الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب
فارس ميداننا اليوم هو
الإمام محمد بن عبد الوهاب، الإمام العلامة، المجاهد الصابر الداعي إلى الله
على بصيرة، المجدد للأمة أمر دينها في القرن الثاني عشر الهجري.
كلامنا عليه سوف يكون
مقتضبًا لأن ترجمته سوف تأتي مفصلة -بمشيئة الله وعونه-.
نشأ -رحمه الله- في بيت علم
وفضل، وتلقى العلوم كغيره على يد علماء وقته. وعندما بلغ مرتبة فيها يستطيع بها
الحكم على أهل عصره وبيئته، وجد البون شاسعًا بين دعوة النبي r ورسالته وبين واقع أمته، لاسيما في أبواب
العقائد والمنهج.
فالعامة غارقون في بحار
البدع والخرافات والشركيات، فالشرك سيطر على كثير منهم في الربوبية والألوهية،
وبلغ حدًّا لم يبلغه شرك أهل الجاهلية الأولى، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه
الكبير، وأصبح بينهم دينًا يعض عليه بالنواجذ.
ومما زاد المصيبة ضررًا: أن
علماء وقته كانوا مشغولين بدراسة مسائل الفقه، ودقائق علم الكلام، الذي خرج من تحت
عباءته شتى ألوان البدع في العقائد والأحكام، وكانوا أيضًا منصرفين تمامًا عن بيان
الشرك وأحكامه.
فعند ذلك عزم الإمام على خوض
غمار معركة التغيير، تغيير المنكرات في العقائد والمناهج، والعمل على تصحيح عقائد
العامة، وإرجاعهم إلى التلقي من مصادر الهدى، القرآن والسنة والإجماع، وسيرة
الصحابة الكرام
الأبرار -رضي الله عنهم جميعًا-.
فلما فعل، لم يملك أعداء
الدين إلا أن يشمروا عن ساق العداء لمن جاء يريد هدم أصول التقليد والخرافات
والشركيات التي بثوها في العامة، وروجوا لها، ثم اجتهدوا بكل ما أوتوا من تلبيس في
تصحيح إسلام كل من وقع في الشرك والتنديد بدعوى أنه يقول: «لا إله إلا الله»،
وينتسب لأهل القبلة.
وكان موقف الإمام إزاء هذا:
مواصلة العمل في الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وتحقيق الكفر بكل ما يعبد من
دونه، وألف في ذلك الكتب، وراسل العلماء والأمراء، وأجاب عن شبهات أهل الزيغ، وفند
أباطيل أهل الريب، فاستجاب لدعوته من كان رائده الحق، ورده وعانده من كان دافعه
التعصب للباطل، لاسيما أهل السوء من علماء التلبيس، الذين صرخت العامة فيهم إذا
كان ما يقوله ابن عبد الوهاب حقًا فكيف تركتمونا عليه دون بيان ونكير؟ وكيف تركتم
آباءنا يموتون على شيء يستحقون به الخلود في عذاب السعير؟
فقام علماء السوء والتلبيس
قومة رجل واحد في وجه الحق، الذي سوف يهز مكانتهم، ويشوه صورتهم القبيحة، ويفضح
باطنهم الخبيث ويخرج العامة من تحت سلطانهم الغير مقدس، السلطان الملعون الذي
يسوقون به مريديهم لتحقيق شهواتهم وملذاتهم، وكل هذا باسم الدين، والدفاع عن
المقدسات زعموا، ألا لعنة الله على الظالمين.
فلما كان كذلك لم يجد الإمام
المجدد بدًا من جهاد هؤلاء بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، بعد أن قيض الله للحق
سيف محمد بن سعود -رحمه الله تعالى-.
فقامت ساق
الحرب بين أولياء التوحيد وأعدائه، واستمرت سجالاً بينهم ردحًا من الزمان، ثم كان
النصر لأهل التوحيد العاملين به والداعين إليه، والمجاهدين دونه.
وبقدر الحفاظ
على التوحيد وأحكامه يأتي النصر والظفر والثبات عليه.
وبقدر
التغيير والتلون فيه يأتي الانحسار وتبدل الحال والانكسار...
واستمر
الإمام المجدد على هذه الحالة الموصوفة آنفًا حتى لقي ربه -سبحانه وتعالى- عن عمر
يناهز إحدى وتسعين سنة. فرحمه الله من إمام رباني، وطيب ثراه، وجعلنا من أعوانه
وأنصاره على الحق الذي بثه في الأمة، وأحيا به القلوب بعد موتها.
وختامًا:
أرجو منك
أخي القارئ ألا تنساني في دعوة صالحة لعلها تكون سببًا في صلاح الحال والاستقامة
على مراغمة الأعداء وإياك أن تنسى النصح والتوجيه والإرشاد في إصلاح الخلل، وتقويم
الزلل.
وأسأل الله
سبحانه وتعالى، وجل في علاه: أن يجعل كل عملي صالحًا، ولوجهه خالصًا، ولا يجعل
لأحد من دونه في ذلك شيئًا، وأسأله تعالى أن يجعل في هذا الكتاب ذخرًا طيبًا لي
ولأهلي ولأولادي في الدنيا والآخرة.
كتبه
مدحت بن الحسن آل فراج أبو يوسف
14/4/1428هـ
ص.ب 7612- الرياض 11472
E-abo-yosef2003@hotmail.com
ترجمة
الإمام الفذ
الإمام
محمد بن عبد الوهاب
رحمه
الله تعالى
1115هـ-
1206هـ
هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن
محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف،
التميمي.
ولد رحمه الله تعالى سنة خمس
عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في بلدة العيينة، من بلدان نجد.
تلقى في طفولته العلم في
بلدته العيينة، فحفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد
الذهن، سريع الحفظ، فصيحًا فطنًا؛ روى أخوه سليمان أن أباهما كان يتوسم فيه خيرًا
كثيرًا، ويتعجب من فهمه وإدراكه مع صغر سنه، وكان يتحدث بذلك ويقول: إنه استفاد من
ولده محمد فوائد من الأحكام.
وكتب والده إلى بعض إخوانه
رسالة نوه فيها بشأن ابنه محمد، وأثنى فيها عليه، وعلى حفظه وفهمه وإتقانه، ذكر
فيها أن ابنه بلغ الاحتلام قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمره، وأنه رآه حينئذ أهلاً
للصلاة بالجماعة لمعرفته بالأحكام، فقدمه أبوه ليؤم الناس. وزوجه وهو ابن اثنتي
عشرة سنة بعيد بلوغه؛ ثم أذن له بالحج فحج وقصد مدينة الرسول r وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد أن أدى
الزيارة.
وكان والده آنذاك قاضي
العُيَيْنَة، فقرأ عليه في الفقه على مذهب الإمام أحمد وكان رحمه الله -على صغر
سنه- كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام وكان
-لسرعة كتابته- يكتب في المجلس الواحد كراسًا من غير أن يتعب فيحار من يراه لسرعة
حفظه، وسرعة كتابته.
فشرح الله صدره بمعرفة
التوحيد ومعرفة نواقضه التي تضل عن سبيله فأخذ ينكر تلك البدع المستحدثة من الشرك
الذي كان قد فشا في نجد، مع أن بعض الناس كان يستحسن ما يقول، غير أنه رأى أن
الأمر لن يتم له على ما كان يريد، فرحل في طلب العلم إلى ما يليه من الأمصار، حتى
بلغ فيه شأوًا فاق فيه شيوخه.
فبدأ بحج بيت الله الحرام،
ثم أقام في المدينة المنورة حينًا أخذ فيه العلم عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم
النجدي ثم المدني وأجازه من طريقين، وهو والد إبراهيم بن عبد الله مصنف كتاب
«العذب الفائض في علم الفرائض» وكذلك أخذ عن الشيخ محمد حياة السندي المدني.
ثم خرج من المدينة إلى نجد،
وقصد البصرة في طريقه إلى الشام، وفي البصرة سمع الحديث والفقه من جماعة كثيرين،
وقرأ بها النحو وأتقنه، وكتب الكثير من اللغة والحديث. وكان في أثناء مقامه في
البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر
أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله: يكفر من صرف شيئًا منها إلى سواه؛
وإذا ذكر
أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا
أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا
يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب،
وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم، وليست
باتخاذهم آلهة من دون الله؛ وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها
عليه فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا
تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة
إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء والتوسل بهم عند قبورهم، ومشاهدهم، وكانوا
يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء.
فلما تكرر منه ذلك آذاه بعض
أهل البصرة أشد الأذى، وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام ولكن نفقته التي
كانت معه ضاعت منه في الطريق؛ فانثنى عائدًا إلى نجد؛ ومر في طريقه إليها بالأحساء
ونزل فيها على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي
الأحسائي؛ ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا -وكان أبوه عبد الوهاب قد انتقل إليها من
العُيَيْنَة سنة تسع وثلاثين ومائة وألف بعد أن توفي حاكمها عبد الله بن معمر،
وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبد الوهاب عن قضاء
العيينة لنزاع بينهما.
فأقام الشيخ محمد في حريملا
مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة (1153هـ) ثلاث وخمسين ومائة وألف؛
فأعلن دعوته، واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام، وجدد سنة محمد r ولم يخش في الحق لومة لائم وحذر الناس،
والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد
الله في قوله تعالى: }إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ{ [البقرة: 159].
فذاع ذكره في جميع بلدان
العارض: في حريملا والعُيَيْنة والدَّرْعية والرياض ومنفوحة؛ وأتى إليه ناس
كثيرون، وانتظم حوله جماعة اقتدوا به، واتبعوا طريقه، ولازموه، وقرءوا عليه كتب
الحديث والفقه والتفسير، وصنف في تلك السنين «كتاب التوحيد».
وانقسم الناس فيه فريقين:
فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه؛ وفريق عاداه وحاربه وأنكر عليه وهم
الأكثر.
وكان رؤساء أهل حريملا
قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة
العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يَزَعُ الجميع؛ وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين
كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يمنعوا عن الفساد ونفذ
فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرًا
بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا.
فانتقل الشيخ من حريملا إلى
العُيَيْنة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر، فأكرمه وتزوج فيها
الجوهرة بنت عبد الله بن معمر.
ولما عرض على عثمان دعوته
اتبعه وناصره، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره، وكان في العيينة وما حولها
كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء، والأشجار
التي يعظمونها ويتبركون بها
كقبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة، وكشجرة
قريوة وأبي دجانة والذيب.
فخرج الشيخ محمد بن عبد
الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول،
فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة وكان الشيخ هو الذي
هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع
شجرة قريوة: ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة
سواهم.
وهكذا لم يبق وثن في البلاد
التي تحت حكم عثمان، وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله r فلما شاع ذلك واشتهر، وتحدثت به الركبان أنكرته
قلوب الذين حقت عليه كلمة العذاب، وقالوا مثلما قال الأولون: }أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ{ [ص: 5] فتجمعوا
على رده، والإنكار عليه ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة
والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد،
وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع والسنة، وجهله وغوايته، وأغروا
به الخاصة والعامة، خصوصًا السلاطين والحكام وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا
ذمام، لرفضه سنة الرسول r
وتغييره أحكام الدين، وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال
والطغام بكلامه ويغويهم بطريقته، فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان.
والشيخ -رحمه الله- صابر على
ما يقولون، محتسب أجره عند الله،
يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون
من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده
جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين فقد قال تعالى: }الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ [العنكبوت: 1-3].
ولم يزل الشيخ رحمه الله
مقيمًا في العيينة: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم، ويزيل ما
قدر عليه من البدع ويقيم الحدود، ويأمر الوالي بإقامتها حتى جاءته امرأة من أهل
العيينة زنت، فأقرت على نفسها بالزنا، وتكرر ذلك منها أربعًا فأعرض الشيخ عنها، ثم
أقرت وعادت إلى الإقرار مرارًا؛ فسأل عن عقلها، فأخبر بتمامه وصحته، فأمهلها
أيامًا، رجاء أن ترجع عن الإقرار إلى الإنكار، فلم تزل مستمرة على إقرارها بذلك،
فأقرت أربع مرات في أيام متواليات، فأمر الشيخ رحمه الله والوالي برجمها لأنها
محصنة: بأن تشد عليها ثيابها وترجم بالحجارة على الوجه المشروع، فخرج الوالي عثمان بن
معمر وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت وكان أول من رجمها عثمان نفسه؛ فلما
ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها.
فلما جرت هذه الحادثة كثرت
أقاويل أهل البدع والضلال، وطارت قلوبهم خوفًا وفزعًا، وانخلعت ألبابهم رهبًا وجزعًا،
وتطاولت ألسنة العلماء عليه ينكرون ما فعل مع أنه لم يعد الحكم بالمشروع بالسنة
والإجماع.
فلما أعياهم رد ما أفحمهم به
الشيخ من حجج، عدلوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم سليمان آل محمد
رئيس بني خالد والأحساء، فأغروه به، وصاحوا عنده وقالوا: إن هذا يريد أن يخرجكم من
ملككم ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويبطل العشور والمكوس.
فلما خوفوه بذلك كتب إلى
عثمان بن معمر أمره بقتله أو إجلائه عن بلده، وشدد عليه، وهدده بأنه إن لم
يفعل ذلك قطع عنه خراجه الذي عنده في الأحساء -وكان خراجًا كثيرًا- وأوعده
باستباحة جميع أمواله لديه.
فلما ورد على عثمان كتاب
سليمان استعظم الأمر فآثر الدنيا على الدين وأمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بالخروج من العيينة.
فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان
وخمسين ومائة وألف من العُيَيْنَة إلى بلدة الدَّرْعية. فنزل في الليلة الأولى على
عبد الله بن سويلم، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن
سويلم.
فلما سمع بذلك الأمير محمد بن
سعود، قام من فوره مسرعًا إليه ومعه أخواه: ثنيان ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن
سويلم، فسلم عليه وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به
نساءه وأولاده.
فأخبره الشيخ بما كان عليه
رسول الله r وما
دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده، وما أمروا به وما نهوا عنه،
وأن كل بدعة ضلالة وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم
إخوانًا.
ثم أخبره بما عليه أهل نجد
في زمنه من مخالفتهم لشرع الله وسنة رسوله بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف
والظلم.
فلما تحقق الأمير محمد بن
سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، قال له: يا شيخ إن
هذا دين الله ورسله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن
خالف التوحيد؛ ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:
نحن إذا قمنا في نصرتك،
والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنها وتستبدل بنا
غيرنا.
والثانية: أن لي على الدرعية
قانونًا([1]) آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ
منهم شيئًا. فقال الشيخ: أما الأول فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم؛ وأما
الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منهم.
فبسط الأمير محمد يده وبايع
الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده. ومن أشهر الذين
عاونوه وناصروه من إخوان الأمير ووزرائه وأعوانه من أهل الدرعية: ثنيان بن سعود،
ومشاري بن سعود، وفرحان بن سعود، والشيخ أحمد بن سويلم، والشيخ
عيسى بن قاسم، ومحمد الحزيمي، وعبد الله بن دغيثر، وسليمان الوشيقري،
وحمد بن حسين، وأخوه محمد، وغيرهم.
وقد بقي الشيخ رحمه الله
سنتين في الدرعية: يناصح الناس ويهديهم إلى سبيل الحق. وفي خلالهما تسلل إليه
شيعته الذين في العُيَيْنَة، منهم: عبد الله بن محسن، وأخواه: زيد وسلطان
المعامرة([2])، وعبد الله بن غنَّام، وأخوه موسى؛ وهاجر
معهم خلق كثير من رؤساء المعامرة المخالفين لعثمان بن معمر في العُيَيْنَة،
ومعهم أناس ممن حولهم من البلاد، حين علموا أن الشيخ استقر في الدَّرعية ومُنع
ونصر.
فلما علم عثمان بن معمر
بكل ذلك ندم على ما فعل من إخراج الشيخ، وعدم نصرته، وخاف منه أمورًا فركب في عدة
رجال من أهل العُيَيْنَة ورؤسائها، وقدم على الشيخ في الدَّرعية، وأراده على
الرجوع معه، ووعده النصر والمنعة، فقال الشيخ: ليس هذا إلي، إنما هو إلى محمد بن
سعود، فإن أراد أن أذهب معك ذهبت، وإن أراد أن أقيم عنده أقمت، ولا أستبدل برجل
تلقاني بالقبول غيره، إلا أن يأذن لي. فأتى عثمان إلى محمد بن سعود، فأبى
عليه، ولم يجد إلى ما أتى إليه سبيلاً، فرجع إلى بلده مضمرًا العداوة والشر
والغدر، وإن كان يبدي مشايعة الحق ونصرة الشيخ والأمير محمد؛ إلى أن تكرر منه
المكر، وظهر نفاقه، وانكشف أمره، فقام بقتله جماعة من أهل التوحيد، بعد أن انقضت
صلاة الجمعة في مصلاه بمسجد بالعيينة سنة ثلاثة وستين بعد المائة والألف.
وكاتب الشيخ بدعوته أهل البلدان
ورؤساءهم ومدعي العلم فيهم، فمنهم من قبل الحق واتبعه، ومنهم من اتخذه سخريًا
واستهزءوا به، ونسبوه إلى الجهل
تارة، وإلى السحر تارة أخرى، ورموه بأشياء هو بريء
منها جميعًا.
وبقي رحمه الله يدعو إلى
سبيل ربه بالحجة الواضحة وبالموعظة الحسنة، فلم يبادر أحدًا بالتكفير، ولم يبدأ
أحدًا بالعدوان، بل توقف عن كل ذلك ورعًا منه، وأملاً في أن يهدي الله الضالين؛
إلى أن نهضوا عليه جميعهم بالعدوان، وصاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته
وأباحوا دماءهم، ولم يثبتوا دعواهم الباطلة بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله، ولم
يكترثوا بما ارتكبوا بحقه من الزور والبهتان، وما اتبعوه من وسائل لإجلائه وجماعته
من البلاد ومطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد. أجل لم يأمر -رحمه الله- بسفك دم ولا
قتال على أكثر أهل الضلالة والأهواء حتى بدأوه بالحكم عليه وأصحابه بالقتل
والتكفير فأمر الشيخ حينئذ جماعته بالجهاد، وحض أتباعه عليه، فامتثلوا لأمره.
وكان دائمًا يتضرع إلى الله
الذي خصه بهذا الفضل أن يشرح للحق صدور قومه، وأن يكفيه بحوله وقوته شرورهم، ويصرف
عنه أذاهم. وكان يسير معهم دائمًا بسيرة الصفح، ويشملهم بالعفو، ولم يكن أحب إليه
من أن يأتيه أحدهم بالمعذرة فيبادر بالمغفرة؛ ولم يعامل أحدًا بالإساءة بعد أن غلب
وظهر، ولو مكنهم الله تعالى منه لقطعوا أوصاله، وأوقعوا به أقبح المثلة والنكال،
ولقد كان -رحمه الله- يعلم ذلك، ولكنه لم ينتصر لنفسه بعد التمكن والظهور حين
جاءوا وافدين عليه منقادين قسرًا أو طوعًا إليه، بل أخذته الرحمة بهم، فأعرض عما
أتوه بحقه، وكأنه لم يصدر عليه منهم شيء، وأبدى لهم البشاشة والملاطفة، ومنحهم بره
ومعروفه وإكرامه؛ وهذا الشأو لا يدركه إلا البررة الكرام، والعلماء
الأعلام ممن جملهم الله تعالى بالتقوى والمعرفة
والهداية.
وقد بقي الشيخ بيده الحل
والعقد والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن
سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه فلما فتح الله الرياض واتسعت ناحية
الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد
العزيز بن محمد بن سعود وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ
منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكن عبد العزيز لم يكن يقطع أمرًا دونه ولا
ينفذه إلا بإذنه.
وكان رحمه الله يحيي غالب
الليل قائمًا؛ يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني والتثبت في تنفيذ
الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل يحكم بما ترجح له
وجه الصواب فيه، فإن وجد نصًا في كتاب الله أو سنة نبيه r التزمه ولم يعدل عنه، وإلا رجع إلى كتب
الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف
والتنقيب.
ومع ما أفاض الله على بيت
المال من الأموال التي كانت تجبى، فقد كان رحمه الله زاهدًا متعففًا، لا يأكل من
ذلك المال إلا بالمعروف؛ وكان سمحًا جوادًا لا يرد سائلاً، فلم يخلف -رحمه الله-
شيئًا من المال يوزع بين ورثته، بل كان عليه دين كثير، أوفاه الله عنه.
وقد اختاره الله تعالى إلى
جواره في يوم الاثنين آخر شهر شوال سنة ست بعد المائتين والألف، وله من العمر نحو
اثنتين وتسعين عامًا، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأدخله جناته، وجزاه عن
الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كفاء
ما أحيا من شرع الله، وجدد من سنة رسوله عليه أفضل
الصلاة والسلام.
(مؤلفاته رحمه الله):
- كتاب
التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد.
- كتاب
الكبائر.
- كتاب كشف
الشبهات.
- كتاب
السيرة المختصرة.
- كتاب
السيرة المطولة.
- كتاب
مختصر الهدي النبوي.
- كتاب
مجموع الحديث على أبواب الفقه.
- كتاب
مختصر الشرح الكبير.
- كتاب مختصر
الإنصاف.
وله -غير
هذه الكتب- رسائل كثيرة: بعضها مطول، وبعضها مختصر([3]).
بسم الله الرحمن الرحيم
مما قال الشيخ الإمام، وعلم
الهداة الأعلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لما ارتاب بعض من يدعي
العلم من أهل العيينة. لما ارتد أهل حريملا فسئل الشيخ أن يكتب كلامًا ينفعه الله
به.
فقال -رحمه الله تعالى-:
«بسم الله الرحمن الرحيم، روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي t قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على
ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا
فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله r مستخفيًا جُرَءَاءُ عليه قومه، فتلطفت حتى
دخلت عليه بمكة فقلت له: وما أنت؟ قال:«أنا نبي» قلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني
الله»، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن
يوحد الله لا يشرك به شيء» فقلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد»,
قال: «ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه»، فقلت: إني متبعك، قال: «إنك
لا تستطيع ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت
بي قد ظهرت فأتني»، قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله r المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر
الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة
فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع وقد أراد قومه
قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟
قال:«نعم، أنت
الذي لقيتني بمكة» قال: قلت بلى، فقلت: يا
نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة، قال: «صل صلاة الصبح
ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان،
وحينئذ يسجد له الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح؛ ثم
أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة
محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني
شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار». وذكر الحديث.
قال أبو العباس -رحمه الله
تعالى-: فقد نهى النبي r عن
الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت الغروب، معللاً ذلك النهي: بأنها تطلع وتغرب بين قرني
شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار.
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد
السجود إلا لله. وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا
أن الكفار يسجدون لها. ثم إنه r نهى
عن الصلاة في هذا الوقت حسمًا لمادة المشابهة.
ومن هذا الباب: أنه كان r إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه
الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدًا.
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما
عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله
بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله انتهى
كلامه.
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه
ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء
وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم، وقص قصص الكفار
والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا، فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي
الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب
راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير وهذا فسر به قوله
تعالى: }إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ{ [الأنفال: 22].
أي: حرصًا على تعلم الدين
«لأسمعهم» أي: لأفهمهم، فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدل منه
سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين.
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة
لكون الإنسان من شر الدواب: هو عدم الحرص على تعلم الدين. فإذا كان هذا الجاهلي
يطلب هذا الطلب فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض
عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأسًا فإن حضر أو استمع فكما قال تعالى: }مَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ{ [الأنبياء: 2].
وفيه من العبر أيضًا أنه لما
قال: «أرسلني الله» قال: بأي شيء أرسلك؟ قال بكذا وكذا.
فتبين أن زبدة الرسالة
الإلهية والدعوة النبوية: هي توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان،
ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة
وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة.
وفيه أيضًا أنه فهم المراد
من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب ولأجل هذا قال: من معك على هذا؟ قال: «حر
وعبد» فأجابه: إن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه
على ذلك إلا من ذكر فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل
قد يملأ الأرض.
ولله در الفضيل بن عياض
-رحمه الله- حيث يقول: «لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثرة
الهالكين» وأحسن منه قوله تعالى: }وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ
إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [سبأ: 20].
وفي «الصحيحين» أن بعث النار
من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وفي الجنة واحد من كل ألف. ولما بكوا من هذا لما
سمعوه قال r: «إنها
لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا
أكملت من المنافقين». قال الترمذي حسن صحيح.
فإذا تأمل الإنسان ما في هذا
الحديث من صفة بدء الإسلام ومن اتبع الرسول r إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في
«صحيح مسلم» أيضًا أنه r قال:
«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» تبين له الأمر وانزاحت عنه الحجة
الفرعونية.
}قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى{ [طه: 51].
والحجة القرشية.
}مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ{ [ص: 7].
وقال أبو العباس -رحمه الله
تعالى- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى: }وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ{ [البقرة: 173].
ظاهره أنه ما ذبح لغير الله
سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال
فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان
أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله.
فإن عبادة الله سبحانه
بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير
الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله.
فلو ذبح لغير الله متقربًا
به إليه لحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة.
وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.
ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها
من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر
المعين فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة وتصريحه أن
المنافق يصير مرتدًا بذلك، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.
وقال أيضًا في الكتاب
المذكور: وكانت الطواغيت الكبار، التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات لأهل الطائف.
ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحًا يلت
السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره.
وأما العزى فكانت لأهل مكة
قريبًا من عرفات، وكان هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، وأما مناة فكانت لأهل
المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعلم كيف كانت
أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين
له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي r وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في
أخبار مكة وغيره من العلماء.
ولما كان للمشركين شجرة
يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا
ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: «الله أكبر إنها السنن لتركبن سنن من كان
قبلكم».
فأنكر r مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون
عليها معلقين عليها أسلحتهم فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟
إلى أن قال: فمن ذلك عدة
أمكنة بدمشق مثل مسجد يقال له: مسجد الكف فيه تمثال كف يقال: إنه كف علي بن أبي
طالب حتى هدم الله ذلك الوثن، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد وفي الحجاز
منها مواضع ثم ذكر كلامًا طويلاً في نهيه r عن الصلاة عند القبور فقال: العلة لما يفضي
إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد كأبي
بكر الأثرم وعللوا بهذه العلة وقد قال تعالى: }وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ
آَلِهَتَكُمْ وَلاَ
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا{ [نوح: 23].
ذكر ابن عباس وغيره من السلف
أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا
تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ذكر هذا البخاري في صحيحه، وأهل التفسير
كابن جرير وغيره.
ومما يبين صحة هذه العلة:
أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها
نجسًا. وقال عن نفسه: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، فعلم أن نهيه عن
ذلك، كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها سدًا للذريعة، لئلا يصلى في هذه
الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى
دعائها والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع، فإن من الناس من يسجد للشمس، وغيرها من
الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية. وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من
الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف بعض المشهورين
فيه كتابًا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة،
وأمثالهما، ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت، والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب،كما
قال تعالى: }أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ{ [النساء: 51]. انتهى
كلام الشيخ رحمه الله.
فانظر رحمك الله إلى هذا
الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن مثل الفخر
الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية؟
ومثل أبي معشر وهو من أكابر
المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام والفخر هو الذي ذكره
الشيخ في الرد على المتكلمين، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال: وهذه ردة صريحة باتفاق
المسلمين. وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
وتأمل أيضًا ما ذكره في
اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها،
وتأمل قوله على حديث ذات أنواط هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما
هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟
فهل للزائغ بعد هذا متعلق
بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم.
قال رحمه الله تعالى: أنا من
أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا
إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة،
وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى انتهى كلامه.
وهذه صفة كلامه في المسألة
في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل
الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وإذا بلغته حكم عليه بما
تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية.
وصرح t أيضًا
أن كلامه أيضًا في غير المسائل الظاهرة. فقال في الرد
على المتكلمين، لما ذكر أن
بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرًا قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية
فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر
عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله r بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة
الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن
هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم
الفواحش والربا والخمر الميسر، ثم تجد كثيرًا من رءوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين،
وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي «يعني
الفخر الرازي» قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين انتهى كلامه.
فتأمل هذا، وتأمل ما
فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله.
لكن من يرد الله فتنته فلن
تملك له من الله شيئًا.
على أن الذي نعتقده، وندين
لله به، ونرجو أن يثبتنا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذا المسألة، وهي
مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على
الموحدين، أو يزعم أنه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله
ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو
غلط من غلط، فكيف -والحمد لله- ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافًا في هذا
المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون: }قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى{ [طه: 51]- أو حجة قريش: }مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ{ [ص: 7].
قال الشيخ رحمه الله في
الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره r بقتالهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله r وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه
مع عبادته العظيمة، حتى أمر r
بقتاله، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام، أو السنة قد يمرق أيضًا من الإسلام في هذه
الأزمنة وذلك بأسباب:
منها: الغلو الذي ذمه الله
في كتابه حيث يقول: }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ{ [النساء: 171].
وعلي بن أبي طالب حرق
الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خُدَّتْ لهم عند باب كندة فقذفهم فيها، واتفق
الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول
أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء.
وكذلك الغلو في بعض المشايخ،
بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه.
فكل من غلا في نبي أو رجل
صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني، أو
ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب
صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده
لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة
أخرى مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام لم
يكونوا يعتقدون أنها تخلق
الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون صورهم،
ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله،
فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال
تعالى: }قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً{ [الإسراء: 56].
قال طائفة من السلف: كان
أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة -ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات ثم قال-:
وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل،
وأنزل به الكتب قال تعالى: }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ [النحل: 36]. وقال
تعالى: }وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ{ [الأنبياء: 25].
وكان النبي r يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل:
ما شاء الله وشئت قال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده»، ونهى عن
الحلف بغير الله وقال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، وقال في مرض
موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما
صنعوا وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، وقال: «لا تتخذوا قبري
عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني».
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على
أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب
عبادة الأوثان كانت تعظيم
القبور.
القبور.
ولهذا اتفق العلماء على أنه
من سلم على النبي r عند
قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا
يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي
لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه قال الله تعالى: }إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا{ [النساء: 116].
ولهذا كانت كلمة التوحيد
أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: }اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ{ [البقرة: 255].
وقال r: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا
الله دخل الجنة».
والإله هو: الذي تؤلهه
القلوب عبادة له، واستعانة به ورجاء له وخشية وإجلالاً انتهى كلامه رحمه الله
تعالى.
فتأمل: أول الكلام وآخره،
وتأمل كلامه فيمن دعا نبيًا أو وليًا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه
يستتاب فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان.
وتأمل كلامه في اللات والعزى
ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى.
وقال ابن القيم رحمه الله
تعالى في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر
لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله،
بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من
محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ
أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين.
وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا
منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسان «ديدنًا له» إن قام، وإن قعد،
وإن عثر، وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده،
وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون
بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر قال
الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء:
}أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى{ [الزمر: 3].
فهذا حال من اتخذ من دون
الله وليًا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من
لا يعادي من أنكره.
والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين
وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في
كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له ثم ذكر الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله-
فصلاً طويلاً في ذكر هذا الشرك الأكبر.
ولكن تأمل قوله: «وما أعز من
يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره» يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى
بها الملحد وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء
الله تعالى. وذكر في آخر
هذا الفصل أعني الفصل الأول
في الشرك الأكبر -الآية التي في سورة سبأ: }قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ{ [سبأ: 22]- إلى قوله: }إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ{ [سبأ: 23].
وتكلم عليها، ثم قال:
والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في
قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثًا هذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن.
قال عمر بن الخطاب t: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ
في الإسلام من لا يعرف الجاهلية».
هذا لأنه إذا لم يعرف الشرك
وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية،
فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة،
والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجرد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول
r
ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانًا فالله المستعان.
فصل
وأما الشرك الأصغر فكيسير
الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله
وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا
أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله تعالى- بعد
ذكر الشرك الأكبر والأصغر:
ومن أنواع هذا الشرك: سجود
المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير
الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله،
وابتغاء الرزق من عند غيره وإضافة نعمه إلى غيره.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من
الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع
عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له
إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد
إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد،
فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.
الميت محتاج إلى من يدعو له
كما أوصانا النبي r إذا
زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس
المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين
الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم
قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياء المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به
غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا أو أنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل
في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم عليه السلام
حيث يقول: }وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [إبراهيم: 35، 36].
وما نجا من شرك هذا الشرك
الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله.
انتهى كلامه.
والمراد بهذا: أن بعض
الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر
في أوله الأصغر وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول،
والثاني صريحًا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها:
أن دعاء الموتى والنذر لهم
ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي r بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه وقاتله
وعاداه، وآخر ما صرح به قوله آنفًا: وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر، إلى آخره.
فهل بعد هذا البيان بيان إلا
العناد، بل الإلحاد.
ولكن تأمل قوله -أرشدك الله-
وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره، وتأمل أن الإسلام
لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعاده فهو منهم وإن لم يفعله.
وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ
تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي
طالب t فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر.
طالب t فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر.
فإذا كان هذا حال من شك في
كفره مع معاداته له، ومقته له فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟
فكيف بمن جادل عنه، وعن طريقته، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا
بذلك؟ وقد قال تعالى: }وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنَا{ [القصص: 57].
فإذا كان هذا قول الله تعالى
فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله وعياله،
فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة؟
ولكن الأمر كما تقدم عن عمر t: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية
لهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا: }إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا{ [القصص: 57].
ومع هذا فالكلام الذي
يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل
الحق والصواب.
كما صرح به إمامهم في
الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده يقول:بيني وبينكم أهل هذه الأقطار، وهم خير
أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا.
فإذا كان يريد التحاكم
إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس فكيف أيضًا يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة؟
ما أحسن قول أصدق القائلين: }وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ{ [الذاريات: 7-9]، }بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{ [ق: 5].
فرحم الله امرأ نظر لنفسه
وتفكر فيما جاء به محمد r من
عند الله، من معاداة من أشرك بالله من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم حتى يكون
الدين لله.
الدين لله.
وعلم ما حكم به محمد r فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام، وما حكم
به في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب t
وغيرهم لما
حرقهم بالنار، مع أن غيرهم
من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق، والله الموفق.
وقال أبو العباس أحمد ابن
تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: وكل شر في العالم
إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك فلم
ينه عنه، بل يقر هؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما فقد يرجح غيره المشركين، وقد
يعرض عن الأمرين جميعًا فتدبر هذا فإنه نافع جدًا.
ولهذا كان رءوسهم المتقدمون
والمتأخرون يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك
ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيت
من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة، أنفس الأنبياء وغيرهم ما
هو أصل الشرك.
وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما
توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من
التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
فلو كانوا موحدين بالقول
والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من
أن يعبد الله وحده ويتخذ
إلهًا دون ما سواه، وهذا هو معنى قول: «لا إله إلا الله» انتهى
كلام الشيخ.
إلهًا دون ما سواه، وهذا هو معنى قول: «لا إله إلا الله» انتهى
كلام الشيخ.
فتأمل -رحمك الله- هذا
الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جدًا،
ومن أكبر ما فيه من الفوائد
أنه يبين حال من أقر بهذا الدين وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه
ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضًا، أو إيثارًا للدنيا مثل تجارة، أو
غيرها فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه كما قال تعالى: }ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا{ [المنافقون: 3]، وقال
تعالى: }مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ{[النحل: 106]، }ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى
الْآَخِرَةِ{ [النحل: 107].
فإذا قال هؤلاء بألسنتهم:
نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف به باطل، وأنه الشرك بالله غَرَّ
هذا الكلام ضعيف البصيرة.
وأعظم من هذا وأطم أن أهل
حريملا، ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، يستدلون
بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون، ويقولون ما هو من أكبر الردة
وأفحشها.
فإذا قالوا: التوحيد حق،
والشرك باطل، وأيضًا لم يحدثوا في بلدهم أوثانًا جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم
يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق ولا يضرهم عنده ما هم عليه من السب لدين
الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال، واليد واللسان، فالله
المستعان.
وقال أبو العباس أيضًا في
الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد
لها؟
هذا لم يعهد عن الخلفاء
والصحابة، بل قال الصديق لعمر t:
والله
لو منعوني عقالاً أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى
رسول الله r
لقاتلتهم على منعه، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن
طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم
سيرة واحدة، وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم
بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق t عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف
كما يتوقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتل المقرين بنبوة مسيلمة
فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم»
انتهى.
انتهى.
فتأمل كلامه رحمه الله في
تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة.
فهذا الذي ينسب عنه أعداء
الدين عدم تكفير المعين.
قال رحمه الله بعد ذلك:
«وكفر هؤلاء وإدخالهم في الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب
والسنة».
ومن أعظم ما يحل الإشكال في
مسألة التكفير والقتال، عمن قصد اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتل مانعي الزكاة،
وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في
الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين.
فهذه أول وقعة وقعت في
الإسلام على هذا النوع؛ أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الوقعات التي وقعت من
العلماء عليهم من عصر
الصحابة -رضي الله عنهم- إلى وقتنا هذا.
وقال الإمام أبو الوفاء بن
عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم
أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار
بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا
مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى
انتهى كلامه.
والمراد منه قوله: وهم عندي
كفار بهذه الأوضاع.
وقال أيضًا في كتاب الفنون:
«لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم
حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق
أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك
بقطع يد مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف
مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدًا لرمقك
وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب
إليك.
أيحسن لك مع هذا الإكرام أن
يراك على ما نهاك عنه منهمكًا ولما أمرك تاركًا؟ وعلى ما زجرك مرتكبًا؟ وعن داعيه
معرضًا، ولداعي عدوه فيك
مطيعًا؟
مطيعًا؟
يعظمك وهو هو، وتهمل أمره
وأنت أنت، هو حط رتبة عباده لأجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك.
هل عاديت خادمًا طالت خدمته
لك لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي؟
فإن لم تعترف اعتراف العبد
«للمولى» فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي.
ما أفحش ما تلاعب الشيطان
بالإنسان!! بينما هو بحضرة الحق سبحانه، وملائكة السماء سجود له، ترامى به الأحوال
والجهات إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو
لصورة ثور خار، أو لطائر صفر.
ما أوحش زوال النعم، وتغير
الأحوال والحور بعد الكور، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن
يرى إلا عابدًا لله في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف، وما
بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها». انتهى كلامه.
والمراد منه أنه جعل أقبح
حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله، ومثله بأنواع.
منها: السجود للشمس أو
للقمر، ومنها: السجود للصورة، كما في الصور التي في القباب على القبور، والسجود قد
يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض، كما فسر به
قوله تعالى:}وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا{ [النساء:
154].
قال ابن عباس: أي ركعًا.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان
في إنكار تعظيم القبور: «وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في
ذلك كتابًا سماه: مناسك المشاهد، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في
دين عباد الأصنام» انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن القيم
رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه فكيف ينكر تكفير
المعين؟
وأما كلام سائر أتباع الأئمة
في التكفير فذكر منه قليلاً من كثير.
أما كلام الحنفية فكلامهم في
هذا الباب من أغلظ الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال: مصيحف أو مسيجد، وصلى
صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك وقال في النهر الفائق: واعلم أن الشيخ قاسمًا قال في شرح
درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً
يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو
الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه -إلى أن قال-: وقد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد
الشيخ أحمد البدوي انتهى كلامه.
فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر
مع قوله: إنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على
إزالته.
وقال القرطبي: -رحمه الله-
لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام جمال
الملة أن مستحل هذا كافر، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله.
فقد رأيت كلام القرطبي،
وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه
بالإجماع بكثير.
وقال أبو العباس -رحمه
الله-: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال: كان
فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًّا.
فهذا إمام الحنفية في زمنه
حكى عن فقهاء بخارى جملة كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف يتظاهر بالإسلام.
وأما كلام المالكية في هذا
فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند
الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس، وقد ذكره القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من
ذلك طرفًا، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن
فيه بما لا نسبة بينه وبينه.
وأما كلام الشافعية فقال
صاحب الروضة رحمه الله: إن المسلم إذا ذبح للنبي r كفر.
وقال أيضًا: من شك في كفر
طائفة ابن عربي فهو كافر، وكل هذا دون ما نحن فيه.
وقال ابن حجر في شرح
الأربعين على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله» ما
معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابًا مستقلاً سماه:
الإعلام بقواطع الإسلام، ذكر فيه أنواعًا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها
ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه.
وتمام الكلام في هذا أن يقال
الكلام هنا في مسألتين:
الأولى: أن يقال: هذا الذي
يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات، والجن، من
التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي
فعله قوم نوح، ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث
الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليه ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين
كله لله، أم هذا شرك أصغر، وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟
فاعلم أن الكلام في هذه
المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك
الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل وابن خالد،
مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون
بأن أهله لم تبلغهم الدعوة.
وتارة يقولون: لا يكفر إلا
من كان في زمن النبي r.
وتارة يقولون: إنه شرك أصغر،
وينسبونه لابن القيم -رحمه الله- في
المدارج كما تقدم.
وتارة لا يذكرون شيئًا من
ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء
الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة.
وجواب هؤلاء كثير من الكتاب
والسنة والإجماع؛ ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك
الأكبر، وأيضًا إقرار غيرهم من علماء الأقطار، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد
أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدًا من الإقرار به لوضوحه.
المسألة الثانية: الإقرار
بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به، إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب
الرسول، والقرآن واتبع يهودية أو نصرانية، أو غيرها.
وإلا فالمسألة الأولى، قل
الجدال فيها، ولله الحمد لما وقع إقرار علماء
الشرك بها.
الشرك بها.
فاعلم: أن تصور هذا المسألة
تصورًا حسنًا يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين.
الأول: أن مقتضى قولهم أن
الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها من التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن
الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان كاليهود،
فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول: لا
إله إلا الله، ويصلي ويفعل
كذا وكذا لم يكن للشرك
وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، أو العمى، أو العرج، فإن
كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر، وهذه فضيحة عظيمة
كافية في رد هذا القول
الفظيع.
الفظيع.
الوجه الثاني: أن معصية
الرسول r في
الشرك، وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية،
فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول r، ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك مع أنه
يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول أن هذا كافر من غير
نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء، ولكن لغلبة الجهل، وغربة العلم، وكثرة من
يتكلم بهذه المسألة من الملحدين اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين
الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن
عليك بالإيمان الثابت ويجعلك أيضًا من الأئمة الذي يهدون بأمره».
فمن أحسن ما يزيل الإشكال
فيها، ويزيد المؤمن يقينًا ما جرى من
النبي r، وأصحابه رضي الله عنهم، والعلماء بعدهم -رحمهم الله- فيمن انتسب إلى الإسلام كما ذكر أنه r بعث البراء t، ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله؛ ومثل همه بغزو بني المصطلق، لما قيل: إنهم
منعوا الزكاة.
النبي r، وأصحابه رضي الله عنهم، والعلماء بعدهم -رحمهم الله- فيمن انتسب إلى الإسلام كما ذكر أنه r بعث البراء t، ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله؛ ومثل همه بغزو بني المصطلق، لما قيل: إنهم
منعوا الزكاة.
ومثل
قتال الصديق وأصحابه رضي الله عنهم لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم،
وتسميتهم مرتدين، ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر t على
تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا،
لما فهموا من قوله تعالى: }لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا{ [المائدة: 93]. حل الخمر
لبعض الخواص، ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان t على
تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف
الصحابة في قبول توبتهم.
ومثل تحريق علي t أصحابه لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين
مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه
يطالب بدم الحسين وأهل البيت.
ومثل إجماع التابعين، ومن
بعدهم على قتل الجعد بن درهم، وهو مشهور بالعلم والدين، وهلم جرا من وقائع لا
تعد ولا تحصى.
ولم يقل أحد من الأولين
والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره: كيف تقاتل بني حنيفة وهم يقولون: لا إله إلا
الله، ويصلون ويزكون؟
وكذلك لم يستشكل أحد تكفير
قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا، وهلم جرا إلى زمن بني عبيد القداح، الذين ملكوا
المغرب ومصر والشام وغيرهما، ومع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة، والجماعة، ونصب
القضاة، والمفتين لما أظهروا الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل
العلم والدين قتالهم، ولم يتوقفوا فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن
الجوزي كتابًا لما أخذت مصر منهم سماه: النصر على مصر.
ولم يسمع أحد من الأولين
والآخرين: أن أحدًا أنكر شيئًا من ذلك، أو استشكله لأجل ادعائهم الملة، أو لأجل
قول لا إله إلا الله، أو لأجل شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعناه من هؤلاء
الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ولكن من فعله، أو حسنه، أو
كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر
لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام، هذا ويستدلون بأن النبي r سماها الإسلام هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء
الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم
يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه، ولكن الأمر كما قال اليمني في
قصيدته:
أقاويل لا تُعزى إلى عالم فلا
|
|
تساوي فلسًا إن رجعت إلى النقد
|
ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في
صحيحه حيث قال:
للحصول علي الكتاب الكامل تابع الرابط اسفل المقال .
تحميل كتاب فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد PDF من هنا