من الآيات
الواردة في الصبر
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
﴿فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ
نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: 35].
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].
﴿وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
﴿وَاللَّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].
﴿وَاصْبِرُوا
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
﴿وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النساء: 25].
﴿وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96].
﴿إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155-157].
من الأحاديث
الواردة في الصبر
عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد
إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا
له»([1]).
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي r قال: «ما يصيب المسلم من نَصَب ([2]) ولا وَصَب ([3]) ولا هَمّ ولا حُزْن ولا
أذى ولا غَمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه»([4]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء
إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»([5]).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا
أحبّ قومًا ابتلاهم فمن رَضِىَ فله الرِّضا، ومن سَخِط فله السُّخط»([6]).
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم
ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون نعم, فيقول ماذا قال
عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع, فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمُّوه بيت
الحمد»([7]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى النبي r بصبي لها فقالت: يا نبي الله! اُدْع الله له فلقد دفنت
ثلاثة. قال: «دفنت ثلاثة؟» قالت: نعم.
قال: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار»([8]).
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء: ألا أُريك
امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي r قالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي.
قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن
يعافيك» قالت أصبر. قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.([9])
من أقوال
الصحابة والسَّلف الصالح
في الرِّضا
والصبر
رُوي أنَّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزَّى قومًا قال:" ليس مع العزاء مصيبة
ولا مع الجزع فائدة والموت أشدّ مما قبله، وأهون مما بعده، فاذكر مصيبتك برسول
الله r تَهُن عليك مصيبتك"([10]).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" إن الخير كُلُّه في الرِّضا، فإن استطعت أن ترضى
وإلَّا فاصبر"([11]).
قال علي رضي الله عنه:" الصِّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر
له"([12]).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" الصَّبر نصف الإيمان واليقين الإيمان
كُلُّه"([13]).
قال ابن القيم:" ثمرة الرِّضا الفرح والسرور بالرَّب تبارك وتعالى"([14]).
قال حذيفة:"
إن الله لم يخلق شيئًا قط إلا صغيرًا ثُمَّ يَكْبُر إلا المُصيبة فإنه خلقها كبيرة
ثم تصغر"([15]).
قال ميمون بن مهران:" من لم يرضَ بالقضاء فليس لحُمْقه دواء"([16]).
قيل للربيع بن عبد الرحمن:" ما منتهى الصَّبر؟ قال: يكون يوم تصيبه مصيبة مثله قبل أن
تصيبه"([17]).
قال الفُضَيل بن عِياض: الرِّضا أفضل من الزُّهد في الدنيا؛ لأنَّ الرَّاضي لا يتمنى فوق
منزلته"([18]).
قال عبد القادر الجيلاني: وترد عليَّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسَّخت، فأضع جنبي على الأرض،
وأقول: إنَّ مع العُسر يُسرًا، ثم ارفع رأسي وقد انفرجت عني"([19]).
قال أبو مسلم الخولاني:" لأن يُولَد لي مولود يُحْسِن الله نباته، حتى إذا استوى على شبابه
وكان أعجب ما يكون إلي قبضه الله تعالى مِنِّي- أحبُّ إليَّ من الدنيا وما
فيها"([20]).
سُئِل أبو عثمان عن قول النبي r: «أسألك الرِّضا بعد القضاء» فقال: لأن الرِّضا
قبل القضاء عَزْم على الرِّضا، والرِّضا بعد القضاء هو الرِّضا.([21])
إنَّ مِنَ
الشِّعر لَحِكَمَةً
عزَّى الإمام الشافعي رحمه الله صديقًا له، فقال:
إنَّا نُعَزِّيكَ لا إنِّا على ثِقَة
|
|
من الحياة ولكن سُنَّة الدِّينِ
|
فما المُعزَّى بباقٍ بعدَ مَيِّتِهِ
|
|
ولا المُعزِّي ولو عاشا إلى حينِ
|
قال الشاعر:
ألا إِنَّما الدُّنيا غضَّارةٌ أيكةٍ
|
|
إذا اخضرَّ منها جانبٌ جفَّ جانبُ
|
فلا تفرحنَّ منها لشيءٍ لن تَفيدَه
|
|
سيذهب يومًا مثل ما أنت ذَاهِبُ
|
وما هذه الأيَّام إلَّا فجائعُ
|
|
وما العيشُ واللَّذاتُ إلا مصائبُ
|
قال أبو العتاهية:
اصبر لكلِّ مُصيبةٍ وتجلدِ
|
|
واعلم بأنَّ المرءَ غيرُ مخلدِ
|
أو ما ترى أنَّ المصائبَ جَمةٌ
|
|
وترى المنيةَ للعبادِ بمرصِدِ
|
من لم يصبْ ممن ترى بمُصيبةٍ
|
|
هذا قَبيلٌ لست فيه بأوحدِ
|
وإذا أتتك مُصيبةٌ تشجى بها
|
|
فاذْكُرْ مُصابَكَ بالنَّبيِّ مُحمدِ
|
وقال الشاعر:
طُبِعتْ على كدر وأنتَ تُرِيدُهَا
|
|
صَفْوًا من الأقْذاءِ والأكْدار
|
ومُكلفُ الأيَّامِ ضِدَّ طِباعِها
|
|
مُتَطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نَارِ
|
وقال الشاعر:
ولرُبَّ نازِلةٍ يضيقُ بها الفتى
|
|
ذَرعًا وعندَ الله منها المَخْرجُ
|
ضاقَتْ فلمَّا استحكمت حلقاتُها
|
|
فرِجتُ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
|
وقال الشاعر:
وإذا عَرَتْكَ بليَّة فاصْبِرْ لها
|
|
صَبْرَ الكريم فإنَّه بك أعلمُ
|
وإذا شكوت إلى ابنِ آدمَ إنَّمَا
|
|
تشكو الرَّحيم الذي لا يُرْحَمُ
|
قال أبو فراس:
المرءُ بين مصائبَ لا تَنْقَضي
|
|
حتى يُوارَى جِسْمُه في رَمْسِهِ
|
فمؤجلٌ يلقى الرّدى في أهلِهِ
|
|
ومُعَجِّلٌ يلقى الرّدى في نفْسِهِ
|
وقال الشاعر:
يا صاحبَ الكرْبِ إنَّ الكربَ مُنْفَرِجٌ
|
|
أبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارِجَ اللهُ
|
اليأسُ يقطعُ أحيانًا بصاحبه
|
|
لا تيأسنّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
|
الله يُحْدِثُ بعد الكربَ ميسرةً
|
|
لا تجزَعَنَّ فإنَّ الكاشفَ اللهُ
|
إذا بُلِيتَ فثِقْ بالله وارضَ به
|
|
إنَّ الذي يكْشِفُ البلوى هو اللهُ
|
والله مَا لكَ غَيْرُ اللهِ من أحدٍ
|
|
فحسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
|
إذا قضى اللهُ فاستسلم لقدرته
|
|
ما لامرئٍ حِيلةٌ فيما قضى اللهُ
|
وفاة إبراهيم
ابن النبي r
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله r على أبي سيف القين([22])، وكان زوجًا لمرضعة إبراهيم
ابن النبي محمد r، فأخذ رسول الله r إبراهيم فقبَّله وشمَّه؛ ثم دخلنا عليه بعد ذلك
وإبراهيم يجودُ بنفسه فجعَلَتْ عينا رسول الله r تذرفان.
فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول
الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم اتبعها بأخرى, فقال r: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي
ربُّنا, وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([23]).
إنما يرحم الله
من عباده الرحماء
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلَتْ ابنة النبي
r إليه: إن ابنًا لي قُبِض، فأتنا, فأرسل يُقْرِئ السَّلام ويقول: «إن
لله ما أخذ وله ما أعطى, وكلٌّ عنده بأجل مَسَمَّى, فلتصبر ولتحتسب» فأرسلت
إليه تُقْسِم عليه ليأتينَّها, فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبَيِّ بن
كعب وزيد بن ثابت ورجال، فَرُفع إلى رسول الله r الصبي، ونفسه تَتَقَعْقَع([24]) قال حسبته أنه قال: كأنها
شن([25])
ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله في
قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء»([26]).
مقتل حارثة بن
سُراقة
عن أنس رضي الله عنه قال: أُصِيب حارثة يوم بدر، وهو
غلام، فجاءت أمُّه إلى النبي r فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مِنِّي، فإن
يكُ في الجنَّة أصبر واحتسب, وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟
فقال النبي r: «ويحكِ أو هَبِلْتِ ([27])
أو جَنَّة واحدة هي؟ إنَّها جِنَان كثيرة، وإنه لفي جنَّة الفردوس»([28]).
أحَبَّك اللهُ
كمَا أُحِبُّه
روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه أنه كان
رجل يأتي النبي r ومعه ابن له, فقال له النبي r:« أتُحِبُّه؟»
فقال: يا رسول الله أحبَّك اللهُ كمَا أُحِبُّه.
فتفقده النبي r فقال:« ما فعل ابن فلان؟» فقالوا يا رسول الله
مات.
فقال الرسول r لأبيه:« أما تُحِبُّ أن تأتيَ بابًا من أبواب
الجَنَّة إلا وجدته عليه ينتظرك؟»
فقال رجل: يا رسول الله أله خاصة أم لِكُلِّنا؟
فقال r:« بل لِكُلِّكم»([29]).
ذلك لك
فيما رُوي أن النبي r إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن
صغير يأتيه من خلف ظهره فيُقعده بين يديه، فهلك هذا الصغير، فامتنع الرجل أن يحضر
الحلقة، لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي r فقال: «ما لي لا أرى فلانًا» قالوا: يا رسول
الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي r فسأل عن بنيه، فأخبره أنه هلك، فعزَّاه عليه، ثم قال: «يا
فلان، أيُّمَا كان أحبُّ إليك أن تمتع به عُمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب
الجنَّة إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه لك؟»
قال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي،
لهو أَحَبُّ إليَّ.
قال:« فذاك لك»([30]).
الصبر عند
الصدمة الأولى
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
مرَّ النبي r على امرأة تبكي عند قبر، وفي رواية لمسلم: تبكي على صَبِيٍّ لها، فقال
عليه الصلاة والسلام: «اتقي الله واصبري» فقالت: إليك عني فإنك لم تُصَب
بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي r فأتت باب النبي r فلم تجد عنده بوابين فقالت: لمْ أعرِفك.
فقال: «إنمَّا الصَّبر عند الصدمة الأُولى»([31]).
قتلى بدر
لمَّا أُمر بإلقاء جِيف المشركين في القليب، وأُخذ عتبة
بن ربيعة فسُحب إلى القليب، نظر رسول الله r في وجه ابنه أبي حُذيفة، فإذا هو كئيب قد تغيَّر، فقال:«
يا أبا حُذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله يا رسول
الله ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنِّي كنت أعرف من أبي رأيًا وحُلمًا وفَضْلاً،
فكنت أرجو له أن يهده ذلك للإسلام، فلمَّا رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من
الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك.
فدعا له رسول الله r بخير، وقال له خيرًا.([32])
الحب والتفاني (1)
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
والناس أجمعين»([33]).
هذه امرأة من بني دينار، قد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها
بأُحد، فلمَّا نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله r؟
قالوا: خيرًا يا أمَّ فلان، هو بحمد الله كما تُحبِّين،
قالت: أرونيه حتى انظر إليه، فأُشِير إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مُصيبة بعدك جلل
– تريد صغيرة.([34])
الحب والتفاني
(2)
جاءت أمَّ سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه فقال:
يا رسول الله أُمِّي، فقال: مرحبًا بها.
ووقف لها فلما دنت عزَّاها بابنها عمرو بن معاذ, فقالت:
أمَا إذا رأيتك سالمًا، فقد اشتويت المصيبة (أي استقللتها)؛ ثم دعا لأهل من قُتل
بأُحد، وقال:« يا أمَّ سعد أبشري وبشِّري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في
الجنة جميعًا».
قالت: رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم
قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: «اللهم اذهب حزن قلوبهم، واجبر
مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا»([35]).
الخشوع في الصلاة
بعد رجوع المسلمين من غزوة ذات الرقاع سَبَوا امرأة من
المشركين، فنذر زوجها أن لا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد r، فجاء ليلاً، وقد أرصد رسول الله r رجلين ربيئة([36]) للمسلمين من العدو، وهما
عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فَضُرِب عباد وهو قائم يُصلِّي بسهم، فنزعه ولم يبطل
صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلَّم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان
الله، هلَّا نبهتني؟ فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.([37])
وفاة النبي r
عندما تُوفي النبي r وسمع بذلك أبو بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه
بالسنح([38])
حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله r، وهو مغشى بثوب حبرة([39])، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه،
فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أمَّا الموتة التي
كُتبت عليك فقد مِتَّها، ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى
عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمَّا بعد، من كان منكم
يعبد محمدًا r فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.
قال الله: ﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].
قال ابن عباس: والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أن الله
أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فلم أسمع بشرًا من
الناس إلا يتلوها.
قال ابن المسيب: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا
بكر تلاها فعفرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت
أن النبي r قد مات.([40])
وقفة مع الصديق
رضي الله عنه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه:
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع بن مالك بن مغول عن السفر
قال: مرض أبو بكر رضي الله عنه فعادوه، فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال قد رآني
الطبيب.
قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعَّال لما أريد.([41])
أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحتضر:
لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه، تمثلت عائشة رضي الله
عنها بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى
|
|
|
|
إذا حشرجتَ يومًا وضاق بها الصدرُ
|
|
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي:
﴿وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19].
فقال: انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما، ثم كفنوني فيهما فإن
الحيَّ أحوج إلى الجديد من الميت.([42])
رثاء علي لأبي بكر رضي الله عنهما:
لمَّا قُبض أبو بكر رضي الله عنه سُجّي بثوب فارتجت
المدينة بالبكاء عليه، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله r، وجاء علي بن أبي طالب باكيًا مسرعًا مسترجعًا حتى وقف
بالباب وهو يقول: رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلامًا، وأخلصهم
إيمانًا وأشدهم يقينًا، وأعظمهم عناءً، وأحفظهم على رسول الله r، وأحد بهم على الإسلام وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول
الله r خُلقًا وفضلاً وهديًا وسمتًا، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله r وعن المسلمين خيرًا، صدقت رسول الله r حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين
قعدوا، سمَّاك الله في كتابه صديقًا فقال: ﴿وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ يريد محمدًا ويريدك، كنت والله للإسلام حصنًا، وعلى الكافرين عذابًا، لم
تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا
تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله r: ضعيفًا في بدنك، قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك
عظيمًا عند الله، قليلاً في الأرض، كثيرًا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع،
ولا لأحد عنك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى
تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك.([43])
وقفة مع
الفاروق رضي الله عنه
حزن عمر على ابنه زيد رضي الله عنها:
لمَّا استشهد زيد بن الخطاب باليمامة، وكان صَحِبه رجل
من عدي بن كعب فرجع إلى المدينة، فلمَّا رآه عمر دمعت عيناه، وقال: وخلفت زيدًا ثاويًا
وأتيتني.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما هبَّت الصبا إلا
وجدت نسيم زيد. وكان إذا أصابته مصيبة قال: قد فقدت زيدًا فصبرت.([44])
أعرابي بين يدي عمر رضي الله عنه يندب ابنه:
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا إلى بقيع الغرقد،
فإذا أعرابي بين يديه فقال: يا أعرابي ما أدخلك دار الحق؟
قال: وديعة لي ها هنا منذ ثلاث سنين، قال: وما وديعتك؟
قال: ابنٌ لي حين ترعرع فقدته فأنا أندُبه، قال عمر: أسمعني ما قلت فيه, فقال:
يا غائبًا ما يؤوب من سفره
|
|
عاجله موته على صغره
|
يا قرة العين كنت لي سكنًا
|
|
في طلول ليلي نعم وفي قصره
|
شربت كأسًا أبوك شاربها
|
|
لا بد يومًا له على كبره
|
أشربها والأنام كلهم
|
|
من كان في بدوه وفي حضره
|
فالحمد لله لا شريك له
|
|
الموت في حكمه وفي قدره
|
قد قسَّم الموت في الأنام فما
|
|
يقدر خلق يزيد في عمره
|
قال عمر: صدقت يا أعرابي، غير أن الله خير له منك.([45])
وقفة مع علي بن
أبي طالب رضي الله عنه
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُعزِّي الأشعث:
أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشعث يُعزِّيه في
ابنه فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفًا من كل
هالك، مع إنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت
آثم.([46])
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يروي قصة دانيال:
ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن بختنصر أتى بدانيال
فأمر به فحبس في جُبٍّ، وأضرى أسَدين، ثم خلَّى بينهما وبينه، ثم فتح عليه بعد
خمسة أيام فوجده قائمًا يُصَلِّي، والأسدان في ناحية الجُبِّ لم يعرضا له، فقال له
ما قلت حيث دفعهما الله عنك؟
قال قلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله
الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي لا يَكِل من توكل عليه إلى غيره، والحمد
لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع عنَّا الحيل، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين يسوء
ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي يكشف عنَّا ضرنا بعد كربتنا والحمد لله الذي يُجزي
بالإحسان إحسانًا، والحمد لله الذي يُجزي بالصبر نجاة.([47])
رثاء علي لزوجته فاطمة رضي الله عنهما:
لمَّا دَفن عليٌّ فاطمة رضي الله عنهما تمثل على قبرها
بهذين البيتين:
لكل اجتماع من خليلين فُرْقَةٌ
|
|
وكل الذي دون الممات قليلُ
|
وإن افتقادي واحدًا بعد واحد
|
|
دليلٌ على ألَّا يدوم خليلُ([48])
|
الودائع
قال لبيد بن ربيعة:
وما المالُ والأهلونَ إلا ودائعُ
|
|
ولا بُدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ
|
عن أنس رضي الله عنه قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم،
فقالت لأهلها: لا تحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحَدِّثه، قال: فجاء
فقربت إليه عشاءً فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك، فوقع
بها فلمَّا رأته قد شبع وأصاب منها، قالت:يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا
عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك،
قال: فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى النبي r فأخبره بما كان، فقال رسول الله r: «بارك الله لكُمَا في غابر ليلتكما» قال:
فحَمَلت. قال سفيان: قال رجل من الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن.([49])
معاذ بن جبل
رضي الله عنه
يُرْوَى عن معافى بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن
بن غنم قال: دخلنا على معاذ رضي الله عنه وهو قاعد عند رأس ابن له وهو يجود بنفسه،
فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا وانتحب بعضنا فزجره معاذ، وقال: مه، فوالله لئن
يعلم اللهُ برضائي بهذا أحَبُّ إليَّ من كلِّ غزاةٍ غَزَوْتُها.
من كان له عزيزًا وبه ضنينًا فصبر على مصيبته واحتسبه
أبدلَ الله الميت دارًا خيرًا من داره وقرارًا خيرًا من قراره وأبدل المصاب الصلاة
والرحمة والمغفرة والرضوان.
قال: فما برحنا حتى قضى الغلام فقام وغسَّله وحنَّطَه
وكفَّنه وصلَّينا عليه، فنزل في قبره ووضعه، ثم سوى عليه التراب، ثم رجع إلى مجلسه
فدعا بدهن فادهن وبكحل فاكتحل وببرده جميلة فلبسها، وأكثر من التبسم ينوي ما ينوي
ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل هالك وعزاء من كل مصيبة،
ولله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون ...([50])
لسان حاله:
كلُّ ما كان من قضاء فيحلو
|
|
بفؤادي نزوله ويطيب
|
الطاعون في أرض الشام:
يوم وقع الطاعون في أرض الشام كما في السيرة للذَّهبي
فخطب بالناس عمرو رضي الله عنه فقال: إن هذا الطاعون رجز ففروا منه في الأودية
والشعاب.
فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، فغضب وجاء يجر
ثوبه ونعلاه فحايده، قائلاً: لقد صحبت رسول الله r فاسمعوا: الطاعون رحمة ربكم ودعوة نبيكم يستشهد الله به
أنفسكم ويزكي أعمالكم. فبلغ ذلك معاذًا رضي الله عنه وهو يَتوقُ إلى الشهادة في
سبيل الله فقال: اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه.
لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب
ابنتاه الاثنتان وتموتان، فدفنهما في قبر واحد، وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه
عبد الرحمن وهو من أعزِّ أبنائه فقال معاذ لابنه: كيف تجدك، قال: أبتاه الحق من
ربك فلا تكن من الممترين.
فقال معاذ رضي الله عنه: ستجدني إن شاء الله من
الصابرين، ثم تُوُفِّي رحمه الله.
ثم أصاب الطاعون كفَّ معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فجعل
يقبلها ويقول: هي أحبُّ إليَّ من حُمُر النِعم ثُمَّ يُغْشَى عليه، فإذا سُري عنه
قال: يا رب غُم غَمك واخنق خنقك فوعِزَّتك إنَّك لتعلم أني لأُحبُّك، ثُمَّ لقي
الله جلاَّ وعلا، بعد أن احتسب أهل بيته جميعًا، فما كان إلا الرضى والتسليم بقضاء
الله وقدره.([51])
مقتل خُبيب بن
عدي رضي الله عنه
كان خُبيب بن عدي رضي الله عنه مسجونًا عند المشركين
بمكة بعد غزوة بدر وكان قد قتل من رؤوسهم يوم بدر، فأجمعوا على قتله، فخرجوا به من
الحرم إلى التنعيم فلما أجمعوا على صلبه، قال: دعوني حتَّى أركع ركعتين، فتركوه
فصلاهما، فلمَّا سَلَّم، قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزِدْتُ، ثم
قال: اللَّهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تُبْقِ منهم أحدًا، ثم قال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا
|
|
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
|
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
|
|
وقربت من جذع طويل ممنع
|
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
|
|
وما أرصد لي الأعداء عند مصرعي
|
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
|
|
فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
|
وقد خيروني الكفر والموت دونه
|
|
وقد هملت عيناي من غير مجزع
|
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا
|
|
على أي شق كان في الله مصرعي
|
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
|
|
يبارك على أوصال شلو ممزع
|
فقال له أبو سفيان: أَيَسُرُّك أن محمدًا عندنا نضرب
عنقه، وأنك في أهلك؟
فقال: لا والله ما يَسُرُّني أني في أهلي وأن محمدًا في
مكانه الذي هو فيه تُصِيبُه شوكة تُؤْذيه.([52])
وقفة مع عبد
الله بن عمر رضي الله عنه
يشتكي ابن لعبد الله بن عمر رضي
الله عنهم فيشتد وجده عليه، فقال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث لهذا
الغلام حدث، وشاء الله فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته وما رجلاً أبدى سرورًا
إلا ابن عمر، فقيل: ما هذا قد خشينا عليك يا ابن عمر قال: إنما تلك كانت رحمة به،
فلمَّا وقع أمر الله رضينا به.([53])
وروي أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه
دفن ابنًا له، وضحك عند قبره. فقيل له: أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أن أَرْغِمَ
أَنْفَ الشيطان.
فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه، فإذا
أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها، حتى يودَّ لو أن أولاده وأهله وأقاربه
ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة.([54])
عمر بن عبد
العزيز رحمه الله
في وفاة ابنه عبد الملك:
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لابنه عبد الملك: كيف
تجدك يا بني؟ قال: أجدني في الموت فاحتسبني، فإن ثواب الله خيرًا لك منِّي، قال:
والله يا بُنَّي لئن تَكُن في ميزاني أحب إليَّ من أن أكون في ميزانك، قال: وأنا
والله لئن يَكُن ما تحِبُّ أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أُحِبُّ ([55])
ثُمَّ تُوُفِّي في ذلك المرض فذهب به عمر بن عبد العزيز وغسله وصلى عليه ودفنه
وسوَّى عليه التراب، وسوُّوا قبره بالأرض، ووضعوا عنده خشبتين من زيتون: إحداهما
عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، فاستوى قائمًا وأحاط
به الناس فقال: رحمك الله يا بُنَيَّ فقد كنتَ بَرًّأ بأبيك، والله ما زلت منذ
وهبك الله لي مسرورًا بك، ولا والله ما كنت قطّ أشد بك ولا أزجي لحظي من الله
تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله وغفر لك
ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب، رضينا بقضاء
الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين،ثُمَّ انصرف.([56])
وعندما رجع إلى ديوانه كتب إلى عُمَّاله: إن عبد الملك
كان عبدًا من عبيد الله، أحسن الله إليه وإليَّ فيه، أعاشه ما شاء، وقبضه حين شاء،
وكان ما علمت من صالحي شباب أهل بيته قراءة للقرآن، وتحريًا للخير، وأعوذ بالله أن
تكون لي محبة أخالف فيها محبة الله، فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليَّ، وتتابعِ
نِعَمِه عليَّ، ولأعلمن ما بكت عليه باكية، ولا ناحت عليه نائحة، قد نهينا أهله
الذين هم أحق بالبكاء عليه.([57])
وكان قبل وفاة ابنه عبد الملك، قد هلك أخوه سهل وهو من
أحبِّ إخوته، وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه، كل ذلك في أوقات متتابعة، فلمَّا
استوى في مجلسه، جاء الربيع بن سبرة عليه رحمة الله، فقال: عظَّم الله أجرك يا
أمير المؤمنين ما رأيت أحدًا أصيب بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابنًا، ولا
مثل أخيك أخًا، ولا مثل مولاك مولى قط، فطأطأ عمر رحمه الله رأسه، فقال أحد
الحاضرين: لقد هيجت عليه، فرفع عمر بن عبد العزيز رحمه الله رأسه، فقال: كيف قلت
يا ربيع أَعِد.
قال فأعدت عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما
أُحِبُّ أن شيئًا ممَّا كان لم يكن.([58])
وفاة عمر بن
عبد العزيز رحمه الله
قالت فاطمة بنت عبد الملك وهي زوجة عمر بن عبد العزيز
رحمهما الله:كنت أسمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مرضه يقول: اللهم أخف عليهم
أمري ولو ساعة، قال: قلت له: ألا أخرج عنك، فإنك لم تنم، فخرجت، فجعلت اسمعه يقول:
﴿تِلْكَ
الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].
فكررها مرارًا، ثم أطرق، فلبثت طويلاً لا أسمع له حس،
فقلت لوصيف: ويحك انظر، فلما دخل صاح، فدخلت فوجدته ميتًا، وقد أقبل بوجهه على
القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه، والأخرى على عينيه.([59])
عروة بن الزبير
رحمه الله
قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك حين دويت([60])
رجله، فقيل له: اقطعها. فقال: إني لأكره أن أقطع مني طائفة، فارتفعت إلى الركبة،
فقيل: إن وقعت في ركبتك قتلتك، فقطعها، فلم يقبض وجهه ولا تأوه. ويقال: إنه لم
يترك حزبه في تلك الليلة، وقيل له قبل أن يقطعها: نُسقيك دواءً لا تجد لها ألمًا؟
قال: ما يسرني أن هذا الحائط وقاني أذاها.
فلمَّا كان بعد أيام قام ابنه محمد بن عروة ليلاً فسقط
من أحد الأسطح في إصطبل دواب الوليد، فضربته بقوائمها حتى قتلته.
فأتى رجل عروة يعزِّيه، فقال له عروة: إن كنت جئت
تُعزِّي برجلي فقد احتسبتها.
فقال: بل أُعزِّيك في محمد ابنك. قال: وما له؟ فخبَّره
بشأنه، فقال:
وكنتُ إذا الأيَّام أحدَثن نكبة
|
|
|
|
أقول شُوى([61]) ما لم يصبن
صَمِيمِي
|
|
اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستَّة،
وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت
لقد أبقيت.([62])
الشيخ الضرير
وقدم على الوليد وفدٌ من عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن
حاله وسبب ذهاب بصره، فقال: خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي، ولا أعلم
عبسيًا يزيد ماله على مالي، فعرسنا في بطن وادٍ، فطَرَقَنا سَيلٌ، فذهب ما كان لي
من أهل ومالٍ وولد غير صبي صغير وبعير، فشردَ
البعيرُ، فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لأخذ البعير، فسمعت صيحة الصغير، فرجعت
إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه، فرجعت إلى البعير، فحطم وجهي برجليه،
فذهب عيناي، فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل، فقال الوليد: اذهبوا إلى
عُرْوة يعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.([63])
الإمام الشافعي
رحمه الله
الإمام الشافعي يُعزي عبد الرحمن بن مهدي:
روى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله: أن
الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا.
فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول: يا أخي عَزِّ نفسك
بما تُغِرِّ به غيرك، واستَقبِحْ من نفسك ما تَستِقبِحُه من غيرك، واعلم أن أعظم
المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعتا مع اكتساب وزر؟
ألهمك الله عند المصائب صبرًا، وأجزل لنا ولك بالصبر
أجرًا.([64])
الإمام الشافعي يحتضر:
حُكي أن الإمام المزني، دخل على الإمام الشافعي في مرضه
الذي مات فيه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فأجابه قائلاً:
أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسَيِّء
عملي مُلاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى ربي تبارك وتعال واردًا، لا أدري: تصير
روحي إلى الجنَّة فأُهَنِّيها، أو إلى النار فأُعَزِّيها، ثُمَّ أنشد قائلاً:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
|
|
جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّما
|
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
|
|
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
|
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
|
|
تجود وتعفو منَّةً وتكرُّما([65])
|
([1]) مسلم 2999.
([2]) النصب: التعب.
([3]) الوصب: الوجع.
([4]) البخاري – فتح الباري 10/5641، 5642 مسلم 2573.
([5]) البخاري – فتح الباري 11/6424.
([6]) الترغيب والترهيب 3407.
([7]) الترمذي 1021.
([8]) مسلم 2626.
([9]) البخاري – فتح الباري 10/5652، مسلم 2576.
([10]) بهجة المجالس وأُنس المجالس 3/348.
([11]) نضرة النعيم 2123، تهذيب مدارج السالكين 2/185.
([12]) هجة المجالس وأُنس المجالس 3/349.
([13]) نضرة النعيم 2470، الزهد لوكيع بن الجراح 2/456.
([14]) نضرة النعيم 2124، ابن أبي
الدنيا في التقوى.
([15]) بهجة المجالس وأُنس المجالس 3/352.
([16]) نضرة النعيم 2123، الإحياء
للغزالي 3/346.
([17]) نضرة النعيم 2470، الدرر المنثورة للسيوطي 1/378.
([18]) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب
2/417.
([19]) نزهة الفضلاء سير أعلام النبلاء 3/1447.
([20]) كشف الكربة عند فقد الأحبة.
([21]) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 2/417.
([22]) القين: الحداد.
([23]) البخاري – فتح الباري 3/1303، مسلم 2315.
([24]) تتقعقع: تتحرك وتضطرب.
([25]) شن: القربة الخلق الصغيرة.
([26]) البخاري – فتح الباري 3/1284، مسلم 923.
([27]) هبلت: أي أفقدت عقلك بفقدك ابنك حتى جعلت الجنان جنة واحدة.
([28]) البخاري – فتح الباري 11/6550.
([29]) مشكاة المصابيح 1697، مسند
الإمام أحمد 15042، 19472.
([30]) سنن النسائي 1974، شرح سنن النسائي للسندي 2061، الترغيب
والترهيب 2007..
([31]) البخاري – فتح الباري 3/1283، مسلم 926.
([32]) الرحيق المختوم 203.
([33]) البخاري – فتح الباري 14، مسند الإمام أحمد 12349، الجامع الصغير 7682، سنن
ابن ماجه 56.
([34]) الرحيق المختوم 257، ابن هشام 2/99.
([35]) الرحيق المختوم 257، السيرة الحلبية 2/47.
([36]) الربيئة: الشخص المخصص للمراقبة.
([37]) الرحيق المختوم 350، زاد المعاد 2/112، سيرة ابن هشام 2/203 فتح الباري
7/417.
([38]) السنح: منطقة في عوالي المدينة.
([39]) حبرة: نوع من القماش.
([40]) الرحيق المختوم 452.
([41]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين 153.
([42]) الزهد 90.
([43]) العقد الفريد 3/239.
([44]) العقد الفريد 3/233.
([45]) العقد الفريد 3/255.
([46]) العقد الفريد 3/303.
([47]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين 224-225، ابن أبي الدنيا في الشكر 82-83،
التنوخي في الفرج بعد الشدة 1/79-80، الهندي في الكنز 4995.
([48]) بهجة المجالس وأُنس المجالس 3/359.
([49]) الصبر الجميل 57-58-59.
([50]) كشف الكربة عند فقه الأحبة.
([51]) كشف الكربة عند فقد الأحبة.
([52]) الرحيق المختوم 266.
([53]) كشف الربة عند فقد الأحبة.
([54]) المستطرف في كل فن مستظرف 1/566.
([55]) العقد الفريد 3/228.
([56]) الزهد 243.
([57]) العقد الفريد 3/309.
([58]) كشف الكربة عند فقد الأحبة.
([59]) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 1/480.
([60]) دويت: أصابها الداء.
([61]) شوى: أي هين حقير.
([62]) بهجة المجالس وأُنس المجالس 3/356.
([63]) المستطرف في كل فن مستظرف 1/339.
([64]) المستطرف في كل فن مستظرف 1/567.
([65]) سمير المؤمنين في المواعظ والحكم والقصص 157.
لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف يمكنك تحميل الكتاب من الرابط اسفل المقال
تحميل كتاب الرضا بعد القضاء PDF كتب اسلامية من هنا