-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تحميل كتاب اتقاء الحرام والشبهات في طلب الرزق PDF


خطبة الحاجة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71]([1]).


تمهيد

منطلقنا في هذا الموضوع وتقسيمه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبهات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([2]).
ففي هذا الحديث تنقسم الأحكام إلى ثلاثة أمور:
لأن الأمر إما أن ينص الشارع على طلبه، مع الوعيد على تركه.
أو ينص على تركه، مع الوعيد على فعله.
أو لا ينص على واحد منهما:
فالأول: الحلال البين، والثاني: الحرام البين.
والثالث: المشتبه فيه لخفائه، فلا يدري هل هو حلال أم حرام.
وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لأنه إن كان (في نفس الأمر) حراما، فقد برئ من التبعة، وإن كان حلالاً، فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد، لأن الأصل مشتبه فيه، أهو حظر أم إباحة([3]).
ومع وضوح الحلال البين والحرام البين، إلا أنه لا بد من الترغيب في كسب المال من الطرق الحلال، والترهيب من طرق الحرام، والتحفظ باتقاء الشبهات.
وفي أبواب ثلاثة تناولت بشيء من التفصيل بعض وسائل الحلال البين في الكسب المشروع، والحرام البين في الكسب غير المشروع، وما فيه شبهة حرام، وهو موضوع هذا البحث، فإن وفقت في شيء منه فمن الله تعالى، وإن أخطأت، فمن نفسي وتقصيري، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.
                                                            المؤلف
                                                          أحمد الطويل
السعودية- الرياض 11159 ص.ب 7897         
                                                          بريد داخلي 765
                                      هاتف 4365419/ 01
                                      جوال 0563891935/ 966+


الحلال البين

الفصل الأول

في الكسب الحلال

1- التعريف بالحلال.
2- حكم معرفة الحلال والحرام.
3- أهمية طلب الحلال في حياة المسلم.
4- وجوب تحري الحلال في طلب الرزق.
5- الترغيب في طلب الحلال.
6- طلب الرزق والعبادة.
7- العمل والصلاة.
8- طلب الرزق لا يتنافى مع التوكل.
9- القناعة بالرزق الحلال.
10- التعفف عما في أيدي الناس.
11- متى يجوز سؤال الناس؟
12- الترهيب من سؤال الناس.
13- الترغيب في عدم السؤال.
14- من لا تحل له الصدقة.


الفصل الأول

في الكسب الحلال

1-التعريف بالحلال:

أ- التعريف اللغوي: الحلال هو المباح([4]).
والحلال ضد الحرام.
والأولى أن يقال: الحلال هو المطلق من قيد الحظر([5]).
ب- التعريف الشرعي: الحلال هو المباح الذي انحلت عنه عقد الحظر وأذن الشارع في فعله([6]).

2- حكم معرفة الحلال والحرام:

ومعرفة الحلال من الحرام فرض عين على كل مسلم مكلف ليكون على بصيرة من دينه حتى لا يقع في المحظور ويخالف أحكام الإسلام، فإن من اعتقد الحلال حراماً أو بالعكس فإنه يكفر، إذا كان الحرام حراماً لعينه قد حرمه الإسلام من أول الأمر كالزنا والسرقة وبيع الميتة وتزوج المحارم، فإن الإسلام قد حرم ذلك ابتداءً لما فيه من المفاسد والمضار.
أما إذا كان الحرام حراماً لغيره، وهو ما يكون مشروعاً في الأصل ولكن اقترن به عارض اقتضى تحريمه كالبيع إذا اشتمل على الربا، أو الصوم إذا كان يوم العيد، فإن الصوم في ذاته مشروع ولكنه لما اقترن بيوم العيد المحرم صيامه، صار حراماً لهذا العارض، وكذلك البيع، فهو حلال، ولكن لما خالطه الربا صار حراماً، وهكذا.
ومنكر الحرام لغيره يكفر، كمنكر الحرام لذاته إذا ثبتت الحرمة بدليل قطعي الثبوت كالقرآن والسنة المتواترة والمشهورة، وقطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل تأويلاً آخر.
أما إذا كان الدليل ظني الثبوت، كسنة الآحاد، وظني الدلالة يحتمل معنى آخر، فإنه يكون محلاً لاختلاف المجتهدين.

3- أهمية طلب الحلال في حياة المسلم:

ولتحري طلب الحلال، واجتناب الحرام، واتقاء الشبهات، في حياة المسلم، أهمية قصوى، حيث يتوقف على ذلك شرعية منهاجه، وسلوكه في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ويتجلى مظهر الامتثال لأوامر الله تعالى ورسوله، والانتهاء عما نهى الله تعالى عنه ورسوله، في الاقتصار على الحلال دون الحرام والشبهات، والرغبة في الخير دون الشر، وذلك في شتى الميادين، وجميع المجالات: في المأكل والمشرب، والملبس، والعمل، والمعاملات، والكسب، والبيع والشراء، ومجال الغريزة، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وكذا العلاقات العامة...إلخ.
وهذا شأن المؤمن الملتزم:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
وقال رسول الله r: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها»([7]).
وعن أبي الدرداء مرفوعاً: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله تعالى لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا r هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]([8]).
ويحتل الحلال والحرام من النصوص الشرعية ومن الأحكام الفقهية في الإسلام مساحة عريضة، نظراً لأهميتهما في حياة المسلم وتناولهما شتى شؤون الحياة، بما يصلح للمرء دنياه وأخراه، في مجال العقيدة والعبادة والاقتصاد والسياسة والشؤون الخاصة والعامة والعلاقات مع النفس ومع غيرهما.
وسوف نتناول ما يتعلق بطلب الرزق من وجوهه المشروعة مما أحله الإسلام، ونحذر من الوقوع في الحرام بكسب المال من طرق غير مشروعة، وما ينبغي اتقاؤه في هذا الباب بترك الشبهات.

4- وجوب تحري الحلال في طلب الرزق:

تقضي تعاليم الإسلام بأنه يجب على المسلم طلب الحلال وتحريه، ولا سيما في مجال الكسب، كي يسلم وينجو من عذاب الله تعالى، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
وقال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88]. وقال أيضا: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [النحل: 114].
وقيل في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] يعني أحل طعاماً([9]).
وعن أنس بن مالك t: عن رسول الله r: «طلب الحلال واجب على كل مسلم»([10]).
ففي الآيتين والحديث: الحث على طلب الحلال كسباً وتناولاً، على سبيل الوجوب، إذ هو مقتضى الأمر عند إطلاقه.
والكون كله بسمائه وأرضه وبحره، ميدان فسيح مسخر لهذا الحلال.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12-13].
وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29].
وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}  [الملك: 15].  
والحلال الطيب، مخلوق أصلاً للمؤمنين، ويشاركهم فيه غيرهم على وجه التبعية في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، صار حقاً خالصاً للمؤمنين وحدهم، بدليل قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
ومطلوب من المسلم أن يطرق السبيل المشروع لتحصيل الرزق الحلال، وهو آت له بعد بذل السبب لا محالة.
قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
ولحرص الإنسان وهلعه أقسم رب العالمين على ضمانه، فقال:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22-23].
وتقوى الله تعالى والخوف منه سبب لفتح باب الرزق الحلال من حيث لا يتوقع المرء.
قال تعالى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3].
وما عند الله تعالى من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله؛ وهذا الذي يأخذ الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس، إنما يطلب الكسب بمعصية الله، ومن غير طرقه المشروعة، ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته.
عن حذيفة t أن رسول الله r قال: «إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته»([11]).
وفي الحديث: «الرزق أشد طلباً للعبد من أجله»([12]).

5- الترغيب في طلب الحلال:

أولًا: من القرآن الكريم:
كي يجنب الإسلام أتباعه من مخاطر الحرام وعواقبه التي تؤدي إلى المهالك، شرع لهم من طرق الكسب الحلال ما يقيهم من عذاب الله في الآخرة، ويحفظ عليهم دينهم، وحياتهم من الفساد، وذلك ببذل الجهد في العمل، والتكسب من الطرق المشروعة، والأخذ بالأساليب الموصلة إليها.
بل وحث الإسلام على الأخذ بها ورغب فيها، وجعلها ضرباً من العبادة التي يثاب المرء عليها.
1- فتارة يقدمها على الجهاد في سبيل الله، فيقول تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
2- وتارة يأمر بها عقب الفراغ من العبادة، فيقول تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
3- ومثله قوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} [الشرح:7].
4- وتارة يتحدث عن أسباب الرزق ولا يمنع من ممارستها حتى في أثناء أداء فريضة العمر، فيقول جل شأنه في سياق الحديث عن مناسك الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}   [البقرة:198].
5- وتارة يصف عباده الصادقين المخلصين بمزاولة الكسب الحلال، فيقول: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].
6- وعن البيع والشراء يقول جل شأنه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}  [البقرة: 275].
7- وفي معرض النهي عن أكل أموال الناس بالباطل يقي الله سبحانه المسلم من الكسب غير المشروع بمشروعية التجارة فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ  بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}  [النساء: 29].
هذا: ولم أعمد إلى تقصي آيات القرآن الكريم التي وردت في هذا المقام، وإنما أردت الإشارة إليها فحسب، وكذلك الشأن في الأحاديث والآثار الآتية.
ثانيًا: من السنة النبوية:
ليس الإسلام دين بطالة أو تواكل، أو سؤال وكسل وخمول، وإنما هو دين يحفز أتباعه على العمل ويحث عليه، ويمقت الاعتماد على الآخرين، فهو يشخص الداء ويضع الدواء، ويتبين مدى حرص الإسلام على الكسب المشروع من الأحاديث التالية:
1- عن أنس t أن رجلاً من الأنصار، أتى النبي r فسأله فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى: حِلْسٌ([13]) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وَقَعْبٌ نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأخذهما رسول الله r، وقال: «من يشتري هذين؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال رسول الله r: «من يزيد على درهم. مرتين، أو ثلاثاً»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه: وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّوماً فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله r، عوداً بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول الله r: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع([14]) أو لذي غرم([15])مفظع([16]) أو لذي دم موجع([17]) ([18]).»
ففي الحديث توجيه وحث على العمل، وترك السؤال، وتأنيب على البطالة والاعتماد على الآخرين.
2- وفي الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه»([19]).
فالعمل مهما كان؛ أفضل من سؤال الناس، لأن فيه حفظاً لكرامة المسلم، واستغناءً عنهم.
3- وعن رافع بن خديج، من طريق، وللطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، من طريق آخر، أن رسول الله r قال: «أطيب الكسل عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور»([20]).
ففيه حث على العمل، والبيع المشروع، وأنه أطيب أنواع الكسب.
ويعتبر الإسلام السعي للكسب من طريق حلال ضرباً من الجهاد في سبيل الله.
4- ففي الحديث عن أنس أن النبي r قال: «..أما إنه إن كان يسعى على والديه أو أحدهما فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله»([21]).
 وعمل الرجل بيده أفضل طريق لطلب الكسب الحلال ووقاية له من الحرام، كما يشير إليه الحديث الآتي:
5- أخرج البخاري وأحمد عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله r قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»([22]).
وأكل الحلال الطيب سبب من أسباب دخول الجنة.
6- عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله r قال: «من أكل طيبًا وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة، قالوا يا رسول الله: إن هذا في أمتك كثير، قال: وسيكون في قرون بعدي»([23]).

ثالثًا: من الآثار:
1-ومن أقوال عمر t، في الحث على طلب الرزق، وقاية المسلم من الكسب الحرام: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة»([24]).
2- وكان t يقول: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا سقط من عيني»([25]).
3- وكان يقول أيضاً: «مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس»([26]).
4- والقعود عن طلب الرزق، ولو كان باسم العبادة، لا يقرُّه الإسلام ولا غيره: روي أن عيسى عليه السلام رأى رجلاً فقال: «ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: من يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك»([27]).
5- وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي. فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم. أما سمع قول النبي r: «وجُعل رزقي تحت ظل رمحي».
وقال حين ذكر الطير: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا..»([28]).
وجاء في الأثر أنه قيل: من المؤمن؟ فقيل: من إذا أمسى نظر من أين فرصة([29]).
ففي هذا الأثر وجوب تحري الحلال ومحاسبة النفس على مصدر الرزق.
وقال أبو سليمان الداراني: «ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن ابدأ برغيفك فأحرزه ثم تعبد»([30]).
ولا يعني الاعتناء بطلب الرزق أن يكون ذلك على حساب العبادة، فالمسلم يؤدي فرضه، ويسعى لرزق ربه.
فهذه آيات وأحاديث، وآثار، وأخبار، كلها تحث على العمل المشروع، وترغب فيه، وتبين فضله، وقاية للمسلم من الكسب غير المشروع كالرشوة وغيرها.
وأخيراً: فإن قضية الرزق الذي يأتي للإنسان عن طريق العمل المشروع كما أرشد إليه الإسلام، ذات وجهين، كسائر ما يجنيه الإنسان بعمله في الحياة.
الوجه الأول: بذل السبب، وممارسة العمل والسعي والبحث عن الرزق.
الوجه الثاني: هو الفضل الرباني في تقدير هذا الرزق، وتيسير أسبابه، والتوفيق في العمل، ودفع الموانع، وتحقيق النتائج.
وكلا الوجهين في نصوص القرآن والسنة حينما تتحدث عن الكسب فتقرن السعي الإنساني في طلب الرزق بابتغاء فضل الله تعالى.

6- طلب الرزق والعبادة:

ومطلوب من المسلم أن يرغب فيما عند الله تعالى ببذل الجهد في العمل للدار الآخرة، وأن يتفانى في مرضاة ربه، ومطلوب منه كذلك أن يسعى لتحصيل رزقه، وأن يأخذ نصيبه من الدنيا، وأن يعمل على عمارة الأرض بزراعتها واستخراج كنوزها..الخ. بحيث لا تطغى دنياه على آخرته؛ لأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا يطغيه المال، ولا يلهيه السعي له عن طاعة ربه، ولا ينقطع للعبادة، ويصبح عالة على الناس.
عملاً بقوله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}  [القصص: 77] ومعناه أن يكون ما عند الله هو أكبر همه. كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8].
 جاء في مراسيل أبي داود عن أبي قلابة: «أن ناساً من أصحاب رسول الله r قدموا يثنون على صاحب لهم خيراً، قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزل منزلاً إلا كان في صلاة، قال: فمن كان يكفيه ضيعته؛ حتى ذكر من كان يعلف جمله أو دابته؟ قالوا: نحن، قال: فكلكم خير منه»([31]).

7- العمل والصلاة:

وإذا كان الإسلام يدعو إلى العمل ويحث عليه، فإنه يجعل للعمل أوقاتاً لا تتعارض مع وجوب أداء الصلاة في وقتها، بحيث يترك المسلم عمله لزوماً إذا جاء وقت الصلاة ويذهب لأدائها، ثم يعود لأداء عمله، فلا يحتج بعمله للتخلف عن الصلاة، ولا يجعل من الصلاة سبباً للتهاون في العمل، فيأخذ أكثر من وقت الصلاة الفعلي باسم الصلاة- ولا سيما الموظف العام- كي لا يسيء إلى الإسلام بسبب الصلاة، كما لا يجوز للمسلم أن يفضل العمل على أداء الصلاة.
ويجب على ولاة الأمور أن يعملوا على تفريغ وقت للصلاة أثناء العمل في صلاة الظهر أو غيرها، كي يتمكن المسلمون من أدائها، ويجب ألا تتعارض المؤتمرات، والاجتماعات، والمحاضرات، والندوات، والدروس، والألعاب الرياضية مع وقت الصلاة.
ويسيء بعض العامة استعمال بعض الشعارات الدينية للتخلي عن الطاعة والعبادة، بدعوى أن (العمل عبادة)، وأن (من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة)، وهذا استغلال سيء واستدلال خاطئ، إذ لا ينبغي أن يطغى العمل على العبادة، ولا تطغى العبادة على العمل.
فللصلاة أوقات محددة تؤدى خلالها في بضع دقائق، تجدد النشاط لكثرة الإنتاج، وتحفز على الإخلاص في العمل وإتقانه.
ولا أمان لمن يتكاسل عن عبادة ربه باسم العمل، ولا من يعطل العمل باسم العبادة، وكيف تكون العبادة مدعاة للكسل أو البطالة، وتعاليم الإسلام بوجه عام والعبادات بوجه خاص، ترفع معنويات المسلم وتوحي له بالقوة والنشاط، وتولد فيه طاقة معنوية تحفزه إلى القوة المادية والروحية؟!

8- طلب الرزق لا ينافي التوكل:

وكما أن العمل لا يتنافى مع العبادة فهو أيضًا لا يتنافى مع الاعتماد والتوكل على الله تعالى، إذ يطلب الإسلام من المسلم الأخذ بالأسباب، وبذل الجهد فيها لتحصيل رزقه المقسوم له، ثم يترك النتائج لرب العالمين.
ولعل من الآيات التالية ما يشير إلى هذا المعنى:
1- {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
2-{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
3- {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
4- {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3].
وفي ضرب المثل بأخذ الطيور في الأسباب، عبرة للإنسان، في قولهr فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا»([32]).
فإذا كانت الطيور تسعى لتحصيل رزقها، ولا تبقى في أوكارها تنتظر الرزق، بل تذهب وهي جائعة في الصباح تلتمس أسباب الرزق، ثم تعود في المساء وقد امتلأت حواصلها وحصَّلت رزقها، وهكذا المسلم يجب عليه أن يبذل السبب ويجتهد في ذلك، وإن غُلِّقت الأبواب أمامه من جهات معينة طرق غيرها، وإن ضاقت عليه الأسباب في بلد سافر إلى غيره، وإن لم تكفه حرفته أو وظيفته تعلم حرفة أخرى، وقام بعمل آخر إلى جوار وظيفته، وهو في ذلك كله يتوكل على ربه ويعتمد عليه.
ويعلم أن رزقه معلوم ومقدر، ولكنه لا يعلم الغيب، ومأمور أن يبذل السبب ليأتيه رزقه، والسبب والمسبَّبُ مخلوقان لله تعالى، ومرتب أحدهما على الآخر، وترك الأخذ بالأسباب تواكل وتكاسل، وهناك فرق بين التوكل والتواكل.
«لما لقي عمر بن الخطاب t ناسًا من أهل اليمن، قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله»([33]).
فالإسلام إذن لا يعرف التواكل، وتحصيل المعاش لا بد له من الأخذ بالأسباب، والتوكل قوة دافعة إلى ذلك.
ولا تعارض بين طلب المعاش، والعمل للمعاد، فكلاهما مطلوب بمقدار.

9- القناعة بالرزق الحلال:

والاكتفاء بالحلال يعني أن يقنع المسلم بما رزقه الله تعالى من الطرق المشروعة، فيعف نفسه به، ولا يطلب ما سواه من الحرام.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة وعفة في طعمة»([34]).
ومعنى عفة في طعمة: أي أن يقنع المسلم ويكتفي ويعف نفسه بالحلال عن طلب الحرام.
ومن وصايا لقمان لابنه: «يا بني استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذا الخصال استخفاف الناس به»([35]).
والعمل الصالح سبب للحياة الطيبة وهناء العيش والقناعة بالقليل.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
جاء في تفسير المراد بالحياة الطيبة: أنها القناعة([36]).
والقناعة في الجانب المالي تعني الرضا والتسليم بما رزقه الله تعالى وقسمه للإنسان ولو كان قليلاً، وتعني اليأس عما في أيدي الناس، وعدم التطلع إلى الحرام في قليل أو كثير. فإن من لم يرض بما قسمه الله تعالى له، وتطلع إلى الكثير فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع، وجره هذا إلى مساوئ الخلاق وارتكاب المنكرات.
وإن الاكتفاء بالحلال بعد طلبه والقناعة به أحد أسباب ثلاثة هي مصدر السعادة والاستقرار في الدنيا.
عن عبد الله بن محصن t أن رسول الله r قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»([37]).
وهي أيضًا سبب لتحقيق الفلاح في الدار الآخرة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله r قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه»([38]).
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله r قال: «طوبى لمن هُدِيَ للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع»([39]).       
ولهذا فقد كان من دعاء النبي r: «اللهم ارزق آل محمد قوتًا([40]) أي كفافًا».
وفي القناعة والرضا والعفاف غني عما في أيدي الناس، وصيانة بها عن الحرام.
عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»([41]).
وقال سعد بن أبي وقاص t: «يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه»([42]).
وسئل بشر بن الحارث عن القناعة فقال: «لو لم يكن فيها إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزي».. ثم قال: مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء([43]).

10- التعفف عما في أيدي الناس:

وإذا كان الإسلام يطلب من المسلم أن يرضى بما قسمه الله له، ويقنع ويكتفي برزقه الحلال، فإنه يطلب منه كذلك أن يعف نفسه عما في أيدي غيره مما لا حق له فيه فيستغني بما أوتي، ولا يطمع في كسب غير مشروع. أو زيادة من غير حلها؛ وبذلك يتحقق المطلوب من العفة وهو اليأس وقطع الطمع عما في أيدي الناس.
وقد مدح الله تعالى قومًا اتصفوا بالعفة في مظهرهم، مع فقرهم وحاجتهم، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدريt ، أن رسول الله r قال:                     «.. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله»([44]).
وقد كان من دعاء النبي r: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»([45]).
وقد وضع النبي r معياراً للمسلم إذا جعله نصب عينيه فسيكون قرير العين بما آتاه الله راضياً به عفيفاً عن التطلع والنظر إلى ما عند غيره.
عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فَضُلَ عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه»([46]).
وفي رواية ذكرها «رزين» قال: قال رسول الله r: «انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا وفوقكم في الدين، فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم»([47]).
وبهذا المعنى أمرنا رب العالمين فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
كما أمر القرآن من لا يملكون نفقة الزواج أن يعفوا نفوسهم عن الحرام حتى يغنيهم الله من فضله فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النور: 33].
وهذا الغنى وهذه العفة عما في أيدي الناس رغب فيها الإسلام وحث عليها وجعلها سبباً موصلاً إلى الجنة بل إن المتصف بها يكون من أهلها.
عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله r: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رفيق القلب لكل مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال..»([48]).
وبعد: فهذه لمحة موجزة عن هدي الإسلام في طلب الكسب الحلال والاكتفاء به والقناعة برزق الله، والعفة عن الحرام، وهي حصن قوي ودرع واق للمسلم من الوقوع في الحرام أو التطلع إليه.

11- متى يجوز سؤال الناس؟

والإسلام لا يحب المهانة والمذلة والضعة والعجز، فالمؤمن القوي في إيمانه وبدنه وماله خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
واليد العليا المتصدقة خير من السفلى السائلة.
ولا يحب الإسلام التواكل ولا البطالة ولا التسول ومسألة الناس، فقد منع الإسلام التسول وحدد سؤال الناس في حالات معينة ضرورية بينها النبي r في مثل الحديث الآتي:
عن قبيصة بن مخارق الهلالي t قال: تحملت حمالة([49])، فأتيت رسول الله r أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة([50]) اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً([51]) من عيش، أو قال سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى([52]) من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيشة،- أو قال سداداً([53]) من عيش-، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً»([54]).
وفي هذا بيان أن المسلم ينبغي أن يكون عالي الهمة، كريم النفس، مترفعاً عن الدنايا، وعن مذلة سؤال الناس إلا في الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث، وهي التي يجوز فيها سؤال الناس بمقدار الحاجة فقط، وإلا كان سحتاً يأكل به في بطنه ناراً.

12- الترهيب من سؤال الناس:

وقد بين النبي r أن المُلحِف في المسألة يأتي يوم القيامة وعليه علامات مميزة، فيها ترهيب ووعيد شديد.
فالإسلام يحرم السؤال بادئ ذي بدء، ويحرم الإلحاح في السؤال، ويحرم السؤال تكثراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله r قال: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية النسائي: «حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم»([55]).
فالحديث يبين أن كثرة سؤال الناس للصدقات يكون سببا في تساقط لحم وجه الإنسان يوم القيامة، علامة له على أنه كان يسأل الناس الصدقة في الدنيا ويكثر من السؤال.
وتأتي المسألة مع وجود الكفاف نكتة في وجه السائل يوم القيامة.
ومن يملك خمسين درهما فهو غني لا يجوز له سؤال الناس.
عن عبد الله بن مسعود t، قال: قال رسول الله r: «من سأل الناس، وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته خُموس- أو خدوش، أو كدوح- قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب»([56]) والخمسون درهماً تعدل خمسة دنانير والدينار يعدل مثقالاً، والمثقال يعدل اثنين وعشرين جراماً.
ويحرم الإسلام كذلك السؤال بقصد الاستزادة من المال ويبين أن السائل لا يستكثر مالاً، وإنما يستكثر بسؤاله الناس من جمر جهنم والعياذ بالله.
أخرج مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر»([57]).
ويؤخذ من هذا الوعيد وهذا الترهيب تحريم الإلحاح في السؤال، وتحريم السؤال لمن أغناه الله تعالى بالكفاف، وتحريم السؤال لمن يسأل استزادة وتكثراً.

13- الترغيب في عدم سؤال الناس:

ولما رهَّب النبي r من المسألة، قطع بعض الفقراء عهداً على أنفسهم ألا يسألوا الناس شيئاً، ووفوا بعهدهم حتى توفاهم الله تعالى، منهم: حكيم ابن حزام الذي أبى أن يقبل الفيء من أبي بكر ثم عمر كذلك حتى توفاه الله تعالى([58]).
بل ويرغب النبي r في ترك السؤال بضمان الجنة لمن يفعل ذلك:
عن ثوبان أن رسول الله r قال: «من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئا، وأتكفل له بالجنة»، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً. أخرجه أبو داود.
وفي رواية النسائي قال: قال رسول الله r: «من يضمن لي بواحدة، وله الجنة؟ قال: وقال كلمة، ألا يسأل الناس شيئاً»([59]).
فعدم سؤال الناس مع الحاجة يكون سبباً في ضمان دخول الجنة، وأي فوز وأي نعيم أفضل من هذا؟
روي أن معاذ بن جبل t قال: «ينادى يوم القيامة، أين بغضاء الله في أرضه؟!  فيقوم سؤال المساجد»([60]). فالمساجد دور للعبادة وسؤال ما عند الله، وليس من الأدب سؤال الناس وأنت في بيت الله، فتوجه بسؤالك إلى الله، وابذل الجهد في تحصيل عيشك.
ورد أن عمر بن الخطاب سمع سائلاً يسأل بعد المغرب، فقال لرجل من قومه: عشِّ الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانياً يسأل، فقال: ألم أقل لك: عشِّ الرجل؟ قال: عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزاً، فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة، وقال: لا تعد ولولا أن سؤاله كان حراماً ما ضربه عمر ولا أخذ مخلاته([61]).
14- من لا تحل له الصدقة:
وكما حرم الإسلام سؤال الناس تكثرًا أو إلحافًا فإنه حرم قبول الصدقة على الغني والقوي القادر على الكسب، ولم يجزها إلا في حالات معينة كما في الحديث الآتي:
عن عطاء بن يسار أن رسول الله r قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو الغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغني»([62]).
والمراد بالعامل عليها: العامل على جمع الصدقة (الزكاة) المذكورة في أول الحديث، وهو من أهل مصارف الزكاة التي جاءت في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].
والمسألة لا تجوز كذلك لقوي قادر على الكسب، ولا لغني عنده قوت يومه.
أخرج أبو داود والنسائي عن عبيد الله بن الخيار t قال: أخبرني رجلان: أنهما أتيا النبي r وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألوه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، قرآنًا جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب»([63]).
وبهذا لا يدع الإسلام مجالاً للتسول والبطالة وسؤال الناس إنما يحرص على العمل ويعلم أبناءه المثابرة والجد والعزة والكرامة وعلو الهمة.



تحميل كتاب اتقاء الحرام والشبهات في طلب الرزق PDF من هنا 

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

download pdf books تحميل كتاب pdf

2016