-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب الكنز المنسي مع نماذج من كنوز الصحابة PDF

بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].



أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد r، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن قيمة كل شيء في ثمرته ونفعه، والأشياء لا تتفاضل بأشكالها وأعيانها، وإنما بآثارها المترتبة عليها خيرًا وشرًّا، وأنفع الأشياء وأجلّها عائدة ما عاد على العبد بالنفع والثواب في الآخرة، فذلك في الحقيقة هو الكنز، وهذا على التحقيق هو الفوز العظيم، وما سواه من مفاخرات الدنيا ومفاتنها ومغرياتها فهو متاع زائل، وعرَضٌ آيل، وإن ظنها أكثر الناس كنزًا!
والكنز في اللغة: ما جمع أوصافًا خمسة:
«المخبوء – النفيس الكثير – المُدَّخر – المتنافس فيه» ([1]).
فكل مخبوء كثير نفيس يُدَّخر ويتنافس فيه فهو كنز عند أهله، مالًا كان – وهو الأصل – أو غيره، وكلُّ مهتم بشيء شغوف به يتخذه كنزًا.
وأولى ما تصف بهذه الأوصاف كنز الآخرة، فإن نفاسته لا تدانيه نفاسة، وكثرته لا توصف؛ إذ مانُحُه الجوادُ الشكورُ عز وجل، وهو مُدَّخر ثوابه للعبد أحوج ما يكون إليه، وأحرص ما يكون عليه، وهو الأمر الذي لم يأمر الله - عز وجل - بالمنافسة إلا فيه، فقال بعد ذكر ما في الجنة من كنوز لا توصف: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، أي: لا ينبغي التنافس إلا فيه، والمنافسة فيما سواه عبث وإضاعة عمرٍ وجُهد.
وكنز الآخرة هو ما أعده الله - عز وجل - لأوليائه المؤمنين وحزبه المفلحين: من النُّزُل، والخيرات المحسوسة.
وقد سمَّى النبي r كثيرًا من الأعمال الصالحة كنزًا، كما في حديث أبي موسى الأشعري t: «يا عَبْدَ الله بْنَ قَيْسٍ: أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ! فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: قُلْ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِالله»([2]).
وفي حديث شداد بن أوس  tقال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: ...»([3])، وذكر دعاءً طويلًا. فجعل الدعاء كنزًا، وأمر بكنزه وتعاهد حفظه والعناية بشأنه، كما يتعاهد التاجر الحريص الشحيح ذهبه وفضته، وسُميت كنزًا «لأن ثَوَابها مُدَّخَرٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ ثَوَابٌ نَفِيسٌ كَمَا أَنَّ الْكَنْزَ أَنْفَسُ الأَمْوَال»([4]).
وَاخْتَلَف الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا لأنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ مُحَصِّلاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّة([5])، فهي سبب موصل إلى كنز الجنة ونفائسها، فأقيم السبب مقام المسبب.
وإن من أعظم الكنوز المُدَّخرة عند الله - عز وجل - الصدقة، لاسيما الجارية منها: «الوقف»، فهو كنز من جهة ثوابه وأجره ونفعه المُدَّخر المخبوء للعبد يوم القيامة.
والملاحظ أنه كنز نفيس جدًا، لكنه مَنْسِيّ عند كثير من الناس إلا من رحم الله، فقد انشغلوا عنه بكنوز الدنيا الفانية التي حلالها حساب، وحرامها عقاب، كنوز يسبقها همّ وتعب وفي أثنائها نظيره وبعد تحصيلها كذلك، فصاحبها دائمًا في همٌ وشغلٍ وتعبٍ ونصبٍ وكدر، وتركوا كنزًا يُدَّخر عند ملك الملوك سبحانه وتعالى، يجده صاحبه يوم الفاقة التي ما بعدها فاقة، والحسرة التي ما بعدها حسرة! ويجده ليكون ممن سيستظل بظل الله - عز وجل - يوم لا ظلَّ إلا ظلَّه.
ولما علم الصحابة y بحقيقة هذا الكنز ونفاسته، وحقارة الدنيا وما فيها، ادَّخروا أموالهم وكنوزهم عند الله عز وجل، وقدَّموها بين أيديهم ليوم حاجتهم إليها، فضربوا في ذلك الميدان بأوفر السهام وأحظها، فلم يكن منهم ذو مقدرةٍ إلا وقف، واشترى الباقي بالفاني، وتاجر بالحسنات المضاعفات، وتبعهم على ذلك كل موفقٍ معان، وغفل عن ذلك وأهمله كل مخذولٍ مهان!
فأحببت – تعاونًا على البر والتقوى – تذكير نفسي وإخواني المسلمين وأخواني المسلمات بهذا الكنز العظيم المنْسي؛ لعلَّ راقدًا يصحو، وغافلًا يتذكر، ومقصرًا يراجع حساباته قبل زَلَّة القدم، وعدم جدوى الندم، فإن مال المرء حقيقةٌ ما قدَّمه، وأما ما أبقاه بعده فمال وارثه، للوارث غُنْمُه وعلى المُوَرِّث غُرمه.
ألا فَهَلُمَّ يا عبد الله إلى التجارة مع الله بادِّخار هذا الكنز المنْسِيّ! سائلًا الله - عز وجل - أن يهدينا والمسلمين سبل الرَّشاد، وأن يقينا وإياهم طرق الزيغ والفساد، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
                   

                     كتبه
سليمان بن جاسر بن عبد الكريم الجاسر


أولًا: تعريف الوقف

الوقف في اللغة: الحبس والمنع([6]).
 أما في الاصطلاح: فهو: « تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة»([7]).
والمراد بالأصل: الرقبة. والثمرة هي: الريع أو الغلة أو المنفعة.
وتسبيلها أي: جعلها أو إطلاقها في سبيل الله.
فمن وقف دارًا لسكنى طلاب العلم مثلًا، فالأصل هو الدار، والريع والغلة والمنفعة هي السكنى، وكذلك من وقف سلاحًا على المجاهدين، فإنّ السلاح أصل، والاستخدام هو المنفعة والريع، وهلمّ جرّا.
وهذا التعريف مأخوذ من قول النبي r لعمر t لما أصاب أرضًا بخيبر: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»([8])، فالصدقة هي: التسبيل للمنفعة.


ثانيًا: الأدلة على مشروعية الوقف

أولًا: من القرآن الكريم:

قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وهذه الآية تدل على أنّ الإنفاق من المحبوب نيلٌ للبرّ وولوج إلى رحبته، والوقف من أنفع النفقات وأغلاها، فهو من أول الأفراد دخولًا في معنى هذه الآية، بدليل أن أبا طلحة الأنصاري t لما سمعها بادر إلى وقف أحب أمواله إليه، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك t قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله r يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله r: «بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه([9]).
وكذلك جميع الآيات الدالة على الأمر بالإنفاق في سبل الخير، فإن الوقف يدخل في عمومها؛ لأنه من أفضل القُرُبات وأولاها؛ لاستمرار الانتفاع به، وكثرة المنتفعين منه.

ثانيًا: من السُّنة النبوية:

1 – ما جاء في الصحيحين من حديث عَبدِ الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ r يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رسُولَ الله، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصدَّقْتَ بِهَا. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ: أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلا يُبْتَاعُ، وَلا يُورَثُ، وَلا يُوهَبُ. قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل الله، وَابْنِ السَّبيلِ، وَالضَّيفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يأْكُلَ مِنْهَا بِالمعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيه»([10]).
فتأمل قوله t: «هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ»، وقول أبي طلحة t: «وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ» تجد أنهم yلم ينفقوا بعض المحبوب، بل أنفقوا أحبّ المحبوب، فرضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا أسبق الناس للخيرات، وأطوعهم لله عز وجل، وأشدهم حرصًا على القربات، عرفوا حقيقة الدنيا وأنها مزرعة للآخرة، فبذروا فيها أحسن البذر وأنفسه وأغلاه، ليحصدوه هناك أوفر الثمر وأحسنه، فخذ يا عبد الله من سيرهم أسوة، ومن حالهم خير قدوة، واعلم أنّ مالك وديعة عندك، وإن لم يذهب عنك ذهبت عنه، فقدم لنفسك ما يسرك في القيامة أن تراه!
2 – ما جاء في صحيح مسلم من حديثِ أبي هريرة- t أَنَّ رسول الله r قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ»([11])، والصدقة الجارية في هذا الحديث محمولة على الوقف، قال الإمام النووي رحمه الله: «قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشيَاءِ الثَّلاثَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا: فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَهِيَ الْوَقْفُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ»([12]).
فالعبد الموفّق من قدم له ما يستمرّ له ذخره، ويبقى بعد مماته أجره، والمخذول من أعجبته دنياه فقعد يقطفها حتى فاجأه الأجل، وقدم على الله مفلسًا.
3 – ما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر بن الحارث t، خَتَنِ([13]) رَسُولِ الله r أَخِي جويرية بنت الحارث رضي الله عنهما، قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ الله r عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً»([14]).

ثالثًا: الإجماع:

 قال القرطبي رحمه الله: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَجَابِرًا كُلَّهُمْ وَقَفُوا الْأَوْقَافَ، وَأَوْقَافُهُمْ بِمَكَّةَ وَالمدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ»([15]).
وقال ابن قدامة رحمه الله: قال جَابِرٌ: «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ r ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ». وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الذٍِي قَدَرَ مِنْهًمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَ حَدٌ؛ فَكَّانَ إجْمَاعًا. ا هـ ([16]).


ثالثًا: بعض فضائل الوقف

للوقف فضائل كثيرة تعود على الواقف في دنياه وأخراه إن أخلص لله فيه، ورجا به ما عنده، فمن فضائل الوقف أنّ:

1- أجره وثوابه يستمر في الحياة وبعد الممات:

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t أَنَّ رسول الله r قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثةٍ: إلَّا مِنْ صدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُوا لَهُ»([17]).
 وفي سنن ابن ماجه من حديثِ أبي هريرة أيضًا t قال: قال رسول الله r: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»([18]).

2- حسنات يثقل بها ميزان المسلم يوم القيامة:

ففي صحيح البخاري من حديثِ أبي هريرة t أَنَّ رَسُولَ الله r قال: «مَنِ احْتَبسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ الله إِيمَانًا بِالله وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»([19]).
فإذا كان روث الحيوان المحبوس في سبيل الله وبوله – وهما هما عند الناس ضعة وقذارةً – يزيدان في ميزان الحابس والواقف، فما الظنّ بغيرهما! لكنّ ذلك مشروط بأن يكون وقفه إيمانًا واحتسابًا.

3- الوقف سبب للشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى:

ففي الحديث: «داوُوا مَرْضَاكُم بالصَّدَقَة»([20])، وقد علم أنّ الوقف من أفضل الصدقات وأعلاها منزلةً.
وجاء في شعب الإيمان للبيهقي من حديث عَلِيِّ بْن الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ المُبَارَكِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُ بِأَنْواعِ الْعِلاجِ، وَسَأَلْتُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ: «اذْهَبْ فَانْظرُ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفُرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكُ عَنْكَ الدَّمُ» فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِأئَ([21]).
قال البيهقيّ بعد إيراده: «وفي هذا المعنى حكاية قرحة شيخنا الحاكم أبي عبد الله رحمه الله، فإنه قرح وجهه وعالجه بأنواع المعالجة فلم يذهب وبقي فيه قريبًا من سنة، فسأل الأستاذ الإمام أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة فدعا له، وأكثر الناس في التأمين، فلما كانت الجمعة الأخرى ألقت امرأة في المجلس رقعة بأنها عادت إلى بيتها واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة، فرأت في منامها رسول الله r كأنه يقول لها: قولوا لأبي عبد الله: يوسع الماء على المسلمين، فجئت بالرقعة إلى الحاكم أبي عبد الله فأمر بسقاية الماء بُنِيَت على باب داره، وحين فرغوا من البناء أمر بصب الماء فيها وطرح الجمد في الماء، وأخذ الناس في الشرب فما مر عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء، وزالت تلك القروح، وعاد وجهه إلى أحسن ما كان، وعاش بعد ذلك سنين».
وهذه قصة صحيحة يرويها البيهقي عن شيخه الحاكم، واشتملت على رؤيا عجيبة!
ففيها الحث على حفر الآبار، وفي معناها إنشاء المستشفيات والملاجئ والمصانع والمعامل، وكل عمل يجلب الخير ويسهل أسباب الرزق لعباد الله عز وجل.

4- الوقف من أفضل الصدقات للميت:

ففي سنن أبي داود من حديثِ سعد بن عبادة t أَنَّهُ قَالَ: يَا رسًولَ الله، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟، قَالَ: «المَاءُ». قَالَ: فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ([22]).

5- الوقف ظل لك يوم القيامة:

فعن عقبة بن عامر t قال: سَمِعَتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاس». أَوْ قَالَ: «حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ»([23]).

6- الوقف حجاب لك من النار:

ففي صحيح البخاري من حديثِ عدي بن حاتم t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»([24]).
فتأمل كيف كانت الصدقة – والوقف نوع من أنواعها – سبيلًا إلى خيري الدنيا والآخرة!
وإذا كانت النار تتقى بشق تمرة متناهية في الصغر، فما الظنّ بما هو أعظم، وأكثر نفعًا!
وبالجملة فكل فضيلة للصدقة فالوقف يحوزها كاملة غير منقوصة، فلا حاجة لإطالة فيما يشترك الجميع في معرفته وفهمه، وإنما كان القصد التنبيه، وقد حصل بالمثال.


تحميل كتاب الكنز المنسي مع نماذج من كنوز الصحابة PDF من هنا

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016