التمهيد
وفيه ثلاثة
مطالب:
المطلب الأول
تعريف الشفاعة
الشفاعة في اللغة: الشين
والفاء والعين أصل يدل على الانضمام ومقاربة الشيئين، ومن ذلك الشفع خلاف الوتر،
لأن الشافع انضم إلى طالب الشفاعة فصيره شفعًا بعد أن كان وترًا، والشفاعة طلب
النصرة والعون، يقال شفع فلان لفلان إذا جاء ملتمسًا لطلبه معينًا له، والشفاعة أيضاً
الوسيلة، والشفيع صاحب الشفاعة أي الطالب لغيره وجمعه شفعاء، واستشفع سأله أن يشفع
له، وشفع فيه أي قبل شفاعته([1]).
الشفاعة في
الاصطلاح:
عرفت اصطلاحًا
بتعريفات متعددة متقاربة في المعنى ومن تلك التعريفات ما يأتي:
2- «انضمام
الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه»([3])
لكن هذا التعريف ليس دقيقًا لأن من الشفاعة ما يكون من الأعلى للأدنى كما في شفاعة
النبي r عند غيره.
3-
«السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم([4])
وهذا التعريف ليس شاملًا لأنه مقتصر على الشفاعة في إسقاط العقوبة بينما هي أعم من
ذلك.
ويلاحظ أن
التعاريف الأربعة الأخيرة أفضل من غيرها، ومن خلال ما سبق ذكره من هذه التعريفات
يمكن أن يختار للشفاعة تعريف هو«طلب شخص من غيره قضاء
حاجة دنيوية لشخص آخر».
فكلمة
دنيوية تخرج الشفاعة الأخروية، وكلمة قضاء حاجة يشمل جميع مجالات الشفاعة من طلب
المال أو الولاية أو العفو عن العقوبة، ورفع المظلمة وغيرها، ثم إنه يشمل أركان
الشفاعة التي هي الشافع، والمشفوع له، والمشفوع لديه، والمشفوع فيه «الحاجة».
وتسمى الشفاعة
أيضاً بذل الجاه، والواسطة([10])،
والأخير هو الاسم الشائع في وقتنا الحاضر.
ومما يجدر
ذكره بعد تعريف الشفاعة بيان الفرق بينها وبين الترغيب والحث على الشئ، وذلك من
وجهين:
1- أن الترغيب والحث ليس فيه سؤال والشفاعة فيها سؤال وطلب.
وليس من
الشفاعة من يتوكل عن غيره ويستعمل جاهه في استخلاص حق، أو متابعة معاملة وقضية
ونحو ذلك ويأخذ عليه أجرًا فيقول مثلًا: «أعطني
كذا وأنا استخلص حقك أو أنهي معاملتك بجاهي ومعرفتي، وهو ما يسمى بالتعقيب في
وقتنا الحاضر فهذا العمل جائز إذا كان في مجال مباح، ولم يكن فيه رشوة لموظف، ومن
هنا لا يأخذ أحكام الشفاعة فتجوز فيه الأجرة، والهدية، ولا يدخل في قسم الشفاعة
الحسنة، إذ لم يقصد به الإحسان ولا المساعدة، وقد لا تكون هناك معرفة بين من قام
بهذا العمل وبين صاحبه، كما هو الحال بين الشافع والمشفوع له، وقد أشار إلى نحو من
هذا الغزالي([12])
رحمة الله في إحياء الدين([13])
فقال: «وإن كان العمل مباحًا لا واجباً ولا حرامًا
وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال عن وفي بالغرض، وهو
جار مجرى الجعالة كقوله: أوصل هذه القصة إلى يد فلان أو يد السلطان ولك دينار،
وكان بحيث يحتاج إلى تعب وعمل متقوم، أو قال: اقترح على فلان أن يعينني في غرض كذا
أو ينعم عليَّ كذا... فذلك جعل كما يأخذه الوكيل بالخصومة بين يدي القاضي فليس
بحرام إذا كان لا يسعى في حرام».
****
المطلب الثاني
أنواع الشفاعة والفرق بينها
المسألة
الأولى: أنواع الشفاعة:
للشفاعة نوعان
رئيسان:
الأول:
الشفاعة الأخروية مثل شفاعة النبي r
لأمته وشفاعته لأهل الكبائر يوم القيامة، ومثل شفاعة الشهيد وشفاعة القرآن لصاحبه
وغيرها([14])، والشفاعة في الآخرة هي المرادة في كثير من الآيات كقول
الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي
السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}([15]). وقوله سبحانه: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية([16]) وقوله جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}([17]).
وهذه
الشفاعة تناولها العلماء بالتفصيل في كتب العقائد والتوحيد، وفيها مؤلفات عديدة،
وليست هذه الشفاعة مجال بحثنا.
الثاني:
الشفاعة الدنيوية وهي شفاعات الناس بعضهم لبعض في أمور الدنيا، مثل الشفاعة في
التزويج، والشفاعة في إسقاط عقوبة التعزير .... وهذه الشفاعة لها قسمان: شفاعة
حسنة، وشفاعة سيئة([18]).
وهي المرادة بقول الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ
لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}([19]) وهذه الشفاعة تناولها الفقهاء وغيرهم في كتب الفقه
والتفسير وشروح الحديث والآداب وأحكام هذه الشفاعة هي مجال هذا البحث.
المسألة
الثانية: الفرق بين الشفاعة الأخروية والشفاعة الدنيوية:
الفرق بينهما
من وجهين:
الأول: أن الشفاعة في الآخرة لابد فيها من إذن المشفوع
عنده-وهو الله سبحانه وتعالى-كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}([20]) وأما الشفاعة في
الدنيا فلا يلزم فيها إذن المشفوع عنده، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله بقوله: «فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة
الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه،
وإما لخوفه منه فيحتاج إلى أن يقبل شفاعته، والله تعالى غني عن العالمين، وهو وحده
سبحانه يدير العالمين، فما من شفيع إلا من بعد إذنه»([21]) .
الثاني: أن قبول الله
تعالى للشفاعة في الآخرة تفضل منه وإحسان للشافع والمشفوع له، أما قبول الشفاعة في
الدنيا فقد تكون بسبب رغبة المشفوع إليه فيما عند الشافع، أو خوفه منه، ونجو ذلك،
وقد بين ذلك ابن تيمية رحمه الله في كلامه المتقدم، وبينه-أيضاً-تلميذه ابن القيم
رحمه الله بقوله: «فلابد أن يحل
للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع به، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته، وهذا
بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن
توجد، والشافع لا يشفع لحاجة الرب إليه ولا لرهبة منه، وإنما يشفع عنده مجرد
امتثال لأمره وطاعة له»([22]).
****
المطلب الثالث
أهمية الشفاعة في حياة الناس
خلق الله
الناس وجعلهم متفاوتين في مكاناتهم الاجتماعية، وفي جاههم، فمنهم ذو الجاه
والمكانة، ومنهم المتوسط، ومنهم الضعيف المحتاج لغيره، من هنا كانت الشفاعة من
الوسائل المعينة على قضاء حوائج الناس، وفيها توسعة عليهم ورفع للحرج عنهم، وهي من
وجوه البر والإحسان، لأنه ليس كل إنسان يستطيع الوصول إلى السلطان أو ذوي الأمر،
لذا يحتاج لمن يوصل أمره ويرفع حاجته ويتوسط له([23])
جاء في الحديث قوله r :«أبلغوني
حاجة من لا يستطيع إبلاغها»([24]) وبخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة التي كثر فيها الناس،
وتعددت الحاجات حتى أصبحت الشفاعة والواسطة ظاهرة تدخل في كثير من الأمور.
ومما يؤكد
أهمية الشفاعة وحاجة الناس لها أن الشارع أمر بها وحث عليها، ورتب عليها الأجر،
ولا يأمر الشرع إلا بما فيه خير ونفع للناس، بل إن سيد البشر وأفضل الأنبياء r شفع لغيره، وقبل الشفاعة من غيره([25]).
والشفاعة من
الأخلاق الفاضلة التي عرفها الناس قديمًا، وقد كان للشفاعات عند الصحابة رضي الله عنهم والسلف
الصالح شأن عظيم، حيث كان الشخص يمدح بقدر إقدامه على الشفاعة، وقدر قبول شفاعته،
جاء في الحديث أنه مر رجل فقال رسول الله r: «ما تقولون فيه؟» قالوا: هذا جدير إن شفع أن يشفع([26]).
والشفاعة من
وجه آخر فيها رفع للظلم، وإيصال الحقوق لأهلها، وفيها إصلاح بين الناس، ونصرة للحق
وتأييد له([27])،
والشفاعة زكاة الجاه كما قال الحسن بن سهل([28])
رحمه الله.
فرضت عليَّ زكاة ما ملكت
يدي
|
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
([29])
|
وعن أهمية
الشفاعة يقول الماوردي([30])
رحمه الله: «الإسعاف بالجاه - يعني الشفاعة - قد
يكون من الأعلى قدرًا والأنفذ أمرًا. وهو أرخص المكارم، وألطف الصنائع موقعًا، وربما
كان أعظم من المال نفعًا، وهو الظل الذي يلجأ إليه المضطرون والحمى الذي يأوي إليه
الخائفون... فلا عذر لمن منع جاهًا أن يبخل به فيكون أسوأ حالًا من البخيل بماله([31]).
****
المبحث الأول
أحكام الشفاعة الحسنة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول
ضابط الشفاعة الحسنة
تدل ظواهر
النصوص الشرعية وكلام العلماء - رحمهم الله على أن الشفاعة الحسنة هي التي تجمع
الصفات والضوابط الآتية:
أولاً: أن تكون في أمر أو في مجال مباح شرعًا، كالشفاعة في
تأجيل الدين، والشفاعة في التولية، والشفاعة في القبول في الدراسة، خرج بهذا القيد
الشفاعة في أمر محرم كالشفاعة في الحصول على قرض ربوي مثلًا.
ثانياً: أن يكون المشفوع له يستحق هذه الشفاعة كأن يكون أهلًا
للوظيفة المتقدم لها، أو محتاجًا للمال الذي يطلب له، وكونه غير معروف بأذاه للناس
وكثرة جرائمه فيما إذا شفع له في إسقاط قصاص أو عقوبة تعزير.
ثالثاً: ألا يترتب على هذه الشفاعة إبطال حق أو إحقاق باطل، أو
اعتداء على حق الغير، كمن يترتب على الشفاعة له تقديمه على من هو أولى منه في
الوظيفة، أو الدراسة ونحو ذلك.
رابعاً: ألا تكون وسيلة الشفاعة ممنوعة شرعًا أو نظامًا، مثل أن
يكون فيها نوع إكراه للمشفوع لديه، أو بذل رشوة لموظف ونحوه، أو فيها مخالفة لنظام
وضعه ولي الأمر فيه مصلحة للناس، كالشفاعة في إسقاط رسوم الخدمات أو الغرامات التي
وضعها النظام، لأنها حق عام للأمة.
وهذه بعض نصوص
العلماء التي تفيد الضوابط السابقة:
قال النووي([32])
رحمه الله بعد ذكر حديث الشفاعة: «فيه استحباب الشفاعة
لأصحاب الحوائج المباحة، سواء أكانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى
واحد من الناس ,وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم ، أو إسقاط تعزير، أو في
تخليص عطاء لمحتاج، أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في
تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام»([33]).
وقال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن أعانه على بر
وتقوى كانت شفاعة حسنة، وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة»([36]).
وقال - أيضاً - في ضابطها بأنها «إعانة الإنسان
على خير يحبه الله ورسوله مع نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضر
عنه»([37]).
وقال ابن حجر
رحمه الله: «ضابط الشفاعة الحسنة ما أذن فيه
الشرع دون ما لم يأذن فيه»([38]).
وقال الزمخشري([39])
رحمه الله في ضابطها: «هي التي روعي بها حق
مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها
رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله، ولا في حق من الحقوق، والسيئة ما
كانت بخلاف ذلك»([40])([41]).
****
المطلب الثاني
حكم الشفاعة الحسنة وأدلتها
وفيه مسألتان:
المسألة
الأولى: حكمها بالنسبة للشافع«حكم الإقدام على
الشفاعة».
الشفاعة
الحسنة بالنسبة للشافع تأتي عليها الأحكام الآتية:
أولاً:
الوجوب: فتجب على الشخص إذا تعينت عليه بألا يوجد شافع غيره
وكان قادرًا عليها بلا ضرر يلحقه، وكان المشفوع له مضطرًا إليها، كالشفاعة في
الحصول على العلاج([42]).
ثانياً:
الاستحباب والندب: وتستحب
الشفاعة لمن يستحق في أمر ندب إليه الشرع ويحتاج إليه المشفوع له من غير ضرورة
كالشفاعة في تأجيل الدين والشفاعة في التولية، والشفاعة في الحصول على العطاء
والمنح...ونحوها([43])والشفاعة
الحسنة إذا أطلقت انصرفت إلى هذه الحالة - وهي حالة الندب - لأن أكثر مجالات
الشفاعة الحسنة يندرج تحت هذه الحالة.
ثالثاً:
الجواز والإباحة: فتجوز الشفاعة الحسنة
لمن يستحق في أمر مباح شرعًا لا يحتاج إليه المشفوع له. مثل الشفاعة في الحد قبل أن
يصل للحاكم، والشفاعة في العفو عن القصاص، وشفاعة القاضي لدى الخصوم([44]).
الأدلة على
مشروعية الشفاعة الحسنة:
وردت نصوص
شرعية عديدة في مشروعية الشفاعة الحسنة والحث عليها وبيان فضلها، وأجرها، ومن هذه
النصوص ما يلي:
1 - قول الله
تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}([45]).
قال مجاهد بن جبر([46])
رحمه الله: «نزلت هذه الآية في شفاعات الناس
بعضهم لبعض»([47]). فالآية صريحة في بيان فضل الشفاعة الحسنة وثوابها
للشافع.
2 - أن
النبي r كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال لهم: «اشفعوا تؤجروا،
ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء»([48]).
فهذا الحديث الشريف فيه الأمر بالشفاعة الحسنة والحث عليها، وبيان أن من قام بها
يؤجر عليها([49]).
3 - عن عائشة t قالت: قال رسول الله r: «من كان
وصله لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر، أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة
الصراط عند دحض الأقدام»([50]).
4 - عن سمرة
بن جندب t عن النبي r
قال:
«أفضل الصدقة صدقة اللسان، قيل: يا رسول الله وما صدقة اللسان؟ قال:
الشفاعة، يفك بها الأسير، ويحقن بها الدم، ويجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك،
وتدفع بها عنه الكريهة»([51]).
5 - قول النبي
r: «خير الناس من ينفع الناس»([52]). وجه الاستدلال: أن الشفاعة الحسنة من أعظم النفع الذي
يقدم للناس فتكون مشروعة لهذا الحديث([53]).
6 - قول النبي
r: «من استطاع منكم
أن ينفع أخاه فليفعل»([54]).
ولا شك أن الشفاعة الحسنة من أفضل ما ينفع به المسلم فيكون مأمورًا بها لهذا
الحديث. وهناك أدلة صريحة وردت في مشروعية الشفاعة في أمور معينة يأتي ذكرها - إن
شاء الله - في مطلب مجالات الشفاعة الحسنة.
المسألة
الثانية: حكم قبول الشفاعة الحسنة«حكمها
بالنسبة المشفوع عنده»
اتفق العلماء
- رحمهم الله - على استحباب قبول الشفاعة الحسنة وعدم ردها وأنه لا يجب القبول، بل
يجوز الرد([55]).
والدليل على
الاستحباب وعدم الوجوب ما يأتي:
1- الحديث السابق: «اشفعوا
تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء».
وجه الاستدلال: أن قوله r «ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء»، يشعر بأن شفاعتهم محتملة
القبول والرد، لأنه لم يقيدها بالقبول([56]).
2- أن رسول الله r شفع لبعض الأشخاص - كما سيأتي في قصة جابر وبريرة رضي الله عنهما، ولم تقبل
شفاعته، وهو أفضل الخلق r، ولو كان قبول الشفاعة واجبًا لبين ذلك عليه الصلاة
والسلام([57]).
****
المطلب الثالث
مجالات الشفاعة الحسنة
لا تنحصر
الشفاعة في مجالات محددة، فقد وردت الشفاعة في بعض المجالات في السنة النبوية،
وذكر الفقهاء أيضاً الشفاعة في مجالات أخرى، ويقاس عليها الشفاعة في كل مجال مباح.
ومن ضمن
مجالات الشفاعة التي وردت في السنة الشريفة ما يأتي:
1- الشفاعة في الوضع من الدين أو تأجيله، ما ثبت عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما قال: «أصيب عبد الله - يعني أباه - وترك عيالًا ودينًا
فطلبت أصحاب الدين أن يضعوا بعضًا من دينه فأبوا فأتيت النبي r فاستشفعت به عليهم فأبوا»([58])،
والحديث صريح في المسألة وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله: «باب الشفاعة في وضع الدين»([59]).
2- الشفاعة في إعطاء الصدقة أو الزكاة للمحتاج، دليله
الحديث المتقدم ذكره كان إذا جاءه السائل قال: «اشفعوا
تؤجروا»([60]).
وجه الاستدلال: أن المراد بالسائل من يطلق الصدقة، وقد ترجم البخاري لهذا
الحديث بقوله: «باب التحريض على الصدقة،
والشفاعة فيها»([61]).
3- الشفاعة في النكاح من الأكفاء وذلك إما بتزكية الشخص أو
مدحه للآخر، أو طلب تزوجيه، دليله قوله r: «من أفضل الشفاعة أن يشفع بين الاثنين في
النكاح»([62])، حيث رواه ابن ماجه في سننه وترجم له بقوله: «باب الشفاعة في التزويج»([63]).
4- الشفاعة في مراجعة الزوجة المطلقة، دليله ما جاء عن ابن
عباس t أن زوج
بريرة([64])
كان يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله r للعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض
بريرة مغيثًا؟ فقال النبي r: «لو راجعته» قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما
أنا شافع»، قالت: لا حاجة لي فيه([65]).
6- الشفاعة في فك الأسير، وحقن الدماء«إسقاط حق القصاص» والوصول
للحق الذي عند الولاة، يدل لذلك قوله r: «أفضل الصدقة صدقة اللسان،
فقيل: يا رسول الله وما صدقة اللسان؟ قال: الشفاعة يفك بها الأسير ويحقن بها
الدماء، ويجر بها المعروف إلى أخيك، وتدفع بها عند الكريهة»([67])
ومن الشفاعات
الحسنة التي ذكرها الفقهاء ما يأتي:
1- الشفاعة في الاقتراض، بأن يشفع شخص لآخر عند شخص ليقرضه
مالًا([68]).
وفي عصرنا
الحاضر ظهرت مجالات مباحة شرعًا يحتاج الناس فيها إلى الشفاعة الحسنة تقاس على ما
سبق ذكره مثل الشفاعة للقبول في الدراسة، والشفاعة للتعيين على وظيفة، والشفاعة من
أجل الحصول على العلاج، والحصول على العطاء من الحاكم، والشفاعة في العفو عن
الموظف المستحق للعقوبة النظامية، والشفاعة من أجل رفع الغياب عن الموظف أو
الطالب، وغير ذلك كثير.
المطلب الرابع
أحكام الشفاعة الحسنة
وفيه مسألتان:
المسألة
الأولى: صيغة الشفاعة:
تكون صيغتها
على وجه العرض والترغيب والطلب، وذلك بذكر حاجة المشفوع له وكونه مستحقًا لهذه
الشفاعة، ولا تكون على وجه العزم والتصميم، أو بما يشق على المشفوع عنده، ودليل
ذلك حديث بريرة - المتقدم - حيث إن رسول الله r
تلطف معها ولم يشق عليها([74]).
ويستدل ذلك - أيضاً
- بدليل عقلي وهو لما كان الشافع طالب حاجة لغيره، والمشفوع عنده هو صاحب الفضل
والمنة - فيما إذا قبلها - كان ذلك داعيًا لأن تكون الشفاعة على وجه التلطف
واللين.
المسألة
الثانية: ثبوت أجر الشافع مطلقاً:
من شفع لغيره
شفاعة حسنة فإنه مأجور عليها مطلقاً سواء قبلت شفاعته أم لم تقبل([75])،
والدليل على ذلك ما يأتي:
ولم يقل : من يُشَفّع أي : تقبل شفاعته.
2- أن رسول الله r قال: «اشفعوا
تؤجروا» فرتب الأجر على مجرد الشفاعة، ولم
يقيد ذلك بقبولها.
3- قال ابن حجر رحمه الله([77]):«وقع حديث عن ابن عباس سنده ضعيف، يرفعه«من سعى لأخيه المسلم في حاجة قضيت له أو لم تقض غفر
له».
المسألة الثالثة: بذل الشفاعة قبل سؤالها:
يشرع بذل الشفاعة لمن يستحقها قبل أن يسألها([78])،
يدل لذلك ما يأتي:
1-
حديث بريرة - المتقدم - ووجه الاستدلال: أنه لم يقل إن مغيثًا سأل النبي r
أن يشفع له، بل إنه r
بذل الشفاعة ابتداء.
2-
ويدل عليه - أيضاً
- ظاهر حديث: كان إذا أتاه طالب حاجة قال: «اشفعوا تؤجروا»، حيث إنه ليس في الحديث أن الطالب كان يسأل الشفاعة من
رسول الله r.
****
المبحث
الثاني
أحكام
الشفاعة السيئة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب
الأول
ضابط
الشفاعة السيئة
الشفاعة السيئة ما كانت بخلاف الشفاعة
الحسنة المتقدم ذكرها، أي التي اتصفت بإحدى الصفات الآتية:
أولاً: إذا نص الشارع
على تحريمها كما في الشفاعة في الحدود بعد بلوغها الحاكم، أو كانت شفاعة في أمر
محرم ومعصية، مثل الشفاعة لطلب قرض ربوي والشفاعة لإعانة الظالم.
ثانياً: إذا ترتب
عليها إبطال حق أو إحقاق باطل واعتداء على حق أحد مثل الشفاعة لتعيين شخص في وظيفة
وإسقاط حق شخص أولى منه بها.
ثالثاً: إذا كانت
لمن لا يستحق، مثل الشفاعة لتعيين شخص على وظيفة ليس أهلًا لها، والشفاعة لشخص
لمساعدته بمال ليس محتاجًا إليه، والشفاعة لتزويجه وليس كفؤاً.
رابعاً: إذا اشتملت
هذه الشفاعة على وسيلة محرمة شرعًا، كإكراه للمشفوع عنده، أو دفع رشوة له، أو كان
مخالفة لنظام وضعه ولي الأمر، لأن طاعة ولي الأمر - في غير المعصية - واجبة، وذلك
مثل الشفاعة في إسقاط رسوم الخدمات أو الغرامات النظامية - وهذه كثرت في الآونة
الأخيرة وتساهل فيها بعض الناس.
****
المطلب الثاني
حكم الشفاعة السيئة وحكم قبولها
اتفق العلماء
على تحريم الشفاعة السيئة، وتحريم قبولها([80])،
أي تحريمها في حق الشافع والمشفوع عنده.
والأدلة على
ذلك ما يأتي:
وجه الاستدلال: أن الآية تقرر أن الشفاعة السيئة يستحق صاحبها الإثم،
والإثم لا يكون إلا في أمر محرم، فتكون الشفاعة السيئة محرمة([82]).
وجه الاستدلال: أن الشفاعة السيئة من التعاون على الإثم والعدوان فتكون
محرمة بهذه الآية([84]).
والشفاعة السيئة من الإعانة بالباطل فتكون محرمة حيث رتب عليها هذا الجزاء
الخطير([86]).
4 - قول النبي r: «من غشنا فليس
منا» ([87]).
والشفاعة السيئة من الغش للمسلمين, فتكون محرمة لهذا الحديث.
وجه الاستدلال: أن الشفاعة السيئة إذا كانت لغير مستحق أو كان فيها إسقاط
الحق الغير عدت من الإضرار, فتكون محرمة لهذا الحديث([89]).
6 - أن النصوص جاءت بتحريم الشفاعة في الحدود بعد رفعها للحاكم([90]),
ويقاس عليها الشفاعة في كل أمر محرم([91]).
لتحميل الكتاب كاملا بصيغة بي دي اف من الرابط اسفل المقال
تحميل كتاب أحكام الشفاعة في الفقه الإسلامي الواسطة PDF برابط مياشر ميديا فير من هنا