-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب التأصيل مبدأ وغاية PDF


كمال الهداية في فعل الواجبات
قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ [المائدة: 105]، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين القائل: «من رأى منكم منكرًا, فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان»([1]) قال ابن أبي حازم رحمه الله: قام أبو بكر رضي الله عنه, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: يا أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{ وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله r يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر, ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه»([2]) وعن أبي أمية الشعباني رحمه الله قال:أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه, فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{ قال: أما والله, لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله r فقال: «بل ائتمروا بالمعروف, وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك, ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم» قيل: يا رسول الله, أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم»([3]) في هذه الآية وهذه الأحاديث والآثار إشارة صريحة واضحة، بأن الاهتداء الكامل لا يتم إلا بأداء الواجبات, واجتناب المنكرات، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقوم بغيره من الواجبات، وامتثل ذلك في نفسه، فإنه لا يضره ضلال من ضل.
أقسام الناس في هذا الجانب:
لقد انقسم الناس في هذا الأمر العظيم إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: لا يأمرون, ولا ينهون إلا بما يكون تبعًا لأهوائهم، فلا يرضون إلا بما يحبون، ولا يغضبون إلا عندما يخالفون، وهؤلاء شر الأقسام, وهم أصحاب الأهواء والبدع، وإن كان فيهم تعبد وتزهد، فهم جهال بحقيقة الأمر لماذا؟ لأن كثير من العباد والزهاد قد يكون فيهم شعبة من الخوارج أو من المرجئة، وإن كانوا يخالفونهم في شعب أخرى، ولذلك فكل من خرج عن موجب الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد، فإنهم ينسبون إلى أهل الأهواء، لأنه من لم يتبع العلم الصحيح، فقد اتبع هواه، والعلم بالدين الصحيح لا يكون إلا بهداية الله تعالى وتوفيقه أولاً, وإرشاد نبيه محمد r ثانيًا، فمن ابتغى إلى غير ذلك سبيلاً, فقد عصى ربه, واتخذ إله هواه.
القسم الثاني: قوم أصحاب دين وعقيدة صحيحة، يحبون ما يحبه الله, ويبغضون ما يبغضه الله، وهؤلاء هم خير الأقسام، وهم الذين آمنوا بالله تعالى، وعملوا الصالحات، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهم الموصوفون بقوله تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ{ [آل عمران: 110].
القسم الثالث: قوم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تأويلاً لهذه الآية، بأن الإنسان إذا كان صالحًا في نفسه كفاه ذلك، وهؤلاء حصل منهم تقصير وقصور: تقصير في البحث, وقصور في الفهم، وتأويلهم قريب، نسأل الله أن يعفو عنها وعنهم.
القسم الرابع: قوم يريدون أن يأمروا, وينهوا؛ إما باليد, وإما باللسان مطلقًا من غير فقه, ولا علم، ولا نظر فيما يصلح من ذلك, وما لا يصلح، وهؤلاء وقعوا في الخلل والغلط من ناحية المفهوم الصحيح للأمر والنهي.
القسم الخامس: قوم اجتمع فيهم هذا وذاك، وهم غالب المسلمين، وهؤلاء خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فكم من الناس من لم يرد خيرًا, ولا شرًا، حتى رأى غيره يفعل ذلك الفعل، من خير أو شر، فاستحسنه منه، لا سيما إذا كان الفاعل من له أتباع، فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على التشبه بعضهم ببعض، وشبيه الشيء منجذب إليه، وهذه صفة سليمي الصدر الغافلين.
أحوال أهل الشهوات:
كثير من أهل المعاصي والمنكرات يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويغضبون ممن لا يوافقهم وممن ينكر عليهم، وقد وقع في شراك هؤلاء كثير من الغافلين سليمي الصدر، حيث زينوا لهم ارتكاب المعاصي والمنكرات، بعبارات جذابة وأمانٍ كذابة، فجعلوا ذلك ربقًا في أعناقهم, يتصرفون بهم كيف شاؤوا, وهذا أمر ظاهر في أهل الديانات الفاسدة، وأهل الرئاسات الظالمة وأصحاب الشهوات الساقطة، فكثيرًا ما يختار أهلها, ويؤثرون من يوافقهم, ويشاركهم في أمورهم وشهواتهم؛ إما بالموافقة على الاعتقاد الفاسد، أو بالعمل بخلاف الاعتقاد، كما في حال أصحاب الديانات الفاسدة والأهواء الضالة، وإما بالمعاونة والمسايرة كما في أحوال المتغلبين من أصحاب الرئاسات، وإما بالتلذذ والموافقة، كما في حال أهل المعاصي والمنكرات، فهؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم، أو يأمرون من يخالطهم بذلك الفعل، ويستعينون به على ما يريدونه، ومتى شاركهم, وعاونهم, وأطاعهم انتقصوه, واستخفوا به، وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى، وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه، وهذه حالة غالب الظالمين القادرين الذين يدعون في الظاهر بأنهم من أهل الصلاح والإصلاح، وأنهم يحبون الإحسان إلى الناس، فكم من رجل نطق بالحق, وأمر بالمعروف, ونهى عن المنكر، وأحسن إلى الناس فيسلط الله عليه من يؤذيه، لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس بعض المتعلمين، وفي نفوس بعض الأغنياء والمنفقين، فعلى الإنسان أن يحسن النية, ويفعل الواجبات, ويأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر, ويجتنب المعاصي والمنكرات، حتى يحظى برضا الرب عز وجل، ويكون في زمرة المهتدين الأخيار الذين لا يضرهم ضلال من ضل.


فصل
التلازم بين الشريعة والعقيدة
قال الله سبحانه وتعالى: }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ [الكهف: 110] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
 والعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لكتاب الله وسنة رسوله r فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله, وكان محسنًا في عمله، فإنه مستحق للثواب، سالم من العقاب .. وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير (أنه) قال: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ([4]) وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيًا ([5]), قلت: وفيه رد على الخوارج أيضًا الذين يجعلون مجرد العمل كافيًا, وكلا الفريقين على غير طريق السلف الصالح، لأنه لا بد من قول وعمل واعتقاد، فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وحيث قد شاع عند بعض الناس أن أهل البلد الفلاني أو القطر الفلاني، أصحاب عقيدة صحيحة وطريقة سليمة، فاغتر أولئك بما نسب إليهم من الأقوال، فتساهلوا في الأعمال الصالحة، وارتكبوا بعض المخالفات، لماذا؟ لأنهم كما يزعمون أصحاب عقيدة صحيحة، فاتخذوا من هذه الكلمة سُلمًا يعبرون به إلى التساهل في ترك الواجبات، وارتكاب بعض المخالفات، وهذا جهل عظيم بحقيقة العقيدة الصافية الصحيحة، وأي جهل أعظم من الرضا بالقول دون الفعل. قال أحدهم:
لا ترض بالقول دون الفعل منقبة


فإن ذاك خسيس الحظ نازله

فارجع إلى الله عما فات من زلل


وانهض لتصلح منه ما يقابله

واربح أواخر عمر لا بقاء له


فقد نقضت بخسران أوائله

صفة صاحب العقيدة الصحيحة:
العقيدة الصحيحة إذا قويت في قلب المؤمن، زاد في العمل الصالح, واجتنب المخالفات, وابتعد عنها، أما الذين يدعون أنهم أصحاب عقيدة صحيحة، فلو صحت عقيدتهم لصحت أعمالهم، لأن العمل الصالح إذا ضعف، ضعف الإيمان، وإذا قوي العمل الصالح قوي الإيمان، وعقيدة أهل السنة والجماعة، أن الإيمان يزيد بالطاعة, وينقص بالمعصية، قال ابن بطال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها، أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه([6]) قول الله تعالى: }وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{ [التوبة: 124]، وقوله: }وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى{ [طه: 82] فالتوبة تكون بالقول والاعتقاد والإيمان يكون بالاعتقاد والقول والعمل الصالح يشتمل على الاعتقاد والقول وعمل الجوارح كما في قوله r: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»([7]) وقوله r لحنظلة رضي الله عنه: «والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم, وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة, ساعة وساعة»([8]) هذه النصوص الصحيحة الصريحة فيها أكبر دلالة على زيادة الإيمان ونقصانه، وبيان ذلك أنه من لم يحصل له الزيادة في الإيمان, فإيمانه ناقص، لقوله تعالى: }وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ{ [محمد: 17]، وقوله تعالى: }وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا{ [المدثر: 31] فإذا ترك شيئًا من كمال الإيمان, فهو نقص، أما بيان أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، فكما في قوله تعالى: }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا{ [مريم: 60] فكلمة لا إله إلا الله من الإيمان، وهي قول باللسان، وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان, وهي عمل من أعمال البدن، والحياء من الإيمان, وهو اعتقاد من أعمال القلب، وكان السلف الصالح ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل, ولا عمل إلا بإيمان، ومن هذا يُعلم قوة الترابط والتلازم بين عمل الجوارح وعمل القلب، فإذا صدق عمل القلب ظهر ذلك على الجوارح، لأن القلب ملك الجوارح، فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت، كما جاء في الحديث الصحيح «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([9]) فإذا صلحت أعمال القلوب صلحت أعمال الجوارح، وإذا فسدت القلوب فسدت الجوارح.
المجازاة على البواطن:
قد يستطيع أو يحاول الإنسان التصنع والتظاهر بصلاح الأعمال والقلب فاسد مولع بالشهوات الخفية، ولكن من كان حاله هكذا لا بد له من يوم يأتي عليه يظهر فيه ما كان يخفيه، من سوء السرية، وقد لا يظهر ذلك إلا في أصعب الحالات التي تمر بالإنسان, وذلك عند سكرات الموت، فكم من إنسان عاش وظاهره الصلاح، ولكنه يخفي دسيسة سوء، لا يعلم بها الناس، فتظهر تلك الدسيسة السيئة في حال فراقه الدنيا, وإقباله على الآخرة، فتكون تلك هي خاتمة السوء، وفي ذلك عبرة وموعظة لمن كان له قلب سليم، فعلى المسلم ألا يغتر بظواهر الأمور، ويهمل أعمال القلوب، فإن المجازاة إنما تكون على ما تُخفي القلوب، لا على الظواهر والظنون, كما قال تعالى: }يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ{ [الطارق: 9] أي: تظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهور، وقال تعالى: }وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ{ [العاديات: 10] أي: أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم، وقد ذكر أهل العلم أحوال كثير ممن يغترون بالظواهر, ويهملون أعمال البواطن، وكيف كان حالهم عند الاحتضار، فكم من شخص فارق الدنيا, وهو يلهج بالمعاصي التي كان يخفيها عن أعين الناس، فعند الموت بانت الخفايا، فليحذر الإنسان من عاقبة الأمور.
إذا صح الاعتقاد حسن العمل:
العقيدة الصحيحة يا أهل العقيدة، إذا صحت في القلوب صار لها أثر على الجوارح، أما الذين يدعون أنهم أصحاب عقيدة صحيحة، وأنهم متبعون لطريق السلف الصالح، وألسنتهم ولاغة في أعراض المسلمين، من غيبة ونميمة وإفك وافتراء وبهتان، وآذانهم إلى ما حرم الله مصغية، وأبصارهم إلى المحرمات ناظرة، هؤلاء لا شك عندهم نقص في الاعتقاد، ولا يصح أن ينسبوا إلى طريقة السلف الصالح بالإطلاق بل لا بد من القيد، فما حققوه من معتقد أهل السنة والجماعة نسبوا إليه، وينقصون بقدر ما نقصوا من ذلك، وهذا من باب العدل والإنصاف، لأنه يوجد في الناس من يعظمون العمل، ولكنهم في جانب العقيدة ليسوا على شيء، وهؤلاء لهم سلف في الأمة, وهم الخوارج، فهم يعظمون جانب بالعمل, ويهملون جانب العقيدة، كما أخبر بذلك النبي r بقوله: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم, وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»([10]) هذه طائفة، وطائفة أخرى يعظمون جانب بالعقيدة كما يعمون, ويهملون جانب بالعمل، وهؤلاء لو صح منهم الاعتقاد، لصح منهم العمل، لأن الاعتقاد والعمل قرينان متلازمان، لا يقبل من أحدهما دون الآخر، وأصحاب هذا المنهج هم المرجئة, ومن حذا حذوهم, حيث يقولون: إنه لا يضر ذنب مع إيمان، فسهل لهم هذا الاعتقاد الفاسد ارتكاب المعاصي والمنكرات والتهاون في الحقوق والواجبات.
الدعاوى لها علامات:
وهناك طائفة ثالثة يقولون: نحن على العقيدة الصحيحة، عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن إذا رأيت أعمالهم لم تجدها من أعمال السلف الصالح، وإذا رأيت أخلاقهم لم تجدها من أخلاق السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة يذكرون في عقائدهم فصلاً مستقلاً، يبينون فيه محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، يذكرون فيه ما كان عليه السلف الصالح من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أصول أهل السنة والجماعة: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ... ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال([11]), فالمعروف هو: كل ما يحسن في الشرع، وهو اسم لكل خير، ومحبوب ومرغوب فيه عند أصحاب النفوس السليمة، والمنكر هو: كل ما خرج عن طاعة الله ومتابعة رسوله r من قول أو فعل، وهو اسم لكل شر تنكره النفوس الأبية، وتنفر منه الطباع الزكية، ومكارم الأخلاق هي الخصال التي يحبها الله ورسوله r، وقد حث عليها الكتاب والسنة, ورغب فيها, كما في قوله تعالى: }خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{ [الأعراف: 199]، وقوله تعالى: }ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ{ [فصلت: 34] وقول الرسول r: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا المؤطئون أكنافًا الذين يألفون, ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»([12]) وقوله r: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق»([13]), والخلق هو: صورة الإنسان الباطنة، لأن كل إنسان له صورتان، صورة ظاهرة وهي: شكل خلقته التي جعل الله البدن عليها، وصورة باطنة وهي: حالة للنفس راسخة في القلب تصدر منها الأفعال من خير وشر، فالأولى تدرك بالنظر إليها، والثانية تدرك بالمخالطة والمعاملة، والكل منها منه الحسن الجميل ومنه السيء القبيح، ومكارم الأخلاق تحبها النفوس, ويمتدح فاعلها، وتُسمى معالي الأمور، لأنه لا يفعلها إلا أهل الكرم وأصحاب الهمم العالية، ومن مكارم الأخلاق طلاقة الوجه والتبسم عند اللقاء، ونفع المسلمين والسعي في حوائجهم وتفريج الكرب والكلمة الطيبة، الحاصل أن محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، تدعو إلى فعل كل حسن جميل، وتنهى عن كل فعل سيء قبيح, والمؤمن يفعل ذلك طاعة لله عز وجل ومتابعة للرسول r، وغير المسلم يفعل ذلك حبًا في المدح وخوفًا من الذم.
التباس الحق بالباطل:
اعلم أن: جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية والأمور العملية.. ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال، وأهل العبادة والحال، وأهل الحرب والقتال، من لبس الحق بالباطل في كثير من الأصول، فكثير ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة.. وكثير ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها، بل قد نهى عنها أو ما يتضمن مشروعًا ومحظورًا، وكثيرًا ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفًا للقتال المأمور به، أو متضمنًا لمأمور ومحظور، ثم كل من الأقسام الثلاثة: المأمور به، والمحظور، والمشتمل على الأمرين، قد يكون لصاحبه نية حسنة، وقد يكون متبعًا لهواه، وقد يجتمع له هذا وهذا.. وهذا كله من لبس الحق بالباطل، وخلط عمل صالح وآخر سيء([14]), ومن هذا يُعلم أن حب طريقة السلف الصالح لها شواهد وهي: لزوم محجتهم مع استقامة قلب، وصحة علم، وصدق لسان، وحسن سريرة، في أمور الدنيا والآخرة، كما كان القوم عليه في هذه الأحوال، وهذا هو الذي يحقق صدق الدعوى لمحبتهم, والتمسك بطريقتهم، فإذا صحت من الإنسان, وفيه هذه الخصال كصحتها منهم وفيهم، كان صادقًا في حبه لهم، وإن كان مدعيًا لحبهم, وهو مخالف لطريقتهم، ومائل عن سبيل الاستقامة التي كانوا عليها، فهو كاذب في دعواه، متبعًا لهواه، فيا مدعي الصلاح والاستقامة لا تجمع على نفسك مخالفة طريق الصالحين، ودعوى إنك على سبيلهم، فمتى فعلت ذلك صح فيك جهل وكذب، جهل لحقيقة الأمر الذي هم عليه، وكذب في دعواك أنك محب للصالحين، لأن من صحت معرفته, وصدق حبه لقوم اتبع طريقهم، وحقق ذلك اعتقادًا وقولاً وعملاً، أما الدعوى بالأقوال الخالية من الأعمال والمخالفة للأفعال, فإن صاحبها قد عرض نفسه لمقت الرحمن، الذي يعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور.


فصل
أثر العلم على الأمن والإيمان
قال الله تعالى: }وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا{ [النساء: 83].
قيل: إن هذه الآية (نزلت) في المنافقين، وهم الذين كانوا يذيعون بمسائل الأمن والخوف ونحوها، مما ينبغي أن يترك لأهله، وقيل: هم ضعفاء المؤمنين.. ويجوز أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين لعموم العبرة، ومن خبر أحوال الناس يعلم أن الإذاعة بمثل أحوال الأمن والخوف، لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هي مما يلغط به أكثر الناس، وإنما تختلف النيات، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع ما يرى فيه الشبهة.. وأما غيرهما من عامة الناس فكثيرًا ما يولعون بهذه الأمور، لمحض الرغبة في ابتلاء أخبارها, وكشف أسرارها، أو لما عساه ينالهم منها، فخوض العامة في السياسة([15]), وأمور الحرب والسلم والأمن والخوف، أمر معتاد, وهو ضار جدًا، إذا اشغلوا به عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به ([16]), فلامهم الله, وعلمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول r وجلة أصحابه قبل إشاعته؛ ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب، ويأخذوا لكل حالة حيطتها، فيُسلم المؤمن من مكر المنافقين الذين قصدوه (حيث) كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف، وهي مخالفة للواقع، ليظن المسلمون الأمن حين الخوف, فلا يأخذوا حذرهم، أو الخوف حين الأمن, فتضطرب أمورهم, وتختل أحوال اجتماعهم، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم, فأذاعوا به، فتم للمنافقين الدست وتمشت المكيدة([17]).
إسناد الأمر إلى أهله:
ومعنى الآية واضح جلي, وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقًا يخوضون في أمر الأمن والخوف يذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول r وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد، ورجال الشورى؛ لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور، ويعرفون مصلحة الأمة, وما ينبغي إذاعته, وما لا ينبغي([18]), وفي الآية الإنكار على من يبادر بنشر كل خبر يتلقاه قبل التحقق من صحته، سواء كان ذلك الخبر مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين, أو ما يتعلق بالخوف الذي به مصيبة المؤمنين.
قاعدة مهمة يجب التنبه لها:
هذه قاعدة مهمة يجب التنبه لها وهي: (إنه إذا حصل أمر من الأمور المهمة المتعلقة بمصالح البلاد والعباد، فإنه يجب الرجوع في ذلك إلى ولاة الأمر من العلماء والأمراء، فالعلماء يبينون أحكام الشرع, وما ينبغي اتخاذه لدفع الشر والفساد عن البلاد والعباد، ويبينون أسباب استقرار الأمن وإزالة الخوف، والأمراء ينفذون أوامر الشرع فيمن تصدر في حقهم الأحكام، وبذلك يتحقق الأمن والإيمان).
التلازم بين الأمن والإيمان:
من هذه القاعدة يتبين لك مكانة العلماء والأمراء, فمتى وجدت قوة إيمانية وقوة سلطانية تحقق الإيمان الكامل والأمن التام، لأنه لا يمكن أن يتحقق كمال الإيمان إلا بالأمن التام، والأمن والإيمان لا يتحقق إلا بالعلم الشرعي، ومن هذا يتضح أثر العلم على الأمن والإيمان، إذ لا إيمان إلا بعلم, ولا أمن إلا بإيمان، فحفظ شريعة الإيمان من جهة العلماء، وحفظ أمن البلاد من جهة الحكام، فالعلماء والحكام هم ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم مقرونة مع طاعته وطاعة رسوله r, حيث قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ{ [النساء: 59] فبهذه الطاعة يغرس الإيمان في القلوب، ويستقر الأمن في البلاد, وإذا تأملنا أحوال الدول والشعوب التي لم تمتثل لهذه الطاعة، وجدنا أن الأمن فيها مفقود مع وجود قوة السيطرة والتسلط، وهذا دليل على قوة التلازم بين الأمن والإيمان.
العلماء سراجًا للعباد:
لقد أمر الله سبحانه وتعالى الجهال بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم في حال الحوادث والنوازل، وكل ما يحتاج إليه المسلم من أمور دينه ودنياه, قال تعالى: }فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أن كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{ [النحل: 43] وقد أنكر النبي r على بعض أصحابه أشد الإنكار عندما أفتوا في الدين بلا علم، وذلك عندما أصاب أحد الصحابة جنابة, وبه جراحات فأفتوه بأن يغتسل، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك الرسول r فقال: «قتلوه قاتلهم الله, ألا سألوا إذا لم يعلموا, فإنما شفاء العي السؤال»([19]).
 في هذا الحديث من العلم إنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له([20]), فإذا كان هذا الإنكار من الرسول r على الصحابة الأخيار، أهل السابقة في العلم والإيمان، فالإنكار على من هو أقل منهم علمًا وإيمانًا من باب أولى، وهنا يتبين الفرق بين العلماء والجهال، وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك بقوله تعالى: } هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ { [الزمر: 9] هذا استفهام استنكاري، أي: أنه لا يستوي العالم بدين الله عز وجل والجاهل بذلك؛ فالعلماء أصحاب عقول زكية ذكية، نظروا إلى عواقب الأمور، فآثروا العلم على الجهل، والطاعة على المخالفة، بخلاف الجهال الذين لم ينظروا إلى عواقب الأمور، فوقعوا في المخالفة, وجانبوا الطاعة، إذًا فالعلم هو الطريق الموصل إلى الإيمان والعمل الصالح، والعلماء هم الذين يخشون ربهم؛ لأن معرفتهم بالله زادتهم خشية, قال الله تعالى فيهم: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{ [فاطر: 28], وقال r: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»([21])، فلما أراد الله (بالعلماء) خيرًا فقههم في الدين، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سراجًا للعباد ومنارًا للبلاد([22]).
الفرق بين العلماء والمتعالمين:
العلماء الربانيون حقًا هم الذين يعلمون الناس شريعة ربهم، وماذا أراد منهم، وحيث قد تشبه بالعلماء من ليس منهم، فتجد من يتشبه بهم في المظهر والمنظر، والمقال والفعال، وإذا تأملت حالهم وجدتهم مخالفين لهم في النصيحة للعباد، وإرادة الحق، والتميز بين هؤلاء وأولئك يتبين فيما يأتي بيانه:
 أولاً: العلم ليس بكثرة الرواية, وسعة الهذر, وكثرة السرد، وإنما العلم نور يقذفه الله في قلوب من يشاء من عباده، فيحصل بذلك الفقه في الدين الذي يدعو إلى الخشية والطاعة، وينهى عن الغفلة والمخالفة، هذا هو العلم الشرعي الذي أمر الله تعالى بتعلمه بقوله عز وجل: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ{ [محمد: 19]؛ فبدأ بالعلم قبل العمل, وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب: العلم قبل القول والعمل.
 ثانيًا: أن كثيرا من العامة والجهال، يظنون أن القراء والوعاظ والخطباء والمتعالمين هم العلماء الذين يجب الرجوع إليهم عند النوازل والحوادث والفتن، وهذا خطأ فادح وقع فيه كثير من الناس، فحصل الخلل والتخبيط، والشطط والتضليل لماذا؟ لأنه ليس كل من حمل العلم عالمًا، بل قد يحمله من ليس من أهله, كما جاء في قوله: }مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا{ [الجمعة: 5] وقوله r: «... فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ورب حامل فقه ليس بفقيه»([23]) هذه النصوص الصحيحة الصريحة فيها بيان للناس بأن ليس كل من حمل العلم كان عالمًا، وإنما العلم الحقيقي هو: ما وقر في القلب, وظهرت ثمراته على الجوارح: قولاً وفعلاً واعتقادًا في العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب الظاهرة والباطنة.
 ثالثًا: أن الذين اهتموا بحفظ المسائل وكثرة الرواية، دون تبصر ودراية، فهؤلاء الصنف من الناس إنما يستفتون بالشكل والمظاهر، لا بالفضل والمخابر، فاغتروا بكثرة العكوف عليهم ومسارعة أجهل الناس إليهم، فدعاهم ذلك إلى الجراءة على الإفتاء والتصدر للتدريس, وهم غير أهل لذلك، ومن هذا الباب استحقوا اسم الذم، فالذين تعلموا العلم ليقال لهم علماء, ولم يعلموا حقيقة العلم, وما يدعون إليه، فهم كما شبههم الله تعالى بالحمار الذي يحمل الأثقال على ظهره, ولا يعلم حقيقة ما يحمله، قال قائلهم:
فلو لبس الحمار ثياب غز = لقال الناس: يا لك من حمار

العلماء ثلاثة أقسام:
قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه, وعاش به الناس، ورجل عاش بعلمه, ولم يعش به الناس، ورجل عاش الناس بعلمه, وهلك هو([24]). وقد أجاد وأفاد عبد الملك الحريري الوزير عندما قال: ([25])
والعلم ليس بنافع أربابه = ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد = عملاً به وصلاة من لم يتطهر
فاعمل بعلمك توفَّ نفسك وزنها=لا ترضى بالتضييع وزن المخسر

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا حملة العلم, اعملوا به, فإنما العالم من علم ثم عمل, ووافق عملُه علمَه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا, فيباهي بعضهم بعضًا، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل([26]).
 في قول علي رضي الله عنه: إشارة إلى قوله تعالى: }إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ{ [فاطر: 10] قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله، فإذا كان كلام طيب وعمل سيء رد القول على العمل، وكان عملك ألحق بك من قولك([27]), وقال سفيان ابن عُيينة رحمه الله تعالى: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله، وعالم بأمر الله، وعالم بالله وبأمر الله، فأما العالم بالله فهو يخاف الله, ولا يعلم السنة، وأما العالم بأمر الله فهو الذي يعلم السنة, ولا يخاف الله، وأما العالم بالله وبأمر الله, فهو الذي يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات([28]).
ما هي حقيقة العلم:
اعلم أن حقيقة العلم تنحصر في أمرين: الأمر الأول: المعرفة، والأمر الثاني: الخشية، فمن كان أعرف بالله كان أشد خشية له، كما في قوله تعالى: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ أن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ{ [فاطر: 28] كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن الفقه ليس بكثرة السرد وسعة الهذر، وكثرة الرواية، إنما الفقه خشية الله عز وجل ([29]). قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علمًا, وكفى بالاغترار بالله جهلاً ([30]), وأنشد عبد الله بن أحمد ابن حنبل عن أبيه رحمهما الله هذه الأبيات([31]):
دين النبي محمد أخبارًا


نعم المطية للفتى آثارًا

لا ترغبن عن الحديث وآله


فالرأي ليل والحديث نهارا

ولربما جهل الفتى أثر الهدى


والشمس بازغة لها أنوارا

وقال آخر:
إذا اتضح الصواب فلا تدعه = فإنك كلما ذقت الصوابا

وجدت له على اللهوات بردًا = كبرد الماء حين صفا وطابا

وليس بحاكم من لا يبالي = أأخطاء في الحكومة أم أصابا

لتحميل الكتاب بالكامل علي صيغة بي دي اف من الراط اسفل المقال 

تحميل كتاب التأصيل مبدأ وغاية PDF من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016