-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب الله يحدث عباده عن نفسه pdf

.

الموضع القرآني 1

أولًا: تقديم

هذه السورة القصيرة العظيمة أعظم ما نزل من السماء في جميع الكتب السماوية، وقد عرَّفنا ربُّنا فيها بنفسه أجلَّ تعريف، فهو رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وهو المعبود الذي يستحق أن يعبد وحده دون غيره.
ثانيًا: الآيات التي يحدَّثنا فيها ربُّنا عن نفسه
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1-7].
ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع
الحمد لله: الحمد الثناء التام الكامل على رب العزَّة.
رب العالمين: الرب الخالق المدبر المصرف.
العالمون: العالمون جمع عالم، والعالم كل مخلوق دون الله تعالى.
الرحمن الرحيم: اسمان دقيقان دالان على الرحمة، وهما صفتان من صفات الله تعالى.
مالك يوم الدين: يوم الجزاء والحساب، وهو يوم القيامة.
إياك نعبد، أي: لا نعبد إلا أنت، والعبادة ما أمر الله عباده أن يخصوه بها من الأقوال والأفعال التي لا يجوز صرفها لغيره.
الطراط المستقيم: دين الإسلام الذي لا يقبل رب العزَّة دينًا سواه.
رابعًا: شرح هذا الموضع
حمد الله تعالى نفسه في أول هذه السورة الكريمة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم عرف نفسه – تبارك وتعالى – بصفتين من صفاته العظيمة هما: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهما صفتان دالتان على اتصافه بالرحمة، والرحمة صفة محببة للعباد، مطلوبة عندهم.
وعرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء والحساب، والله مالك الآخرة والدنيا، ولكن ملكه يظهر في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء، فيأتي العباد في ذلك اليوم حفاة غراة غزلًا، ولا يكون في ذلك اليوم مال ولا متاع، فيظهر ملكه تبارك وتعالى في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء.
وعرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه هو وحده المعبود المستعان الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد سواه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأعلمنا ربُّنا في بقية السورة أنه الذي يطلب منه الهدى إلى الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد دينًا سواه.
خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا على نفسه في هذه الآيات
عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى- على نفسه في هذه الآيات بما يأتي:
1-             عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه رحمن رحيم، وهما صفتان عظيمتان حبيبتان للمؤمنين ولعباد الله الصالحين.
2-             وعرَّفنا أنه مالك يوم الدين، وهو اليوم الذي يبعث فيه العباد، ويحاسبهم عما قدموه فيا لدنيا لآخرتهم من خير أو شر.
3-             وعرَّفنا سبحانه أنه المعبود الذي لا يستحق العبادة أخد غيره، فمن عبد غيره فقد أشرك.
4-             وعرَّفنا جلَّ وعلا أنه وحده يهدي إلى الصراط المستقيم، أي: دين الله الذي لا يقبل رب العزَّة من أحد دينا سواه.







الموضوع القرآني 2

الله تعالى خالقنا وخالق من قبلنا

قسم الله – تبارك وتعالى – الناس جميعا تجاه القرآن الكريم ومنزله رب العالمين إلى ثلاثة أقسام في الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة، السابقة لهذه الآيات التي ستتحدث عنها: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين.
ووصف الله كل فريق من الفرق الثلاث بالصفات التي تظهره وتحدده، وحكم على الفريق الأول بأنه على هدى من ربهم وأنهم هم المهتدون، وحكم على الفريقين بأنهم كافرون خاسرون.
ثم دعا الله – تعالى – الناس في آيات هذا النص إلى أن يكونوا مع الفريق الأول، ويحققون ذلك بعبادة الله وحده، وعرفهم سبحانه بأنه وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، وعرَّفنا لم استحق ذلك سبحانه.
ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيه بنفسه في سورة البقرة
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات
اعبدوا ربكم: العباد الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة.
ربكم: الرب الخالق المدبر المصرف.
الذين من قبلكم: كل البشر الذين خلقهم ربُّنا من قبلنا.
الأرض فراشًا: جعل الله الأرض ممهدة موطأة على النحو الذي نشاهده.
والسماء بناء: سميت السماء سماء لعلوها على الأرض.
رزقًا لكم: ما وهبنا إياه ربُّنا مما تنبته الأرض.
تتقون، أي: تجعلون بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما يأمركم به، وترك ما ينهاكم عنه.
أندادًا: الأنداد الأصنام والآلهة التي تعبد مع الله.
رابعًا: شرح هذه الآيات
نادى الله تعالى الناس جميعًا قائلًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ثم أمرهم بعبداته وحده لا شريك له {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فهو المستحق للعبادة دون غيره، ثم عرفهم جلَّ وعلا بالأسباب التي استحق بها العبادة دون سواه.
فالأول: أنه سبحانه الخالق لنا {الَّذِي خَلَقَكُمْ}، وكان خلق الله لنا بإنشائنا من العد وإظهارنا إلى الوجود، وكان ذلك مرتين: الأول عندما خلق أبانا آدم من تراب، خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، والثانية: عندما خلق ذريته من ماء مهين.
والثاني: أنه خلق آباءنا من قبلنا، فالله خلق الناس جميعًا من أصل واحد، لا فرق في ذلك بينهم.
والثالث: أنه سبحانه وتعالى جعل لنا الأرض لنعيش فيها، ونتخذها معبدًا لله رب العالمين، وقد جعلها شاسعة واسعة مترامية الأطراف، وبسطها لنا كما يبسط الفراش، فجعل منها السهول والجبال والوديان، وجعل منها البحار والأنهار واليابسة، وبنى فوقها السموات العلى التي جعلها على الأرض كالقباب العظيمة التي لا يقدر قدرها إلا الله تعالى.
والرابع: عرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه هو وحده الذي أنزل الماء من السماء وجعله عذبًا زلالًا، فأخرج بهذا الماء العذب الطيب ثمرات الأرض التي نأكل منها، وتأكل منها دوابنا وطيورنا، وجعل الله تعالى ما أخرجه لنا من ثمرات الأرض رزقًا لنا ولأنعامنا.
وكما عقب الله بالأمر بعبادته في الآية الأولى، وهو أعظم مأمور، ثنى بالنهى عن عبادة غيره في الآية الثانية، وهو أعظم منهي عنه.
خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات
عرَّفنا الله – تبارك وتعالى – بنفسه في هذه الآيات بما يأتي:
1-             عرَّفنا ربُّنا أنه تعالى وحده خالقنا وخالق الناس جميعًا من قبل.
2-             وعرَّفنا سبحانه وتعالى أنه الذي جعل لنا الأرض فراشًا لتصلح حياتنا فوقها، ولا تضيق بنا أرضها، وبنى السموات السبع فوق الأرض كالقباب العظيمات العاليات.
3-             وعرَّفنا ربُّنا أنه سبحانه هو الذي أنزل من السحب المعصرات المطر من السماء، فأحيا لنا به الأرض، وأخرجت الأرض نباتها، وجادت بثمارها، وجعل الله تعالى فيما تنبته الأرض رزقًا لنا، يقينًا به في حياتنا فوق هذه الأرض.
4-             هذا الإله العظيم الكريم الذي جعل ذلك كله لنا هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، وقبيح بنا أن ننصرف عن عبادته إلى عبادة من لا يستحق أن يعبد من المخلوقات المخلوقة المربوبة.









الموضع القرآني 3

تعجيبُ الله من الكفار الذين يكفرون بالله

أولًا: تقديم
أنكر الله – تعالى – على المشركين كفرهم بربهم العظيم، والدلائل الدالى على وجوب الإيمان به قائمة عليهم في أنفسهم وفي الكون من حولهم، والدليل القائم عليهم من أنفسهم أنهم كانوا أموانا عدما غير موجودين، فأحياهم الله، ثم يميتهم في الدنيا، ثم يعيدهم إلى الحياة في يوم القيامة.
والدليل الذي يوجب الإيمان به تعالى هو أنه سبحانه وتعالى خلق لنا الأرض جميعًا لتكون معاشًا لنا نحن البشر، ثم قصد بعد ذلك إلى السماء، فخلقهن سبع سموات، وهو بكل شيء عليم.
ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا الله بنفسه في سورة البقرة
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 28-29].


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات
كيف تكفرون: الكفر التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، أو بواحد من ذلك.
كنتم أمواتًا: أي: عدمًا لا وجود لكم.
فأحياكم، أي: خلقكم ونفخ فيكم الأرواح.
ثم يميتكم ثم يحييكم، أي: يميتكم في الدنيا، ثم يحييكم في يوم القيامة.
ثم إليه ترجعون، أي: في يوم القيامة.
استوى إلى السماء، أي: قصد إليها.
فسواهن، أي: خلقهن.
رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه
وجه الله – تعالى – السؤال إلى الكفار المشركين معجبًا من حالهم في كفرهم بالله رب العالمين مع قيام الدلائل الدالة على وجوب الإيمان به، فالله – تعالى – خلق هؤلاء الكفار كما خلق المؤمنين وكانوا أمواتًا، أي: عدمًا لا وجود لهم، فجعلهم أحياء عقلاء يتحركون ويأتون ويتصرفون ويدبِّرون {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.
ثم بعد أن تنقضي حياتهم يميتهم، وكل الناس إلى ذهاب، لا يخلد في هذه الدنيا أحد من بني آدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}، وبعد أن تقوم الساعة، ينفخ في الصور مرة أخرى، فيقوم الناس لرب العالمين أحساء، ثم يرجعون إلى الله {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
هذا فعل الله تعالى بعباده في إماتتهم وإحيائهم وإعادتهم إليه، نعرفه به، ويجعلنا نؤمن به.
وعرَّفنا – سبحانه وتعالى- أنه هو الذي خلق لنا الأرض بسهولها وجبالها وودياتها وصحاريها وبحارها، خلقها لنا، لنعيش فوقها، وننعم بما فيها من ثمار وعيون وأنهار وأمطار، ومعادن وحيوان، فالله خلق لنا ذلك كله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
وعرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه بعد أن خلق لنا الأرض كلها استوى إلى السماء، أي: قصدها، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن سبع سموات، وجعلهن كالقباب العظيمة فوق اللأرض، وهو سبحاته بكل شيء عليم {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
خامساً: كيف عرف ربُّنا – تبارك وتعالى – بنفسه في هذه الآيات
عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – بنفسه في آيات هذا المقطع ببيان ما يأتي:
1-             عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه – سبحانه- هو الذي أحيانا في هذه الدنيا بعد أن كنا عدمًا ليس لنا وجود.
2-             ثم إن الله بعد حياتنا يميتنا، ثم يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى في يوم الدين، ويحاسبنا على أعمالنا.
3-              وعرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه خلق لنا جميع ما في هذه الأرض من خيراتٍ، لتقوم بها حياتنا، وهذه الخيرات كثيرة طيبة.
4-             وعرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعًا قد إلى السماء، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن.







الموضع القرآني 4

وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه

الله تعالى واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله، وقد شوه البشر وحدانية الله عندما زعموا أن الله اتخذ ولدًا، وقد حكى الله تعالى هذه الفرية التي افتراها الناس عليه وردًّ عليها، فقال {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116-117].
زعم كثير من الناس في القديم والحديث أن الله اتخذ ولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة: 116].
ومن هؤلاء اليهود الذين قالوا: عزَّيزٌ ابنٌ الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، ومشركو العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
وقد نزَّه الباري – عزَّ وجلَّ – نفسه عن هذه النقيصة الشنيعة، فقال {سُبْحَانَهُ} والتسبيح: التنزيه لله عن كل النقائص والعيوب، وقد ورد في الحديث الصحيح أن نسبة الولد إلى الله مسبة للباري تبارك وتعالى، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي r قال: «قال الله: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، فأمأ تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعبده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا­» [البخاري: 4482].
وقد أخبرنا ربُّنا – تبارك وتعالى – بعظم جريمة الذين ادعوا هذه الدعوى فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88-91]، وجاء في الحديث عن أبي موسى t عن النبي r أنه قال: «ليس أحد، أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم» [البخاري: 6099. ومسلم: 2804. واللفظ للبخاري].
رد الله تبارك وتعالى على هذا الزعم الكاذب من الأمم السابقة والمعاصرة، قائلًا: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].
أخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في رده على من افترى هذه الفرية أنه سبحانه السيد العظيم الذي خلق السموات والأرض وما فيها وما بينها، وهما ملكة يصرفهما كيف يشاء، ومن جملة ما فيهما العزَّيز وعيسى ابن مريم والملائكة وغيرهم مما نسبه الكفار إلى الله، وكل السموات والأرض وما فيها قانت لله، أي: طائع خاضع لله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26].
إن نسبة الولد إلى الله تنافي وحدانية الله تبارك وتعالى، فالله واحد في ذاته، وواحد في صفاته وأسمائه، ليس له مثيل، وليس له شبية، ولا نظير، ودعوى أن الله اتخذ ولدًا، تعني أن له صاحبة مثله، ولو كان الله اتخذ ولدًا، لكان الولد جزءًا من أبيه، أي: لأصبح إلهًا معبودًا، وكل ذلك كذب وباطل من القول، وقد أنزل الله سورة عظيمة قررت الوحدانية والصمدية لله، ونفت عنه أن يكون له والد أو ولد، كما نفت عنه أن يكون له نظير أو مثيل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].
إن هذه الدعوى التي يدعيها الظالمون دعوى هزيلة، تجعل المخلوق المربوب المألوه جزءًا من الخالق العظيم، وسيظهر لهؤلاء كذبهم يوم الدين عندما يسوق الله العباد جميعًا للحساب {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95]، ومما يدلُّ على ذكب من ادَّعى هذه الدعوى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15].
وأخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في رده على من ادعى هذه الفرية العظيمة أنه سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. وقال ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
والمراد بــــ (بديع) في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي: مكونهما على غير مثالٍ سابق، ومن جملة ما كونه وأبدعه ما جعلوه – كذبًا وزورًا- ابنًا لله تعالى، مثل العزَّيز والمسيح والملائكة.
وأخبرنا تبارك وتعالى أن هؤلاء الذين نسبوهم إلى القهار الجبار خلقوا كما خلق غيرهم، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، فالله إذا أراد إيجاد شيء فإنه يقول له كلمة واحدة، وهي (كن) فيكون كما يريده الله رب العالمين.
فالله لا يعجزه شيء، ولا يستعصى عليه شيء، وكل شيء أمره الله أن يكون، فإنه يكون كلمح البصر {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال مبينًا كيف خلق الله عيسى وآدم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
وردَّ الله تعالى على الذين زعموا كاذبين أن الله اتخذ ولدًا في آية سورة الأنعام أنه بديع السموات والأرض، وكيف يكون له ولد، ولم يكن له صاحبة، فوجود الولد يلزم فيه أن تكون هناك زوجة، وبين الله أنه خالق كل شيء، ومن جملة ذلك ما ادعوه أن له ولدًا، وهو بكل شيء عليم، وهو يعلم سبحانه أنه ليس له ولد.

الموضع القرآني 5

الآيات الدالة على رب العباد

أولًا: تقديم
هاتان آيتان عظيمتان كريمتان حدَّثنا ربُّنا فيهما عن ذاته الكريمة سبحانه، فقد أعلمنا ربُّنا في الآية الأولى منهما أنه وحده المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد غيره، وهذا أصل الدين وقاعدته، وأعظم فهم بعث الله به رسله، وأنزله في كتبه.
والأمر الثاني الذي عرَّفنا الله تعالى به عن نفسه سوقُه ثمانية آيات عظيمة أبدعها الله في كونه، ومن نظر فيها نظر فيها نظر معتبر، وتأمل فيها بصدق، كانت هادية له إلى بارئها ومبدعها سبحانه وتعالى، وسيأتي تفصيل القول فيها في شرح الآيات.
ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيها بنفسه في سورة البقرة
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة: 163 - 164].
ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات
وإلهكم: الإله المعبود.
واختلاف الليل والنهار: تعاقبهما وتقارضهما.
والفلك: السفن.
فأحيا به الأرض بعد موتها: أحياها بالنبات والشجر.
الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان وطيور.
تصريف الرياح: توجيه الرياح إلى مختلف الجهات.
لآياتٍ: لعلامات دالاتٍ على وحدانية الله تعالى.
رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه
عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في هاتين الآيتين في هذا الموضع عن نفسه، وأعلمنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه هو المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
وعرَّفنا- سبحانه- بصفتين من صفاته العظيمة التي تحبها نفوس المؤمنين، هما الرحمن الرحيم، وهما صفتان مشتقتان من الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
ثم أورد رب العزَّة في الآية الثانية من هذا الموضع ثماني آيات تدل على وحدانيته وعظمته وقدرته وبديع صنعه.
فمن ذلك أنه خلق السموات والأرض، وهما من أعظم ما خلقه ربُّنا، وقد مدح الله نفسه كثيراً بإيجادهما وخلقهما سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن ذلك أنه سبحانه خلق الليل والنهار على نحو معجب بديع، فهما يتعاقبان ويتقارضان، ويحقق وجودهما فوق الأرض الحياة المطمئنة للإنسان، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار}.
ومن تلكم الآيات العظيمة التي أبدعها الله في هذا الكون لبني آدم الفلك التي تمخر عباب البحار والأنهار، تحملهم إلى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}.
وأعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه أنزل لنا من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد ما ذوت أشجارها، ومات نباتها {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
ومما عرَّفنا الله أنه بثَّه ونشره في الأرض من الآيات الدواب من الإنسان والحيوانات والطيور، وهي تملأ الأرض في كلِّ أنحائها {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}.
ومن ذلك خلقه- سبحانه- الرياح، وتوجيهها إلى مختلف أنحاء الأرض، أحيانًا تحمل السحاب بالخير والمطر، وأحيانًا تهيج وتحمل العذاب، وأحيانًا تثير البحر، فيغرق السفن {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}.
وآخر الآيات التي عرَّفنا ربُّنا أنه خلقها لنا {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تحمل الخصب والنماء، وتسير مشرقةً ومغربةً فتفرح النفوس، وتبهج القلوب.
خامساً: كيف عرَّفنا الله تعالى بنفسه في هذه الآيات
عرَّفنا الله- عزَّ وجلَّ- في هاتين الآيتين بنفسه وفق ما يأتي:
1- عرَّفنا سبحانه وتعالى أنه وحده المعبود الذي يستحق العبادة، ولا يستحق العبادة أحدٌ غيره في هذا الكون الواسع العريض.
2- عرَّفنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنه هو الرحمن الرحيم.
3- وعرَّفنا سبحانه أنه وحده خالق السموات والأرض.
4- وأنه هو الذي خلق لنا الليل والنهار على هذا النحو الذي نراه ونشاهده.
5- وأنه هو الذي خلق السفن تجري بنا وبأثقالنا إلى مختلف أنحاء الأرض.
6- وهو الذي أنزل لنا الماء من السماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، فأنبتت من كل زوج بهيج طعامًا لنا ولدوابنا.
7- وهو الذي نشر في هذه الأرض الدواب تملأ السهل والجبل، وتمدنا بالغذاء والدواء.
8- وهو الذي صرف الرياح في جنبات الأرض، منها الخفيف، ومنها الشديد، ومنها الذي يحمل الخصب، ومنها ما يحمل العذاب.
9- وهو الذي سخر لنا السحاب يحمل هذه الكميات الهائلة من الأمطار تجودنا بالخير، وتروي حقولنا ومزارعنا سبحانه.
 * * * *


الموضع القرآني 6

الله تعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه

أولًا: تقديم
هذه الآية الكريمة التي في هذا الموضع الذي يُعرِّفنا ربُّنا فيها أنه قريبٌ منا، يسمعنا من غير حاجةٍ بنا إلى رفع أصواتنا بالدعاء، تأتي في أثناء آيات الصيام، لتدل على أن الصائم قريبٌ من الله تعالى بسبب صيامه.
ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة البقرة
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ثالثًا: شرح الآية التي حدَّثنا الله تعالى فيه عن نفسه
عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- عن نفسه أنه قريبٌ منا، فهو يسمعنا، ويرانا، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أمورنا وليس بنا من حاجةٍ إلى أن نصرخ بأصواتنا حتى يسمعنا.
وهذه الآية تدل على أن بعض الصحابة سألوا رسول الله r عن الله تعالى، فقالوا: أبعيدٌ ربُّنا فنناديه، أم قريبٌ فنناجيه؟ فجاء الجواب من رب العزَّة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وما دام الله قريبًا منا، فإنه يسمع دعاء الداعي، ويجيب ذلك الدعاء، وطلب الله من عباده أن يدعوه ويسألوه، ويؤمنوا به، لعلهم يرشدون، أي: ليكونوا من الراشدين.
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري t قال: كنا مع رسول الله r، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي r: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم سميعٌ قريبٌ، تبارك اسمه، وتعالى جده» [البخاري: 2992، مسلم: 2704].
وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يدل على أن الله يجيب دعوة العبد، ولا بد، ولكن تختلف صور الإجابة، كما في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد: عن أبي سعيد أن النبي r قال: «ما من مسلم يدعو الله عزَّ وجلَّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن تعجلَّ له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذا نكثر، قال: «الله أكثر» [مسند أحمد: 11133].
وعن أبي هريرة، عن النبي r أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجلَّ، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» [مسلم: 2735].
رابعًا: كيف عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في هذه الآية
بين الله- تعالى- لنا في آية هذا الموضع ما يأتي:
1-  عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه قريبٌ منا، فلا نحتاج أن نرفع أصواتنا عندما ندعوه ونستغيث به.
2-  وأمرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هذه الآية أن ندعوه ونسأله، ولا نتكبر عن عبادته، والله- تعالى- يحب منا دعاءنا له.
3- أعْلمنا ربُّنا في هذه الآية أننا إذا دعوناه فإنه يجيب دعاءنا، وبين لنا رسولنا r أننا لا ندعوه بدعوةٍ ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطانا بها إحدى ثلاث: إما يعطينا سؤلنا، أو يدفع عنا من الشر مثلها، أو يدخر لنا أجرها يوم القيامة.
 * * * *

 


الموضع القرآني 7

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض

عرَّفنا الله تبارك وتعالى بسنّةٍ من سننه في عباده، فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] «أي: لولا أنَّ الله يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها، لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسُد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين، وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن الله لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين» [تفسير المنار: 2/ 395].
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزَّيزٌ} [الحج: 40].
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] بين الله- سبحانه- أنه دفع بالمؤمنين شر الكافرين، وأن هذا الدفع فضلٌ منه ونعمة.
وختم الله هذا النصَّ بقوله: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] الإشارةُ بقوله: {تِلْكَ} إلى ما حدثنا الله به في هذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه قص علينا هذه القصص بالحق، أي أخبرنا به وفق ما وقع، ليس فيه تغيير ولا تبديل، وقال في خاتمة الآية {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، ولذلك أنزل الله عليه ما أنزل، وبيَّن له ما بيَّنه.
 * * * *

 

 



الموضع القرآني 8

تعريف الله تعالى بنفسه في آية الكرسي

أولًا: تقديم
هذه الآية التي يُعرِّف الله تعالى فيها بنفسه هي آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله تبارك وتعالى، ففي صحيح مسلم عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله r: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله، لِيَهنك العلم أبا المنذر» [مسلم: 810].
وهذه الآية إنما كان لها هذا الفضل؛ لأنها عرفتنا بربِّنا- تبارك وتعالى- تعريفًا كاملًا وافيًا لا مزيد عليه.
ثانيًا: آية هذا الموضع الذي حدَّثنا الله عن نفسه في سورة البقرة
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
ثالثًا: تفسير مفردات الآية التي حدثنا فيها ربنا عن نفسه
الإله: المعبود سواء كان بحق أو باطل.
الحيُّ: الدائم الحياة، فحياة الله- عزَّ وجلَّ- أبدية سر مدية.
القيوم: القائم بنفسه- تبارك وتعالى- المقيم لغيره.
سِنَةٌ: السنة ابتداء النعاس في الرأس، فإذا خالط القلب صار نومًا.
كرسيُّه: كرسي الرب مخلوق عظيم، يسع السموات والأرض، وقد ذكر ابن عباس أنه موضع قدمي الرب.
ولا يؤوده، أي لا يُثقله.
رابعًا: شرح الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه
هذه الآية أعظم آية في كتاب الله عزَّ وجلَّ- كما سبق بيانه، وإنما كانت كذلك لأنها تعرَّفنا بالله ربُّنا تبارك وتعالى بما لا مزيد عليه، وقد عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه:
1- المعبود الذي لا يستحق العبادة أحدٌ إلا إياه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} والإله: في لغة العرب المعبود، وكل من عبد فهو إله، وقد عبد الناس البشر والشجر والحجر والشمس والقمر، وعبدوا اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وكلُّ هذا الذي عبدوه آلهةٌ باطلةٌ، والإله الحق الذي يستحق العبادة هو الله، وهذا هو توحيد الألوهية، وكان المشركون ينكرونه، ويجادلون في استحقاقه العبادة وحده.
2- الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والله- تبارك وتعالى- حيُّ، وحياته تامة كاملة، وهو قيوم، أي: قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره، وهو مقيم لغيره، وحياته وقيوميته أبديتان سرمديتان- سبحانه وتعالى- فهو حي أبدًا وسرمدًا، وهو قيومٌ كذلك {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}.
والله - تبارك وتعالى- لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة، وهو النعاس، كما لا يأخذه النوم، بخلاف الإنسان الذي جاء عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا، ثم أحياه الله فجعله سميعًا بصيرا، ولكن حياته ناقصةٌ لها بداية، ولها نهاية بالموت، وهو ينعس وينام.
3- له ملك السماوات والأرض، فهو خالق السموات والأرض، وهو: مالكهم، وهما تحت قهره وتصرفه، يأمرهما فتطيعان {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقد قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
4- لا يشفع في يوم القيامِ أحدٌ عنده إلا بإذنه، فحتى تقبل الشفاعة لا بدَّ أن يرضى الله عن الذي يشفع، ولا بد أن يرضى عن المشفوع له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
وأخبرنا رسولنا r أن نبي الله إبراهيم عليه السَّلام يشفع عند الله في أبيه عندما يلقاه في عرصات القيامة، فلا تقبل شفاعته فيه، روى البخاري عن أبي هريرة t عن النبي r قال: «يَلقى إبراهيم أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجه آزرَ قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم: يا ربِّ إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أخزى من أبي الأبعد؟ يقول الله تعالى: إني حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجلَّيك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار» [البخاري: 3350]. والذيخُ: الضبع الذَّكر الملتطخ بالنتن.
فالله لا يقبل شفاعة إبراهيم في أبيه الكافر يوم القيامة، ويمسخه الله في ذلك اليوم ضبعًا، حتى لا يخزى به إبراهيم، فيؤخذ من قوائمه، ويلقى به في النار.
5-  يعلم الله ما بين أيدي مخلوقاته وما خلفهم، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: يعلم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ومن هؤلاء الملائكة الذين قالوا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. ومع أن علم الله محيط بجميع الكائنات، فإن الجن والإنس والملائكة لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بمقدار ما يشاء الله أن يحيطوا به، وهو قليل، لا يساوي قطرة من بحر، أو ذرة في صحراء.
6- وسع كرسيه السموات والأرض، يدل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على أن لله كرسيًا، الكرسي كما قال ابن عباس: «موضع القدمين» أي: موضع قدمي الرب تبارك وتعالى [وحديث ابن عباس صحيح موقوف عليه، أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد»، والدرامي في «الرد على المريسي» وعبد الله بن أحمد في «السنة» وقال الألباني فيه: «هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات» مختصر العلوم للذهبي تحقيق الألباني، ص 102]. وقد أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن الكرسي أعظم من السموات والأرض، ولذلك قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
وقد ساق الشيخ ناصر الدين الألباني حديثًا رواه أبو ذر الغفاري، قال فيه الرسول r: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» وقد ذكر الألباني طرقه في كتب السنة [وأصح طرقه الطريق التي ساقها ابن جرير الطبري، ثم قال الألباني: الحديث بهذه الطرق صحيح. سلسلة الصحيحة: حديث رقم: 109]. فدلَّ هذا الحديث على أن الكرسي غير العرش، وأن الكرسي أعظم من السموات والأرض، والعرش أعظم من الكرسي.
7- لا يُثقلُ الله حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، بل ذلك سهل ويسير عليه، فالله بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} فالله له العلو كله، أي: العلو الحسيُّ والمعنوي، وهو العظيم الكامل في عظمته سبحانه.
خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة
هذه الآية الكريمة عرفتنا بربِّنا جلَّ في علاه تعريفًا واسعًا، ومن النظر فيها بتمعن ندرك أن الله- تبارك وتعالى- هو:
1-   المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد في السموات ولا في الأرض.
2-   وهو الحي الذي حياته دائمة أبدة سرمدية، وهو قيوم، قائم بنفسه، مقيم لغيره.
3-   ولتمام حياة الله وتمام قيوميته، لا تأخذه سنة، وهي أوائل النوم، وهو الذي يسميه الناس النعاس، ولا يأخذه نوم.
4- الله تعالى له السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لا يشركه في ذلك أحد، وكان مشركو العرب يقرون بهذه الحقيقة، ويكفرون بتوحيد الألوهية.
5-   لا أحد يوم القيامة يشفع في إنجاء أحد من عذاب الله، ودخوله جنته إلا بإذن من الله عزَّ وجلَّ.
6- الله- تعالى- محيط علمه بعباده من الملائكة والجن والإنس وغيرهم، يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، ولا يحيط العباد من علم الله تعالى إلا بما شاء.
7-   لله تعالى كرسيُّ عظيم، لسعته وسع السموات والأرض.
8-   الله حافظ للسموات والأرض، ولا يثقله حفظهما، ولا يشق عليه.

9- الله تعالى عليُّ في ذاته، فذاته أعظم ذات، وصفاته أعظم الصفات، وهو مستوٍ على عرشه فوق سماواته سبحانه، وهو العظيم، لا أحد أعظم منه.

تحميل كتاب الله يحدث عباده عن نفسه pdf من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016