يوم القيامة: "حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت
من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يسمع، ولا شخص يرى،
وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم
يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار
منك ومنهم.
فتوهم
كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك
الأعلى، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة للعرض على ذي الجلال
والإكرام والعظمة والكبرياء – فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن
رأسك، فوثبت مغيراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك
نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة، وهم مغبرون من غبار الأرض التي
طال فيها بلاؤهم.
فتوهم
ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك
وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة حفاة، صموت أجمعون بالذل والمسكنة
والخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون
نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف
ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم
الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد
الله عز وجل في أرضه.
ثم
أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال، منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها
وانفرادها من الخلائق، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها،
فتوهم إقبالها بذلّها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور.
وأقبل
السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكّسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء
الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها
وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه، فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء،
واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها
وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف العرض
والحساب، تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود
سراجها وإطفاء نورها. فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من
فوقهم، فدارت بغلظمها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت
وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها، وهي حافات ما يتشقق
ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة
المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة،كما قال الجليل الكبير {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}
[الرحمن: 37]، {يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}
[المعارج: 8- 9]. فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى
الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم
محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه.
فتوهم
تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم، منكسين
لذل العرض على الله عز وجل. فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم،
ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون
فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا، ليس هو بيننا،
ولكنه آتٍ من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذلّ يومهم.
فتوهمهم،
وقد تسربلوا بأجنحتهم، ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم،
ثم كل شيء على ذلك، وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء مضعفين بالعدد، وعظم
الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً.
حتى
إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، وأدنيت
من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا ظلَّ لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين
مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من
وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً، وتضايقت فاختلفت الأقدام،
وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم،
ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر راتبهم
ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه،
وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمه أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه ، ومن قد توسط
العرق من دون ذلك منه.
عن
ابن عمر قال: قال رسول الله r : «إن الرجل
(وقال مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول
القيام»
[متفق عليه].
وعن
عبد الله رفعه إلى النبي r : «إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك
اليوم» (وقال عليّ: من طول القيام.
قالا جميعاً) حتى يقول: رب أرحني ولو إلى النار. وأنت لا محالة أحدهم، فتوهم نفسك
راجعة لكربك، وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق
والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى درا السعادة أو إلى دار
الشقاء، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا
ينظرون في أمورهم".
عن قتادة أو كعب، قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [المطففين:
6]. قال :"يقومون مقدار ثلاثمائة عام، وقال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام
قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم
يشربوا فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع
انصرف بهم إلى النار، فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد نفحها".
فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم
به، كلَّم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن، يشفع لهم في الراحة من مقامهم
وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده
إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً
لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل، وينادي
بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه
بنفسه وخلاصها، وكذلك يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ
نَّفْسِهَا} [النحل: 111].
فتوهم
أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه، ينادي نفسي نفسي،
فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي. فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام
بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه الله آدم، والخليل إبراهيم،
والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله – عز وجل – وعظم قدر
منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت
منهم ففي إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من
شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم لأنفسهم ،
أتوا النبي محمداً r
فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه، فأذن
له، ثم خرّ لربه ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك
كله يسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في
أمورهم" [كتاب التوهم والأهوال للحارث بن أسد المحاسبي: ص5].
خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى:
الإكثار
من ذكر الله تعالى يرقق القلوب، ويصفي الأرواح، ويغرس التقوى في قلوب العباد، قال
ابن القيم: "إنَّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه
رطباً بذكر الله تعالى" [الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص85].
تحميل كتاب التقوي PDF كتب اسلامية من هنا